قراءة في مسيرة الفنان عبد اللطيف العسري: عصامي التكوين رسّخ مكانته كفنان متعدد المهارات، يزاوج بين الشغف بالمهنة وتجديد أدواته

وُلد الفنان عبد اللطيف العسري في الثالث عشر من يونيو/حزيران سنة 1970، في قلب حومة الحفارين القريبة من سينما الهلال بمدينة فاس؛ ذلك الفضاء الشعبي النابض بالحركة والذي شكّل أولى ملامح وعيه بالعالم، وبعد عامين فقط، انتقلت أسرته إلى حيّ البليدة، وتحديدًا درب السّفر، حيث تابع تعليمه الابتدائي بمدرسة الحي(البلدية، اليوم اسمها مدرسة معركة الدشيرة)، ليترعرع في محيط سيترك بصمته العميقة في تكوين شخصيته الفنية والإنسانية، كان حيّ البليدة آنذاك أشبه بورشة كبرى مفتوحة على كل ألوان الحياة، في قلبه تنتصب دار الدبغ “شوارة”، تلك المعلمة التاريخية التي تضجّ بروائح الجلود، وأصوات المعلمين، وحركة الصناع التقليديين، بين النحاس والجلد، وبين الأصباغ والأحواض، تعلّم العسري مبكرًا معنى الصبر والدقة، وكيف تنبع الجمالية من العرق والمهارة، كما كان محاطًا بحرفيين مهرة من مختلف الأعمار، يشكل كل واحد منهم مدرسة قائمة بذاتها، يقدّم دروسًا غير مكتوبة في الحرفة والفن وطرائق العيش. ومع حلول العطل المدرسية، لم يكن الصبي عبد اللطيف يكتفي باللعب، بل كان يقصد المعلمين في الورشات ليتعلم ما يستطيع من فنون الصناعة التقليدية، أو يتوجّه نحو دار الدبغ لنقل الجلود الخفيفة الجاهزة إلى “الدلالة”، سوق الجلد الشهير، مقابل دريهمات قليلة كانت تكفيه لشراء الحلوى أو وجبته الشعبية المفضّلة بفاس “المقروطة” المحشوة في نصف خبزة، تلك اللقمة التي بقي طعمها عالقًا في ذاكرته كجزء من ألفة المكان ودفء الطفولة.

غير أنّ حيّ البليدة لم يكن مجرد فضاء للصناعة التقليدية وحدها، وإنما كان أيضًا مركزًا نابضًا بالفنون الشعبية وفضاءات الفرجة، فقد احتضن نخبة من روّاد فن “الكباحي” والملحون، إلى جانب عدد من “الدرازات” التي شكّلت جسورًا حيّة بين الإبداع التقليدي والفنون المعاصرة، وكان الأهم بالنسبة لعبد اللطيف وجود نادي للمسرح تابع لجمعية المسرح الشعبي بدرب سيدي عمر الصقلي بشوارة حي البليدة، وهو فضاء جمع نخبة من الفنانين والممثلين الذين سيصبحون فيما بعد علامات مضيئة في المسرح الفاسي، أمثال أحمد البوراشدي، حميد عمور، إدريس الشوكة (الفيلالي)، عبد الرحيم الأزق، الطاهر الغياتي، عبد الله الهاروشي، وعبد الله المستحيي، وغيرهم من الأسماء التي شكّلت ذاكرة حيّة للخشبة المغربية. في هذا المحيط الغني، تشكّلت أحلام عبد اللطيف العسري، وتشرّب الحسّ الفني مبكرًا، فكان للحي، ولرواده، ولمعالمه، الفضل الأكبر في نحت ملامح الفنان الذي سيصبح عليه لاحقًا؛ فنانًا خرج من عمق فاس الشعبية، حاملاً بصمتها وروحها في كل عمل ينجزه.

كان عبد اللطيف، منذ سنواته الأولى، يجد نفسه مشدودًا إلى ذلك العالم السحري القابع خلف نافذة نادي المسرح الشعبي في الحي، كانت النافذة تُطل على قاعة صغيرة، لكنها في مخيّلته كانت أوسع من الكون نفسه، كان الأطفال والشباب يتجمعون كل مساء، يتبادلون الهمسات والضحكات، فيما تتسلّل إليهم أصداء التداريب المسرحية كأنها وعدٌ بعالم آخر. غير أن عبد اللطيف، بشغفه المبكر، لم يكن مجرّد متفرج عابر؛ كان يأتي أول الحاضرين، يسبق الجميع بخطواته الصغيرة لكن بشغف كبير، فقط ليضمن لنفسه مكانًا قريبًا من الباب، حيث يستطيع أن يلتقط كل لحظة، وكل حركة، وكل نَفَس يؤديه الممثلون على الخشبة، كان المسرح بالنسبة إليه فسحة للدهشة ومتّسعًا لأحلامه التي لم تتبلور بعد، يقف أمام باب النادي، مبهورًا بتلك الأصوات المنبعث من الداخل، وكأنه يطلّ على سرّ يتمنى أن يُكشف له، وفي أحد تلك الأيام التي غيرت مسار حياته، حدث ما لم يتوقعه قط، خلال أحد التداريب، تقدّم ممثل من المجموعة باتجاهه، أمسك بيده الصغيرة، وصعد به مباشرة إلى الخشبة، تلك الخطوة البسيطة زرعت في روحه بذرة لم تكفّ عن النمو بعد ذلك، كانت تلك اللحظة، كما يتذكرها جيدا، بمثابة الولادة الحقيقية لعبد اللطيف داخل عالم المسرح، أسندت إليه آنذاك مشاركة بسيطة في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان”، عن نص الراحل السوري سعد الله ونوس، وإخراج الراحل أحمد البوراشدي،. لم يكن يدرك كامل رمزية ونوس، ولا فهم ثقل النص أو جماليات الإخراج، لكنه كان يتذوق الفن بحواس الطفولة كلّها، حماسة، وخوفًا جميلاً، ودهشة صافية. ومع ذلك، فإن أكثر ما رسخ في ذاكرته إلى اليوم هو تلك الجملة التي طُلب منه ومن مجموعة من أطفال الحي ترديدها بصوت واحد:”حْنا الفقرا ولاد الحومة، آ با الكبير حَنّ علينا بغناك، تفرّجنا بغناك، تسلّينا بغناك، تنسّينا الهموم اللي فينا.” كان لتلك الكلمات وقعٌ خاص في نفسه؛ فهي تنتمي إلى بيئته، إلى صوته الداخلي، وتنساب كأنها جزء من نبض الحيّ الذي تربّى فيه، ترديدها على الخشبة منحه إحساسًا بأنه لا يمثل فقط، بل يُعلن حضورًا جديدًا داخل عالم لم يكن يظن أنه سيكون يومًا من أهله.

قُدّم العرض بدار الشباب القدس عام 1982، وكانت القاعة يومها تغلي بالحياة، الجمهور يحتشد، والأضواء تشتعل، والديكور البسيط يتحول إلى فضاء ساحر حين تمسه حركة الممثلين. هناك، وسط تلك الأجواء، أحسّ عبد اللطيف لأول مرة أن المسرح ليس مجرد فرجة تُستهلك، وإنما كيان حيّ يُولد في كل لحظة، ويمنح من يلامسه قدرة غريبة على الحلم، ومن تلك الأمسية، كان يمكن القول إن الرحلة قد بدأت، رحلة طفل خرج من باب النادي ليعود إليه من جديد، لا بصفته متفرجًا، ولكن باعتباره واحدًا من أبناء جمعية المسرح الشعبي للتمثيل والموسقى والرقص، كان هذا هو اسمها في بطاقة العضوية والتي يحتفظ عبد اللطيف بها إلى اليوم، ومن غير تخطيط أو وعي، وُلدت علاقة طويلة وعميقة بين عبد اللطيف والمسرح، علاقة امتدت جذورها منذ تلك الخطوة الصغيرة على الخشبة الأولى، ولا تزال تنبض في ذاكرته حتى اليوم.

من جهة أخرى، لم تكن علاقة عبد اللطيف بالمسرح حبيسة مقر النادي وحدها؛ فقد امتدّ شغفه إلى المدرسة أيضًا، حيث كان واحدًا من أبرز المشاركين في احتفالات عيد العرش بمدرسة البليدة، وسط فناء المدرسة وأروقتها، بدأ يلمع كصاحب موهبة فطرية في الأداء والابتكار، حتى أسندت إليه مهمة الإشراف على العروض المسرحية التي كانت تُقدَّم في تلك المناسبات الوطنية، كان يتعامل مع تلك المهمة بكثير من الجدية، وكأن الأمر أكبر من مجرد نشاط مدرسي؛ كان يعتبر كل عرض تمرينًا جديدًا على صقل موهبته، وكل تصفيق يعلو في الفضاء دعوة للاستمرار. بهذه الخطوات الصغيرة التي تراكمت بعمق، بدأت تجربة عبد اللطيف تكبر وتنضج، إلى أن جاءت سنة 1983 لتفتح أمامه بابًا جديدًا، في تلك السنة شارك في مسرحية “سينمار والنار والحصار” من اعداد وإخراج الفنان الراحل محمد أنوار،  لم يكن مجرد ممثل يتلقى جُملاً ويحفظ حركاته، وإنما كان جزءًا من الورشة واسعة المعنى التي تُنشئ عرضًا مسرحيًا من العدم، أُسنِد إليه دور في العمل، لكنه لم يكتفِ به؛ انخرط في البحث عن الإكسسوارات المناسبة، وجمع قطع الديكور، وإحضار الخشب، والمساهمة في ضبط الإنارة، لقد وجد نفسه لأول مرة داخل النسيج الحيّ لعملية الخلق المسرحي بكل تفاصيلها، من خشبة تتشكل، إلى فضاء يُضاء، إلى عالم يُولد، هذه التجربة الثرية منحت عبد اللطيف ثقة إضافية جعلت أعضاء النادي الثقافي يثقون بقدرته على تحمّل المسؤولية، ومع مرور الوقت، أصبح هو المسؤول الفعلي عن النادي، خصوصًا وأنه يقع على مرمى خطوات من بيت أسرته، كان وجوده الدائم يجعل المكان مفتوحًا للجميع، شبابًا يبحثون عن موطئ قدم في الفن، وضيوفًا يزورون النادي بفضول أو رغبة في التعاون، وكان عبد اللطيف يستقبلهم بابتسامته المعتادة وسخائه المعنوي، حتى صار وجهًا مألوفًا ومحبوبًا لدى كل من يرتاد النادي. وهكذا، لم يكن صعوده في عالم المسرح وليد صدفة، بل ثمرة مسار طويل بدأ من ساحة المدرسة، مرورًا بعروض صغيرة لكنها جوهرية، وصولاً إلى ممارسة شاملة جعلته ممثلاً وصانع ديكور ومشرفًا ومسؤولاً عن فضاء مسرحي نابض بالحياة، لقد كان عبد اللطيف، منذ بداياته، يبني نفسه خطوة خطوة، ويُتقن فنّ أن يفتح بابًا جديدًا كلما ضاق به الباب القديم.

واصل عبد اللطيف مساره المسرحي بخطوات واثقة، تفتح له الأبواب وتكشف له أسرار الخشبة شيئًا فشيئًا، بعد تجاربه الأولى، جاءت مشاركته في مسرحية “التوبة”، التي قُدمت في فضاء متحف البطحاء، المعروف آنذاك بدار السلاح، وفي نادي الصناع التقليديين خلال سهرات رمضانية تجمع بين الفن والروحانيات، كان الفضاء التاريخي للمتحف يمنح العرض هيبةً خاصة؛ حجارة البطحاء العتيقة، وأنسام رمضان، وضوء الفوانيس المتسلل بين الأقواس، كل ذلك شكّل لوحة مسرحية لا تُنسى، وكان عبد اللطيف أحد عناصرها المتألقة. وفي إحدى المشاركات بدار الشباب القدس، حدثت واقعة ستظل راسخة في ذاكرته كعلامة فارقة، فقد حصلت الفرقة على جائزة غير مألوفة، عبارة عن” صينية” فضية مملوءة بالكتب، هدية رمزية تعكس قيمة المعرفة التي يجسدها المسرح. بعد توزيع الكتب بالتساوي بين أعضاء الفرقة، بقيت الصينية نفسها دون صاحب، وهنا بدأ نقاش ودي سرعان ما تحوّل إلى اختلاف حول من يستحق الاحتفاظ بها، غير أنّ المخرج والرئيس، أحمد البوراشدي رحمه الله، حسم الأمر بحنكة؛ حمل الصينية بين يديه وتوجه نحو عبد اللطيف، ثم قدّمها له أمام الجميع قائلاً إنّها عربون تقدير لجهوده وتفانيه، دوّى التصفيق في القاعة اعترافًا بمكانته داخل الفرقة، وكانت تلك اللحظة أشبه بتتويج معنوي ما يزال يحتفظ بذكراه، بل وبالصينية ذاتها، إلى يومنا هذا. لم يتوقف مسار عبد اللطيف عند هذه المحطة، بل واصل بناء تجربته عبر انخراطه في مسرحية “الكْناوي” مع الفنان إدريس الشوكة، برفقة مجموعة من الشباب المتحمّسين، يذكر منهم، توفيق لمعلم، هشام بن شقرون، اناس بنشقرون، حميد الفريزي، ومحمد السوسي، شكّلت هذه التجربة فرصة له لتطوير أدواته الفنية، خصوصًا في التعامل مع الأجواء الطقوسية التي تطبع عالم الكناوة، حيث تتداخل الموسيقى والحركة والدلالات الروحية في توليفة تحتاج إلى حس مرهف وقدرة عالية على الاندماج. ثم جاءت مشاركته في موسم مولاي إدريس، أحد أهم المواسم التراثية في فاس، من خلال مسرحية “الكعدة والشفق” مع الفنان حميد عمور، في فضاء متحف البطحاء نفسه. كان العرض جزءًا من الفعاليات الاحتفالية التي تستقطب جمهورًا واسعًا، مما منح عبد اللطيف تجربة مسرحية حيّة أمام جمهور متنوع وذواق، كما كان له حضور لافت في مسرحية “دار بوعلي”، التي لم يكتفِ فيها بتمثيل دور، بل تولى أيضًا مهمة إنجاز الديكور والتنسيق التقني للعرض. كان يتحرك بين الخشبة والكواليس بنفس الحماس، يثبت قطعة ديكور هنا، ويعدّل الإضاءة هناك، ثم يعود ليقف في مكانه كممثل واثق يعرف كيف يصنع حضوره.

كانت سنوات أواخر ثمانينيات القرن المنصرم تحمل بين طياتها منعطفًا حادًّا لمسار عبد اللطيف المسرحي، فقد حلّت الطامّة الكبرى حين تم بيع مقر نادي المسرح الشعبي بعد فترة طويلة من الإهمال وتراكم ديون الكراء في أواخر سنة 1987. كان المقرّ بالنسبة لأعضاء النادي أكثر من مجرد فضاء؛ كان ذاكرة حيّة، وورشة دائمة، ومأوى لأحلام جماعية شُيّدت عبر سنوات من الشغف والعمل، سقوطه كان أشبه بانطفاء مصباح ظلّ يضيء الحي، فوجدت المجموعة نفسها مضطرة إلى الرحيل، حاملة ما تبقى من الأمل والذكريات. انتقل عبد اللطيف ورفاقه إلى دار الشباب السياج، وهناك ستتفتح أمامهم آفاق جديدة من خلال التعرف على جمعية الاتحاد الفني، التي كان يقودها ثلة من الفنانين، الراحل عبد العزيز الساقوط، وشكيب زويتن، ورشيد الشيخ، ومحمد ماء الزهر، وإدريس العطار، كان هذا اللقاء بمثابة ولوج إلى شبكة مسرحية أوسع، وحاضنة جديدة للمواهب التي رفضت أن تستسلم لخيبة فقدان مقرّها الأول. في هذا السياق، شارك عبد اللطيف سنة 1989 في مسرحية “بودلير” من إخراج إدريس العطار، كانت التجربة مختلفة في روحها وبنائها، فالنص مستوحى من عالم شعري كثيف، والإخراج يقوده مخرج يهوى التجريب. وجد عبد اللطيف نفسه أمام تحدٍّ فني جديد، يلامس فيه مساحات أعمق من الأداء والتعبير، وينفتح على أساليب مختلفة عمّا اعتاده في نادي المسرح الشعبي. لم يكد العرض ينتهي حتى وصل اتصال جديد يفتح بابًا آخر للمغامرة، دعوة للمشاركة في ملحمة وطنية ضخمة من إنتاج الاتحاد الإقليمي لمسرح الهواة برئاسة الأستاذ محمد عادل، على خشبة سينما أمبير بفاس، كانت تجربة الملاحم الوطنية آنذاك مدرسة قائمة بذاتها، تجمع ممثلين من خلفيات متعددة، وتستلزم قدرة كبيرة على الانضباط والعمل الجماعي والتناغم في أداء جماهيري واسع. وفي كواليس هذه الملحمة تعرّف عبد اللطيف على الفنان الراحل محمد المريني، أحد الوجوه المسرحية البارزة، ورئيس جمعية نادي الكوميديا بدار الشباب البطحاء، ترك المريني أثرًا بالغًا في حياة عبد اللطيف، ليس فقط لخبرته الفنية، بل لروحه العملية وحبه للأطفال والمسرح التربوي، سرعان ما دعا عبد اللطيف إلى المشاركة في أعماله، ومنها مسرحية “مثل دورك” ومجموعة من عروض مسرح الطفل والألعاب السحرية،  كان المريني ينظم جولات أسبوعية عبر دور الشباب بفاس كل يوم أحد، يجوبها بعروض خفيفة وممتعة للأطفال، حاملاً فرجة متنقلة تُعيد البسمة وتعيد للمسرح دوره التربوي. وهكذا، تحوّل سقوط المقر القديم من مأساة إلى نقطة انطلاق جديدة.، فبين دار الشباب السياج وجمعية الاتحاد الفني ومواسم الأعمال الوطنية ورفقة المريني، وجد عبد اللطيف نفسه يُعاد تشكيله كفنان، موسّعًا خبراته، ومتعمّقًا في أساليب جديدة، ليواصل رحلته بثبات رغم كل العواصف.

مع نهاية ثمانينيات القرن المنصرم وبداية تسعينياته، بدأت ملامح جديدة تتشكّل على الساحة المسرحية المغربية، حيث طفت إلى الواجهة ظاهرة الثنائيات التي تقوم على التناغم بين فنانين يشتركان في الحس الكوميدي أو الإبداعي ويقدّمان عروضًا خفيفة ورشيقة للجمهور. في هذا المناخ الفني المتحوّل، شكّل عبد اللطيف مع الفنان عبد الله الدوردي واحدًا من هذه الثنائيات التي استطاعت أن تجذب الجمهور في السهرات الرمضانية وغيرها من المناسبات الثقافية. كانا يقدّمان عروضًا تنبض بالحيوية، تجمع بين الارتجال المرح والأداء المتناسق، مما جعلهما وجهين مألوفين في عدة فضاءات مسرحية، ومع تراكم التجارب، انفتح عبد اللطيف على مجال جديد أشبه بمدرسة قائمة بذاتها، تنشيط الأطفال، وهنا سيشكل ثنائيًا آخر، هذه المرة مع الفنان سعيد الفرحي، ليشرعا معًا في جولات واسعة عبر رياض الأطفال في ربوع جهة فاس. كانت تلك الجولات بمنزلة ورشات فرجة متنقلة، تزرع البسمة في نفوس الأطفال وتمنح عبد اللطيف خبرة إضافية في أساليب الأداء التربوي واللعب الدرامي. في تلك المرحلة، بدأ يكتشف قوة المسرح في مخاطبة العقول الصغيرة، وكيف يمكن للحكاية واللعبة والخيال أن تتحوّل إلى أدوات تعليمية وترفيهية في آن واحد. وفي عام 1993، شعر عبد اللطيف بأن تجربته باتت جاهزة لتتخذ شكلًا مؤسساتيًا، فأسّس جمعية فاس المدينة للثقافة والفن، واضعًا نصب عينيه هدفًا واضحًا، خلق كيان مسرحي مستقل قادر على إنتاج أعمال فنية ذات رؤية، كان أول عمل يراه النور تحت مظلة الجمعية مسرحية “الكروح”، كتابة عبد النبي الرياحي وإخراج حميد عمور، رحمهم الله. شكّل هذا العمل لحظة مفصلية، إذ جمع بين جودة النص وقوة الإخراج وحماس الفرقة الصاعدة. بعد نجاح مسرحية “الكروح”، توالت الأعمال المسرحية، فكان من أبرزها مسرحية “سوق الفراجة” من إخراج الفنان محمد أنوار، ثم الملحمة الوطنية “مولد فاس”، التي كتبها محمد بلحاج وأخرجها الراحل محمد أنوار، لتجسّد تاريخ المدينة العريقة وروحها الحضارية في قالب مسرحي ملحمي، وفي خضم هذه الأعمال، ما يزال عبد اللطيف يتذكر بحنين تلك الحادثة الطريفة التي وقعت أثناء التحضير لعرض “سوق الفراجة” بمدينة تيسة،  فبينما كانت الفرقة تستعد لتقديم العرض، فوجئت بغياب الممثلة الرئيسية دون سابق إنذار، كانت اللحظة حرجة، والوقت لا يسمح بالتراجع أو الإلغاء، عندها تقدّم عبد اللطيف دون تردد، وتولى أداء الدور الغائب بكثير من المهارة والمرونة، وقف على الخشبة بثقة، وأدى الشخصية بكامل تفاصيلها وكأنه تمرّن عليها لأسابيع، وما أدهش الجميع أن الجمهور لم ينتبه نهائيًا لحدوث أي تغيير في توزيع الأدوار، إلى أن أعلن اسمه في نهاية العرض، ليدرك الجمهور أن الممثل ذكر، وليكتشف حجم الجهد والإبداع الذي بذله عبد اللطيف لإنقاذ الأمسية، وهكذا، يظهر في كل محطة من مسار عبد اللطيف أن حضوره لم يكن حضورًا عابرًا، وإنما حضور فنان قادر على العطاء في كل موقع: ثنائيًا، منشطًا، مؤسسًا، ممثلاً، ومُنقذًا للعروض عند الحاجة؛ حضورٌ مبني على حب عميق للمسرح وإيمان بأن الخشبة لا تخيب عشاقها.

قدمت جمعية فاس المدينة للثقافة والفن برئاسة الفنان عبد اللطيف العسري العديد من المسرحيات أهماها: “قاضي الجوقة”، ثم مسرحية “اللعب “، ومسرحية “الغايب” من تأليف المرحوم محمد الكغاط، اعداد وإخراج يوسف السقاط سينوغرافيا واشراف عبد اللطيف العسري خلالي موسمي 2003 و2010، 2012، ثم مسرحية “المستلب” تأليف الدكتور عبد الفتاح أبطاني، اعداد واخراج وتشخيص يوسف السقاط سينوغرافيا واشراف عبد اللطيف العسري.

بعد سنواتٍ من الانشغال بالمشهد الثقافي المحلي، تبلورت لدى عبد اللطيف فكرةُ إحداث مهرجانٍ مسرحي يخصّ فاس المدينة، فكانت الشرارة الأولى سنة 2009 بدار الشباب البطحاء، حيث وُضِع الأساس لفعالية صغيرة حملت حلمًا كبيرًا، سرعان ما أخذ ينمو عامًا بعد عام، مدعومًا بإصرار المنظمين وحيوية الفاعلين المسرحيين، إلى أن غدا مهرجانًا راسخًا بلغ دورته الثانية عشرة سنة 2019، مؤكّدًا مكانته كإحدى أبرز المحطات الفنية في المدينة. ولم يتوقف المسار عند حدود التنظيم، بل انفتح عبد اللطيف على تجربة احترافية أعمق من خلال انخراطه في فرقة محترف فاس لفنون العرض. وقد شكلت هذه المرحلة نقلة نوعية في مسيرته، إذ شارك في إنتاج أعمال مسرحية متميزة مثل: “ذاكرة الملحون”، و”الكناوي”، و”الصالحة”، و”الشابة والشايب”، و”مولات السر”، و”تسلا لكلام”، و”يا ليل يا عين”، وكلها من اخراج حميد الرضواني وهي أعمال تتنوع موضوعاتها وتقنياتها، وتعكس حيوية المسرح المعاصر بفاس، وقد وجدت طريقها إلى الجمهور العريض عبر بثها على القناة الأولى المغربية، مما عزز حضور الفرقة وأبرز قيمة التجربة الإبداعية التي خاضها.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

في المجال السينمائي، شكّلت سنة 1991 محطة مفصلية في مسار عبد اللطيف العسري، حين شارك في فيلم “البحث عن زوج لمرأتي” للمخرج عبد الرحمن التازي، وهي التجربة التي فتحت أمامه الباب لأول احتكاك فعلي بعالم السينما وتقنياتها، لم تكن المشاركة مجرد ظهور عابر، وإنما كانت شرارة أولى أيقظت فيه شغف الصورة وحب الاكتشاف، وبعد هذه المحطة، اختار أن يقتحم عالم التصوير بجرأة، فاقتنى كاميرا بسيطة وبدأ يوثق بها الحفلات والمناسبات العائلية، مستكشفًا بخطوات ثابتة أسرار المونتاج وتقاطعات الضوء والظل وزوايا الاطار(الكادر)، وجاءت محطة ثانية لا تقل أهمية حين التقى من جديد بصديقه ورفيق دربه توفيق لمعلم بعد سنوات من البعد، وكان اللقاء في مقاطعة جنان الورد بمثابة إعلان لبداية مرحلة جديدة. هناك انطلقت مغامرتهما في تصوير الفيلم القصير “لنغير سلوكنا”، وهو عمل حقق نجاحًا لافتًا وفتح أمامهما آفاقًا جديدة، كان هذا النجاح دافعًا قويًا لعبد اللطيف كي يوسع أدواته، فشرع في شراء معدات احترافية للتصوير، وأسس أستوديو متكاملًا للمونتاج، ليخلق بذلك دينامية سينمائية داخل المدينة، ويطلق موجة من إنتاج الأفلام القصيرة تجاوزت ثلاثين فيلمًا للهواة شاركت في مهرجانات وطنية ودولية، ولفتت الأنظار إلى قدرته على الجمع بين الحس الفني والانضباط التقني. لم يكتفِ عبد اللطيف بالإنتاج والتصوير فقط، وإنما خاض تجربة الإخراج، فقدم فيلمه “الصالحة والرايس”، مؤكّدًا نضجه وتعدد مواهبه، كما رافق المخرج الكبير عبد الرحمن التازي في مجموعة من أعماله، مشاركًا في تنفيذ مشاهد وتقنيات تصوير ضمن أفلام مثل “البايرة” و”فاطمة المرنيسي”، وسلسلة “الصافية والحسين”، إضافة إلى شريط “الترقية” كما عمل في فيلم “الأعمى والهجرية” لعز العرب العلوي، وفي فيلم “الباير” لرشيد الشيح، ليكتسب من هذه التجارب خبرة واسعة في إدارة مواقع التصوير وفهم آليات الصناعة السينمائية الاحترافية. وإلى جانب ذلك، اشتغل مع شركات إنتاج في إنجاز مجموعة من الإشهارات السياحية، كما شارك في عدة أعمال سينمائية أجنبية صُورت في المغرب، ما أتاح له فرصة التعامل مع مدارس تصوير مختلفة وتكنولوجيات متقدمة، ورسّخ مكانته كفنان متعدد المهارات، يزاوج بين الشغف بالمهنة والبحث الدائم عن تجديد أدواته وتوسيع آفاقه داخل المشهد السينمائي المغربي والدولي.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

يُعدّ الفنان عبد اللطيف العسري واحدًا من الوجوه التي شقّت طريقها بعرق الجبين وبصمت المبدعين الحقيقيين، فهو فنان عصامي التكوين، لم ينتظر أن تُفتح له الأبواب، بل صقل تجربته بنفسه، متنقّلًا بين التمثيل والتنظيم والبحث في مسالك التقنيات والتصوير، يلتقط المعرفة من تفاصيل الأشياء، ويحوّل الفضول إلى خبرة، والخبرة إلى رصيد فني متين. يمتلك قدرة فريدة على التفكير في هدوء، دون ضجيج أو ادعاء، كأنه يمارس التأمل قبل اتخاذ أي مبادرة، فيمنح كل خطوة ما تستحقه من عناية وعمق، تجده دائم الاستعداد لمدّ يد المساعدة، لا يتردد في دعم كل من يلجأ إليه، سواء كان مبتدئًا يبحث عن أول خيط في طريق الإبداع أو محترفًا يفتّش عن حلّ لمعضلة تقنية أو فنية، يُحسن الإصغاء، ويُتقن قراءة ما بين السطور، فيُعين الآخرين على تجاوز العقبات كما لو أنّه يزيل الأحجار عن دروبهم واحدة تلو الأخرى، ولأنّه جرّب بنفسه صعوبة البدايات، أصبح قريبًا من كل المبتدئين، يشجّعهم، ويوسّع أمامهم آفاق التفكير، ويكشف لهم ما استعصى عليهم من أدوات العمل ومهارات الأداء. مرّ عبد اللطيف في مساره الفني بمحطات رافق فيها كبار المسرحيين والسينمائيين، لا لينسخ تجاربهم، وإنما ليفهم طرائق اشتغالهم ويستوعب أسرار حرفتهم، كان يمشي بينهم كمن يجمع حبات ضوء من كل تجربة، فيحوّلها إلى معارف متراكمة تعمّق رؤيته وتغذي اختياراته، وهكذا اكتسب قدرة على المزج بين الحس الفني والوعي التقني، بين روح الممثل وصرامة المنظّم ودقّة الباحث في الكواليس الخفية للإبداع. يمتاز عبد اللطيف أيضًا بحسّ الهمس الفني؛ فهو لا يصنع ضوضاء حول نفسه، بل يترك أعماله تتحدث عنه، يقول كلمته ويمضي، يحمل في داخله عشقًا أصيلًا للمسرح والسينما، يقوده إلى مواصلة التعلم والانفتاح على أساليب جديدة، وإلى خوض تجارب تتجاوز الأطر التقليدية. إنّه فنان تحركه قناعة راسخة بأن الإبداع رحلة لا تنتهي، وبأن الفنّ مسار للارتقاء الروحي والمعرفي قبل أن يكون مجرّد مهنة، بهذه الروح، استطاع عبد اللطيف العسري أن يرسّخ لنفسه مكانة مميزة، ليس فقط كفنان متعدد المهارات، ولكن كإنسان ينسج علاقته بالفن والناس من خيوط الطيبة والمثابرة والالتزام الصادق.

OLYMPUS DIGITAL CAMERA

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى