قراءة في مسيرة الفنان عادل بنكرينة: من الموسيقى إلى المسرح فالسينما رؤية إبداعية للمخرج والواقع العملي للتنفيذ

وُلد الفنان عادل بنكرينة في 14 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1978 بمدينة فاس، العاصمة العلمية للمغرب، وتحديدًا في درب بوطويل بحي فاس الجديد، قرب القصر الملكي. نشأ في أسرة متواضعة، التحق بـالكتاب القرآني”المسيد” في سن الرابعة، ثم بمدرسة باب ريافة للبنات، وواصل تعليمه في الإعدادية عزيز أمين، قبل أن يلتحق بثانوية القرويين حيث نال شهادة الباكالوريا بميزة مستحسن، ومع أن دراسته الجامعية كانت بدايةً مسارًا أكاديميًا اعتياديًا، إلا أن ميوله وطموحه التقني دفعاه إلى الانضمام إلى المعهد العالي للتكنولوجيا والفنون التطبيقية، شعبة تقني في تسيير المقاولات والحسابات، لتطوير معارفه في مجال المعلوماتية والإدارة، تربّى عادل في بيئة شعبية، حيث كانت الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من حياته اليومية، ما جعله يكتسب شغفًا بالفن منذ نعومة أظافره، فقد كان المايسترو العائلي الذي يُعتمد عليه في جميع المناسبات، وخصوصًا تلك التي تُقام في الأحياء الشعبية، مثل احتفالات عاشوراء، هذا الشغف الموسيقي لم يكن وليد الصدفة؛ فقد تأثر بالملحون الذي ورثه عن والدته، حيث حفظ عددًا من القصائد منها “الغزال فاطمة”، و”دمليج زهيرو”، و”الحراز”، و”غويتة”، ومن والده استمد حب فريد الأطرش، بالإضافة إلى الفن العيساوي وأغاني فرقة ناس الغيوان، مما منح تجربته الموسيقية تنوعًا ثقافيًا غنيًا، أظهر عادل اهتمامًا بالعزف على الآلات الإيقاعية، ففي الثمانينات اقتنى أول “دربوكة” مصنوعة من الجلد، والتي كانت تُقدّر قيمتها آنذاك بخمسين درهمًا، مبلغ كان له معنى كبير بالنسبة لعائلته البسيطة، لم يكن الشغف بالموسيقى وحده ما ميّزه، بل أيضًا اجتهاده وتفانيه، إذ كان يعمل خلال العطل الصيفية لمساعدة أسرته وتوفير المال لشراء الكتب وتطوير مهاراته الفنية، إن نشأته في هذه البيئة الشعبية، المزدانة بالموسيقى والتراث، شكّلت قاعدة صلبة لمساره الفني، حيث جمع بين الانتماء العائلي والروح الإبداعية، وعكست تجربة فنية تجمع بين الموروث الثقافي المحلي والانفتاح على التجارب الموسيقية العربية والعالمية. لقد مثلت هذه التجربة الطفولية والتعليمية الأساس الذي بنى عليه عادل بنكرينة مسيرته الفنية المتفردة، وأرسى حب الموسيقى كجزء من هويته الإبداعية العميقة.

في عام 1992، أسس الفنان عادل بنكرينة أولى الفرق الموسيقية بمشاركة مجموعة من أصدقائه من حيّه، من بينهم العلوي مولاي رشيد، نجيب الطالبي، والطوبا، وآخرون، وقد شهدت تلك الفترة بروز ظاهرة الفرق الفلكلورية، مما أتاح له الانخراط بفعالية في الحركة الموسيقية المحلية، استمر عادل في صقل مهاراته الموسيقية عبر المشاركة في حفلات متنوعة، سواء عائلية أو عامة، داخل مدينة فاس وخارجها، إلى أن اتخذت مسيرته بعدًا احترافيًا عام 1995، حين أسس عدة فرق موسيقية متخصصة، من بينها فرق عيساوة والدقة المراكشية، بأسماء متنوعة مثل مجموعة الدقة المراكشية، مجموعة اللوينات للدقة وعبيدات الرمى، والطائفة العيساوية الفاسية، في هذه الفترة، انضم أيضًا كضابط إيقاع إلى أركسترا الفيلالي، حيث ساهم في تقديم عروض موسيقية غنية ومتنوعة، وبالتوازي مع نشاطه الاحترافي، أسس عادل، رفقة أصدقائه في الجامعة عازف الكمان الأستاذ سعيد الحمامي وعازف البيانو الأستاذ سليم بنحمو، ناديًا موسيقيًا في دار الشباب المرينيين، وقد نظم النادي العديد من الحفلات الموسيقية داخل دور الشباب، كما كان منصة لاكتشاف وتنمية المواهب الشابة في المدينة، معززًا بذلك انخراطه في تطوير الحياة الفنية والثقافية المحلية، لقد مثّلت هذه المرحلة من مسيرته الموسيقية قاعدة صلبة، إذ جمعت بين الإبداع الفردي والعمل الجماعي، وساهمت في صقل قدراته كفنان متعدد الاختصاصات، قادر على الإشراف على فرق موسيقية متنوعة، وتنظيم أنشطة فنية تعليمية، وإثراء المشهد الموسيقي الفاسي بالخبرة والمعرفة، بما يعكس رؤية فنية تجمع بين الأصالة والابتكار.

لم يكن الفنان عادل بنكرينة يتوقع أن يتخذ مساره الفني منحى التمثيل المسرحي، إذ جاءت هذه الخطوة بمحض الصدفة في عام 1999، حين التقى بالراحل الفنان المسرحي محمد المريني في دار الشباب المرينيين بحي ليراك بفاس، وقد تم هذا اللقاء بدعوة من مديرة دار الشباب آنذاك، الأستاذة غزلان زمهور، والناشطة الجمعوية نعيمة مسرور، اللتين رغبتا في إشراكه في مشروع فني موسيقي مرتبط بالمسرح، طلب منه الراحل المريني تلحين وغناء مجموعة من الأغاني المخصصة لإحدى مسرحياته التي اعتمدت على الموسيقى التي حملت عنوان “باب المدينة”، وهي أوبرِيت غنائي جسد أدوارها عدد من الممثلين البارزين في تلك الفترة، من بينهم المرحوم عبد النبي مصواب، الفنان الخمار المريني، الفنانة سميرة لصفر، والفنان مولاي أحمد اليعقوبي، إلى جانب آخرين، كانت البداية متواضعة لكنها محورية، إذ بدأ العمل على ست أغاني تقريبًا، من بينها،”لا تحزني يا مدينة ما يتبدل فيك لون”، و”معندك لاش تبقى حيران”، و”العدل والإنصاف قالوا أمانة”، ومع تقديم العرض الأول ثم الثاني، توطدت العلاقة بين عادل والراحل المريني، وبات التعاون بينهما أكثر قربًا وعمقًا، مما مهّد الطريق لتحول مساره الفني من الموسيقى إلى المسرح، يصف الفنان عادل بنكرينة تلك اللحظة قائلاً: “في أحد الأيام كنا جالسين في أحد المقاهي، فقال لي الراحل، لما لا تمثل؟ فقلت له، كيف وأنا لا أعرف؟ فأجابني، عليك أن تسمع، تقرأ، وتتدرب”. وبعد مراحل من التكوين والتدريب المكثف، منح المريني عادل أحد الأدوار المسرحية، كانت تجربة صعبة في البداية يقول عادل: “صراحة انتابني الخوف، رغم اعتيادي على الخشبة كموسيقي، لكن الأمر هنا مختلف، ومع توالي الأدوار، بدأ الحلم يكبر تدريجيًا، وكبر معه هو كممثل، ليختبر شغفًا جديدًا ومسؤولية مضاعفة،”هنا يكمن الخوف، لأن توالي الأدوار تقودك إلى القلق من عدم إرضاء الجمهور بالشكل المطلوب”، وهكذا، تحول الفنان عادل بنكرينة من مجرد موسيقي محلي إلى ممثل مسرحي، مزج في تجربته بين الإيقاع والغناء والتمثيل، واضعًا بذلك حجر الأساس لمسيرة فنية متعددة الأبعاد، حيث أتاح له المسرح فضاءً جديدًا للتعبير عن ذاته، متجاوزًا حدود الموسيقى إلى العالم الشامل للفن الأدائي.

عمليا بدأ الفنان عادل بنكرينة مسيرته المسرحية بالبحث والاجتهاد والتمرس، مستفيدًا من توجيهات الراحل الفنان محمد المريني، الذي لعب دور المرشد والمحفز له في تلك المرحلة الحساسة من حياته الفنية، تحت إشرافه، خاض عادل تجربة مجموعة من الأعمال المسرحية التي ساهمت في صقل موهبته، من بينها “المرتجلة الجديدة” عام 2000 و”بشار الخير” عام 2001، وهي أعمال شكلت مرحلة تأسيسية في قدراته كممثل ومؤدي على الخشبة، من تأليف الراحل الدكتور محمد الكغاط، خلال تلك الفترة، كان لعادل زملاء وشركاء أثر كبير في مساره الفني، أبرزهم الفنان عزيز زيان، الصديق المشجع والمحرض على الاجتهاد، ويوسف المساتي، الذي كان يعشق الكتابة المسرحية ويهوى الخشبة، فقد اشتغلوا سويًا على مجموعة من الأعمال المسرحية، من بينها “عندما يتذكر الأموات”، و”جراح”، و”الطاعون يسكن ظلي”، وغيرها، ما منح عادل فرصة التمرس على مختلف الأدوار وصقل حسه المسرحي والفني، واكتساب قدرة على الانخراط في أعمال متنوعة تجمع بين الجدية والتجريب الفني، وجاءت الفرصة الحقيقية لعادل للانطلاق على نطاق أوسع عام 2002، حين عُرضت مسرحية خارج نطاق حي ليراك بعنوان “مثل دورك”، من تأليف وإخراج المرحوم محمد المريني، لم يكن العرض هينًا، إذ قدم أمام نخبة من أساتذة المسرح والسينما في مدينة فاس، من بينهم قيدوم المسرحيين إبراهيم الدمناتي وحسن علوي، إضافة إلى ممثلين بارزين في مسرح الهواة آنذاك، مثل محمد السقاط وعز العرب الكغاط، وغيرهم، وقد حمل العرض في طياته مناسبة مؤثرة، إذ كان بمثابة تأبين للراحل محمد تيمود، وهو ما جعل الحدث أكثر أهمية ورهبة بالنسبة للممثل الجديد الذي كان على موعد مع جمهور شديد التقدير للمسرح والفن، تميز العرض بحيويته وتشابك أدواره، حيث تمكن عادل من تقديم مجموعة من الشخصيات المتنوعة، ما لفت الانتباه إلى قدراته التمثيلية المتعددة، وقد شهد الجمهور على وجه الخصوص أداءه لمشهد تمثيلي جسد فيه دور امرأة، وهو المشهد الذي ذاع صيته بين الحاضرين، وأشادوا فيه بمهارته في التشخيص والقدرة على التعبير عن مشاعر الشخصية بدقة عالية، وهو ما كشف عن نجم مسرحي جديد على الساحة، قادر على التكيّف مع متطلبات الأداء الصعب والمعقد، لقد شكل هذا العرض منعطفًا جوهريًا في مسيرة عادل بنكرينة، إذ جمع بين تجربة التمرس في المسرح المحلي، وبين الانطلاق نحو الساحة الكبرى، حيث صقل مهاراته الفنية، واكتسب ثقة الجمهور والنقاد على حد سواء، كما عزز لديه وعيًا عميقًا بأهمية الأداء المسرحي في نقل المشاعر والأفكار، وفهمه لدور التمثيل في حياة المشاهد، ما ساهم في وضع الأساس لمسيرة مسرحية غنية، تنطلق من الأصالة المحلية لتلتقي بتجارب فنية متنوعة، ليصبح بذلك ممثلًا مؤثرًا قادرًا على الجمع بين التلقائية والإتقان، بين الحس الموسيقي والقدرة الدرامية، في مسار احترافي يمتد عبر سنوات من الاجتهاد والالتزام.

شكلت هذه المرحلة نقطة التحول في مسيرة الفنان عادل بنكرينة، حيث بدأت ملامح الاحتراف تتجلى بوضوح في مساره الفني، فبعد النجاح الذي حققه ذلك العرض، توالت عليه الدعوات والاتصالات من فرق مسرحية محترفة، فتوسعت دائرة معارفه الفنية، وبدأت الأبواب تُفتح أمامه في عالم المسرح الاحترافي، وقد كانت عام 2004 هي الانطلاقة الفعلية لمسيرته في هذا المجال، حين التحق بفرق معروفة على الساحة الوطنية، ليبدأ رحلة فنية اتسمت بالتنوع والإبداع والالتزام، كان اللقاء الذي جمعه بالفنان الكبير الخمار المريني محطة حاسمة في مسيرته، إذ أتاح له هذا اللقاء فرصة الانضمام إلى فرقة الجدار الرابع للمسرح والفنون الجميلة بمدينة فاس، وهي من الفرق التي تمتاز بجديتها وانفتاحها على أشكال متعددة من التجريب المسرحي، ومع هذه الفرقة، شارك عادل في مجموعة من الأعمال التي لاقت دعمًا من وزارة الثقافة المغربية، لما اتسمت به من جودة فنية وعمق موضوعاتي، من بين هذه الأعمال نذكر: “سلطانة” عام 2008 و”سوارت الرباح”عام ، و”الرواسي” عام 2010، و”المرساوية” عام 2011، و”حمان الخربيطي” عام 2012، إضافة إلى العمل المتميز “الملحون ذاكرة شعب” عام 2012 من إخراج أحمد رضواني، الذي جسّد فيه تلاقي الفن المسرحي مع التراث الموسيقي المغربي الأصيل، كما شارك في أعمال أخرى متنوعة من توقيع مخرجين مرموقين، من بينها “شواكس الحرية” عام 2004 من إخراج الراحل محمد المريني، و”العباسية” عام 2009، و”الفهايمية” عام 2010 و”رحلة حنظلة”عام 2012 من إخراج الخمار المريني، بالإضافة إلى مسرحية “نعاودو الحساب” عام 2013  من إخراج محسن المهتدي، و”الزواق يطير” في نفس العام من إخراج عبد الرحمن الإدريسي ملا يخافي، هذه الأعمال مجتمعة منحت الفنان عادل بنكرينة تجربة ثرية فوق الخشبة، حيث تمكّن من تعميق معرفته بتقنيات الأداء المسرحي، والإضاءة، والسينوغرافيا، ما أسهم في تطوير قدراته ووعيه المسرحي الجمالي، ومع تراكم الخبرات وتوسع مداركه الفنية، قرر خوض تجربة الإخراج المسرحي، واضعًا خلاصة سنوات من التمثيل والعمل الجماعي في خدمة رؤيته الخاصة. فكانت له تجارب ناجحة كمخرج، من أبرزها مسرحية “عهد الوحدة”، و”مأساة بائع الدبس الفقير”، و”مرض العصر”، و”الواد الحار”، و”مرتجلة عطارة” عام 2014، وأخيرًا “الهم ثم الهم”” عام 2018، اتسمت هذه التجارب بقدرتها على المزاوجة بين الحس الشعبي في الأداء والاشتغال على قضايا إنسانية واجتماعية تلامس واقع المواطن المغربي، مما جعل أعماله تحظى بتقدير النقاد والجمهور معًا، وفي موازاة نشاطه المسرحي، حرص عادل على تنمية معارفه الأكاديمية والمهنية، فشارك في عدد من الورشات التكوينية، كان أبرزها “ورشة الممثل الباحث” عام 2008، التي أطرها الأستاذ أحمد شرجي، العراقي الهولندي الأصل، والتي شكلت بالنسبة له محطة أساسية في فهم فلسفة الأداء والبحث المسرحي المعاصر.

لم يتوقف اهتمام عادل بنكرينة عند حدود الخشبة، بل انفتح كذلك على السينما المغربية، مشاركًا في مجموعة من الأعمال التي أغنت تجربته الفنية، منها الفيلم الشهير القلوب المحترقة ” عام 2004 من إخراج أحمد المعنوني، وفيلم موسم المشاوشة عام 2008 من إخراج عهد بنسودة، ثم الفيلم الوثائقي خمسون سنة من السينما في المغرب” عام 2012 للمخرج عز العرب العلوي، وقد مكنته هذه المشاركات من فهم آليات التمثيل أمام الكاميرا، بما يختلف عن خشبة المسرح، مما عمّق رؤيته الفنية ووسّع أفقه الإبداعي، يمكن القول إن الفترة الممتدة بين 2004 و2018 شكّلت مرحلة النضج الفني لعادل بنكرينة، إذ انتقل فيها من ممثل مسرحي إلى فنان شامل، يجمع بين التمثيل والإخراج والموسيقى، جامعًا في مساره بين الخبرة التقنية والرؤية الجمالية، وبين الانتماء للتراث المغربي والرغبة في التجديد الفني، في مسار يجسد الإخلاص للفن والبحث الدؤوب عن الجمال والمعنى.

رغم كثافة أعماله وتنوع تجاربه، ورغم حصوله على بطاقة الفنان من وزارة الثقافة، ظلّ الفنان عادل بنكرينة يشعر بأن طريق التمثيل في المغرب محفوف بالعقبات، وأن هذه البطاقة لم تُحقق له ما كان يرجوه من اعتراف أو استقرار مهني، فقد اصطدم بواقع تغلغلت فيه المحسوبية والزبونية، وتراجع فيه الاهتمام بالمبدعين، كما أن ضعف المداخيل جعل ممارسة الفن مسألة شاقة لا تضمن للفنان حياة كريمة، وزاد الأمر تعقيدًا ما تعرفه آلية الدعم المسرحي من اختلالات، سواء من حيث محدودية المبالغ المرصودة، أو في طريقة تدبيرها، أو في بطء صرفها الذي قد يمتد إلى سنة أو سنتين، مما يجعل الفنان رهين الانتظار والضيق المادي، أمام هذا الوضع، أدرك بنكرينة أن عليه البحث عن مصادر رزق بديلة تضمن له الحد الأدنى من الاستقرار، حيث أكد عادل على أنه”عليك أن تشتغل لسنوات لتحقق ذاتك وتعيش، فالفن في المغرب دون مدخول إضافي خطر على صاحبه، لأنه يبقى رهين عدد الأعمال التي يشارك فيها ونوعيتها ومردودها”، وأضاف”من ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش يصعب عليه أن يمنح الإتقان ما يستحقه من وقت وجهد”، ومع ذلك، لم يفقد بنكرينة الأمل، بل ظلّ يرى أن الأعوام الأخيرة شهدت تطورًا ملحوظًا في المسرح والسينما المغربية، وأن الطريق، رغم وعورته، يسير نحو التحسن التدريجي، لم يندم عادل بنكرينة على اختياره للفن، لأنه كان مؤمنًا بقدراته وبقيمة ما يقدمه، لقد كانت بداياته صعبة، إذ اضطر إلى رفض عروض عمل من مؤسسات خاصة لا علاقة لها بالمجال الفني، في مجالات التسيير والمحاسبة، ضمن شركات مثل “ماركافريك” و”بروديك”. لكنه، رغم الإغراءات المادية، آثر أن يظل قريبًا من عالمه الذي أحبه، وأن يكرس جهده للفن بكل ما فيه من تعب وشغف، ولم يكن بنكرينة فنانًا منغلقًا على ذاته، بل كان قريبًا من زملائه، حريصًا على دعمهم وتشجيعهم، وله إسهامات بارزة في الحياة المسرحية بمدينة فاس، فقد شارك في تأسيس عدد من المهرجانات المسرحية مثل مهرجان الجدار الرابع للمسرح، ومهرجان محترف فاس للمسرح، ومهرجان فاس المدينة للمسرح، كما اضطلع بدور فعال في إدارة المهرجان الدولي للمسرح الاحترافي بمدينة فاس، الذي تشرف عليه النقابة المغربية لمحترفي المسرح – فرع فاس( في اسمها القديم)، بهذا المسار، يجسد عادل بنكرينة نموذج الفنان المغربي الوفي لفنه رغم الصعاب، الذي جمع بين الالتزام والإبداع، وظلّ يعمل في صمت وإصرار من أجل أن يكون المسرح المغربي مرآةً صادقةً لحياة الناس وطموحاتهم.

في خضم مسيرته الفنية والإبداعية، خاض الفنان عادل بنكرينة تجربة إعلامية متميزة شكّلت محطة مفصلية في مساره المهني، فقد أسّس، رفقة الصحفي الشاب آنذاك العلوي مدغري عبد الصمد، عام 2009 مشروعا في مجال الإعلام الرقمي تمثّل في إنشاء إذاعة إلكترونية حملت اسم راديو فاس سايس”،  شكّلت هذه المبادرة تجربة نوعية في المشهد الإعلامي المحلي، إذ عمل الفريق المؤسس بمعية مجموعة من الشباب المتدربين على إنتاج باقة من البرامج المتنوعة التي لامست مجالات الفن والثقافة والمجتمع، وقد لاقت هذه البرامج، مثل قاع الخابية و”افتح قلبك” و”ما يطلبه المستمعون”، إقبالًا واسعًا، حيث حققت نسب استماع مرتفعة وغير مسبوقة في تلك الفترة، ما جعل من “راديو فاس سايس” منصة حيوية للتعبير والتواصل بين فئات المجتمع، استمرت التجربة ثلاث سنوات حافلة بالعطاء والإبداع، استطاع خلالها بنكرينة أن يُثري المشهد الثقافي والإعلامي في مدينة فاس، مؤكدًا قدرته على الجمع بين الحس الفني والوعي الإعلامي، ومكرّسًا بذلك مكانته كشخصية متعددة المواهب ساهمت في تجديد الفعل الثقافي المحلي بروح شبابية خلاقة.

 غير أن عام 2008 كان محطة مفصلية وحاسمة في المسار المهني والإبداعي للفنان عادل بنكرينة، إذ شكل منعطفًا جديدًا في حياته المهنية، بعدما قرر خوض غمار عالم السينما والإنتاج السمعي البصري، مستندًا إلى خلفيته الأكاديمية في مجال الحسابات وتسيير الشركات، وما توفر لديه من تكوين تقني مكنه من فهم الجوانب التنظيمية والإدارية للإنتاج الفني، كان هذا القرار بمثابة قفزة نوعية من عالم الأرقام إلى عالم الصورة، من الدقة الحسابية إلى الخيال البصري، في انتقالٍ جمع بين النظام والابتكار، وبين الحس الجمالي والعقل الإداري، سجّل بنكرينة نفسه كمتدرب في قسم الإنتاج بالمركز السينمائي المغربي، وهي الخطوة التي فتحت له أبوابًا واسعة للتعرف عن قرب على دهاليز الصناعة السينمائية المغربية، وجد نفسه وسط نخبة من الشباب الطموح، ممن يؤمنون بضرورة تجديد الدماء في الحقل الفني الوطني. ومن بين هؤلاء برز اسم المنتج محمد الكغاط، ابن الفنان الكبير عز العرب الكغاط، القادم من المهجر بفكر متجدد ورؤية حديثة لعالم السينما، شكل اللقاء بين بنكرينة والكغاط نقطة انطلاق لشراكة مهنية مثمرة، حيث جمعتهما الرغبة في تجاوز النمطية واستكشاف إمكانات جديدة للإنتاج السينمائي المغربي، بدأت هذه الشراكة عبر المشاركة في مجموعة من الأعمال السينمائية المميزة، التي شكّلت مختبرًا لتجربتهما المشتركة، كان من بين هذه الأعمال فيلم وراء الأبواب المغلقةللمخرج محمد عهد بنسودة، الذي تناول قضايا اجتماعية حساسة بجرأة فنية محسوبة، كما شارك بنكرينة في فيلم حب الرمانللمخرج عبد الله فركوس، الذي جمع بين البساطة الكوميدية والعمق الإنساني، إضافة إلى فيلم الفروجللمخرج نفسه، حيث أتيحت له فرصة تطبيق ما اكتسبه من معارف إنتاجية في بيئة مهنية قائمة على الانضباط والدقة، تدرج بنكرينة في مساره داخل مجال الإنتاج بخطوات ثابتة ومدروسة، بدأ كمساعد إنتاج، ثم كمحاسب إنتاج، قبل أن يتولى مهمة مساعد محافظ، هذا التدرج المهني مكنه من الإلمام بمختلف مراحل العمل السينمائي، من التنظيم الإداري إلى ضبط الميزانيات ومتابعة التفاصيل التقنية والفنية، وبفضل كفاءته وانضباطه المهني، حصل على بطاقته الأولى من المركز السينمائي المغربي كمحافظ إنتاج، وهو اعتراف رسمي بقدراته وكفاءته داخل الميدان، بعد هذا الاعتراف، توالت الأعمال التي شارك فيها بنكرينة، لتغطي طيفًا واسعًا من الإنتاجات السينمائية والتلفزية، نذكر من بينها الفيلم السينمائي أفراح صغيرةعام 2014 للمخرج محمد الشريف طريبق، وهو عمل أنثوي الرؤية بامتياز، لامس عوالم النساء وعلاقاتهن داخل مجتمع محافظ، كما شارك في فيلم يد فاضمة” عام 2015 للمخرج الكبير أحمد المعنوني، الذي حمل توقيعًا سينمائيًا رصينًا، وفي العام نفسه، اشتغل على الفيلم التلفزي البهلوان”  لمحمد الشريف طريبق، ثم على الفيلم السينمائي البحث عن السلطة المفقودة عام 2015 لمحمد عهد بنسودة، الذي اتسم بطابع رمزي سياسي عميق، استمر عطاء بنكرينة في الأعوام اللاحقة، حيث عمل على فيلم حياة عام 2016 للمخرج رؤوف الصباحي، وسلسلة ميستير سانسور” عام 2016 لمحمد عهد بنسودة، والفيلم الوثائقي معجزات قسم” عام 2016 للمخرجة لبنى اليونسي، قبل أن يشارك في فيلم أبواب السماء” عام 2018 للمخرج مراد الخوضي، هذه التجارب المتنوعة جعلته يلامس مختلف الأشكال السينمائية، من الروائي الطويل إلى الوثائقي والتلفزيوني، ما صقل تجربته وزاد من عمق رؤيته التنظيمية والجمالية.

نتيجة لهذا التراكم المهني، نال بنكرينة بطاقة تقني محافظ عام من المركز السينمائي المغربي، وهو تتويج لمسار مهني طويل، تميز بالجدية والالتزام والانفتاح على تجارب إخراجية متعددة، بعدها، توالت الأعمال التي أضافت لرصيده قيمة مهنية جديدة، من أبرزها، الفيلم السينمائي هلا مدريد فيسكا بارصا” عام 2017 للمخرج عبد الإله الجوهري، الذي عالج علاقة المغاربة بثقافة كرة القدم من زاوية اجتماعية فريدة؛ ثم فيلم سنة عند الفرنسيين” عام 2017 للمخرج فتاح الروم، الذي استعاد حقبة تاريخية حساسة من الذاكرة الوطنية؛ وفيلم ساوند أوف برباريا – موسيقى الصحراء” عام 2017 لطارق الإدريسي، الذي انفتح على البعد الموسيقي والثقافي المغربي في الجنوب، كما شارك عادل في الفيلم التلفزي قلبي بغاه” عام 2018 للمخرج هشام الجباري، والفيلم السينمائي التائهون” عام 2018 للمخرج سعيد خلاف، الذي تميز برؤية بصرية قوية، إلى جانب الفيلم التلفزي الماضي لا يعود” عام 2019 للمخرج إبراهيم الشكيري، والفيلم الإيطالي لاريكل دور – القاعدة الذهبيةللمخرج أليساندرو ليونارديلي، إضافة إلى الفيلم التلفزي شمس العشيةللمخرج ياسين فنان، إنّ هذا المسار الحافل يشهد على تجربة فنية متكاملة، جمعت بين التكوين التقني والانخراط العملي في الميدان، وبين الطموح الفردي والانفتاح على التعاون الجماعي، فالفنان عادل بنكرينة لم يكن مجرد اسم في قوائم الإنتاج، بل كان عقلًا منظمًا يضبط إيقاع العمل، وجسرًا بين الرؤية الإبداعية للمخرج والواقع العملي للتنفيذ، ليصبح أحد الأسماء التي تركت بصمتها الواضحة في تاريخ الإنتاج السينمائي المغربي المعاصر.

توّج الفنان عادل بنكرينة مسيرته المهنية الحافلة بالحصول على بطاقة مدير الإنتاج من المركز السينمائي المغربي، في عام 2019، بعد سنوات من الخبرة والتدرج والتكوين العملي داخل الميدان السينمائي والتلفزيوني، فقد مكنه هذا الاعتراف الرسمي من إدارة إنتاج عدد من الأعمال الفنية الكبرى التي عكست نضجه المهني وحنكته التنظيمية، حيث أصبح أحد أبرز الأسماء التي تجمع بين الحس الفني والدقة الإنتاجية، ومن بين الأعمال التي أشرف على إدارتها نذكر، الفيلم التلفزي نصيب” عام 2025 للمخرج طارق الإدريسي، والسلسلة التلفزية علال وشطون البال” عام 2025 للمخرج عبد الإله موجاني، إلى جانب الفيلم السينمائي لوباساج” للمخرج محمد أمين بنعمراوي، والفيلم السينمائي الصرصار والسمسار والنملة” للمخرج ياسين فنان، والمسلسل التلفزي طوير الحبشة” للمخرج حكيم قبابي، والسلسلة التلفزية الحلم الهارب لياسين فنان، وكلها عام 2024،  كما أدار إنتاج المسلسل التلفزي أم الرجال”عام 2023 لحكيم قبابي، والسلسلة التلفزية عين كبريت” عام 2022 لمحمد عهد بنسودة، والمسلسل جمل النفاع” من نفس العام ليونس الركاب، والسلسلة الكوميدية كابتان حجيبة” عام 2021 لربيع سجيد، إضافة إلى برنامج المواهب “وليدات بلادي” لعام 2021 لمحمد محبوب، والمسلسل التلفزي دار السلعة” عام 2021 لمحمد أمين مونى، وبرنامج عندي حلم” عام 2021 لعلي طاهري، وأخيرًا الوثائقي السينمائي لغنى أوزاوان” لعام 2019 لعصام الدوخو، لم يتوقف عطاء بنكرينة عند حدود إدارة الإنتاج فحسب، بل خاض تجربة الإخراج والإنتاج الذاتي، مجسدًا طموحه الإبداعي في مشاريع تحمل بصمته الخاصة، من بين هذه الأعمال: الفيلم القصير أشباح الأمس” عام 2025 الذي أخرجه بنفسه، والفيلم الوثائقي سجين الذاكرة” عام 2025 للمخرج لخضر الحمداوي، والفيلم الوثائقي اليوم الأخير” عام 2024 للمخرج نفسه، إلى جانب الفيلم القصير خريف العمر” عام 2024 لبلال الطويل، والفيلم القصير احتفاء”، ثم الفيلم القصير بلاك” عام 2021للمخرج ذاته، كما خاض تجربة التمثيل، من خلال مشاركته في الفيلم السينمائي المغربي السلطانة المنسية” للمخرج عبد الرحمان التازي، وهي تجربة أكدت تعدد مواهبه وقدرته على التنقل بسلاسة بين مختلف أدوار الصناعة السينمائية، من الإنتاج إلى الإخراج، وصولًا إلى التمثيل، في مسار يجمع بين الحرفية، الشغف، والرغبة الدائمة في الإسهام بتطوير المشهد الفني المغربي.

رغم انشغالاته الكثيرة في المجال السينمائي، ظلّ الفنان عادل بنكرينة وفيًّا لجذوره المسرحية، مؤمنًا بأنّ الخشبة هي الفضاء الأصيل للتعبير الحرّ، فقد خاض تجربة متميزة في مسرح الشارع، هذا الفن الذي بدأ يتلاشى من المشهد الثقافي المغربي، وجاءت تجربته تكريمًا لأحد رموز فن الحلقة، عمي حسن مؤنس الملقّب بـ”حربة”، الذي مثّل نموذجًا أصيلًا للحكّاء الشعبي القادر على أسر الجمهور بكلمة وصوت وإشارة، ورغم العراقيل الإدارية والمالية، خصوصًا بعد رفض ملف الدعم لسنتين متتاليتين من طرف وزارة الثقافة والجماعة الحضرية لفاس، لم يستسلم بنكرينة، بل أصرّ على إنتاج عمله وترويجه بجهوده الذاتية، وقد قدّم عروضًا ناجحة في فاس وصفرو ومكناس والحاجب تحت عنوان “الحلقة وشي حاجة”، وهي مسرحية من إعداد وإخراج عبد الرحمان الإدريسي ملا يخافي، كان هذا العمل بمثابة صرخة فنية لإحياء الذاكرة المسرحية الشعبية التي بدأت تذوب في صمت الإهمال، غير أنّ غياب الرؤية الثقافية الواضحة جعل المسرح يفقد كثيرًا من بريقه، إذ تراجعت مهرجانات مسرح الهواة التي كانت منصة حقيقية لاكتشاف المواهب وصقلها، وتقلّص دور دور الشباب والجمعيات في التأطير والتكوين المسرحي، فغدت هذه الفضاءات خاوية بلا روح ولا نشاط إلا في حالات نادرة، حتى مهرجان الشباب الذي كانت تنظمه الوزارة، حين أُسند تنظيمه إلى مؤسسة أخرى، فقد بريقه بعد أربع سنوات من التجربة التي أثبتت فشلها الذريع، أمّا سياسة الدعم المسرحي التي يفترض أن تنهض بالإبداع، فقد تحوّلت إلى منظومة ريعية مكشوفة أنتجت فرقًا بلا هوية وجمعيات تبحث فقط عن نصيبها من “الخبزة”، بينما غابت الفرق التي كانت تنتج أعمالها وتروجها بجهودها الذاتية، وهي – بالمفارقة – أكثر جودة وصدقًا من تلك المدعومة رسميًا. وفي المقابل، ظل المجال السينمائي محتكرًا من قبل شركات كبرى رسّخت نفوذها داخل المنظومة منذ سنوات، تاركة للشركات الصغرى بعض الفتات لذرّ الرماد في العيون، ويختم بنكرينة رؤيته بتطلّع صادق إلى وزارة الثقافة يحمل مشروعًا إصلاحيًا حقيقيًا، يعيد هيكلة المنظومة برمّتها، بدءًا من دفتر التحملات ومرورًا بالموظفين ووصولًا إلى السياسات العامة للوزارة، حتى يعود للفن المسرحي والسينمائي المغربي وهجهما الحقيقي ومكانتهما المستحقة.

يحمل الفنان عادل بنكرينة وعيا بصريا والقدرة على تفكيك ملامح المرحلة، يتابع المشهد المسرحي والسينمائي والموسيقي بقلق، ويعتبر أن المشهد السينمائي المغربي يعيش في السنوات الأخيرة مرحلة من التحوّل والتطور الملحوظ، تجلّى أساسًا في ارتفاع عدد الأفلام المدعومة والمُنتجة سنويًا، ما يعكس حيوية نسبية داخل القطاع، غير أن هذا الازدهار الكمي، كما يوضح، لا يقابله بالضرورة تحسّن نوعي أو مؤسساتي، إذ ما تزال الدراما المغربية تعاني من اختلالات بنيوية تعيق تطورها واستدامتها، ويُرجع بنكرينة ذلك إلى دفاتر تحملات غير واضحة، وهيمنة عدد محدود من الشركات على عملية الإنتاج، إضافة إلى انتشار المحسوبية والزبونية داخل منظومة الدعم، ما يجعل معايير الاختيار والإنتاج في كثير من الأحيان بعيدة عن الاعتبارات الفنية والإبداعية. فحسب رأيه، ما يقارب سبعين بالمائة من القرارات تُتخذ بناءً على علاقات شخصية أو مصالح ضيقة، لا على أسس مهنية شفافة، ويربط الفنان هذه الإشكالات بما وصفه بـتراجع أداء وزارة الثقافة منذ تولي المهدي بنسعيد حقيبتها، حيث لوحظ، حسب تعبيره، تباطؤ أو توقف مشاريع كبرى كانت تُراهن على بناء سياسة ثقافية مستدامة، وتحول الوزارة إلى إدارة مناسباتية تُعنى بتنظيم المهرجانات والأنشطة الترويجية أكثر مما تُنتج معنى ثقافيًا حقيقيًا، كما يشير إلى أن غياب رؤية استراتيجية تربط الثقافة بالتنمية والمواطنة أدى إلى انقطاع الحوار مع المبدعين وتهميش المديريات الجهوية، التي كانت في الماضي تتمتع بصلاحيات واسعة في دعم المبادرات والعروض الفنية، ويضرب بنكرينة مثالًا على هذا التراجع من خلال تجربته الشخصية مع بطاقة الفنان، حيث واجه خطأ إداريًا في بطاقته المجددة، واضطر إلى التنقل أربع مرات إلى الرباط لمحاولة تسوية الوضع دون جدوى، في ظل ما وصفه بـ”الإهمال الإداري وغياب الموظفين عن مكاتبهم”، معتبرًا أن ذلك يعكس أزمة أخلاقية ومؤسساتية تمسّ بنية القطاع الثقافي برمّته، أما على مستوى المسرح في مدينة فاس، فيرى بنكرينة أن الوضع أكثر مأساوية، متسائلًا كيف يمكن لـ”مدينة علمية وحضارية يمتد تاريخها لأكثر من اثني عشر قرنًا أن تُحرم من مسرح نشط”،  فالمركب الثقافي الحرية التابع للجماعة الحضرية بفاس مغلق منذ أكثر من خمس سنوات بدعوى الإصلاح، دون أن تُتخذ خطوات عملية لإعادة فتحه، ويضيف بأسفٍ أن “حالته الخارجية تنذر بالخراب”، وأن كل النداءات والوقفات الاحتجاجية التي نظمها الفنانون لم تلقَ أي تجاوب رسمي، مما يعكس أزمة تواصل حقيقية بين الجماعة الحضرية والمجتمع الثقافي، ويتساءل ألا تستحق فاس أكبر مسرح في شمال افريقيا والعالم العربي نظرا لإرثها الحضاري والعلمي والثقافي، غير أن بنكرينة يرى أن سبب اهمال فاس هو نخبها الضعيفة التي تفكر في المصالح الشخصية بدل التركيز على المصلحة العامة بمدينة فاس، فالسياسات المحلية ، حسب رأيه، أجهزت على الحياة الثقافية في فاس، إذ توقّف دعم الجمعيات الثقافية والفنية منذ تولي المجلس الحالي مهامه( 2021 إلى عام 2025)، بحجة إعادة تنظيم الدعم عبر “منصة المشاريع”، لكن النتيجة كانت تهميش الجمعيات الفاعلة تاريخيا، فمشروعان متتاليان قدّمهما فريقه ضمن مهرجان الجدار الرابع للمسرح، وهو مهرجان ذو إشعاع وطني، رُفضا دون مبرر واضح، بينما حصلت على الدعم جمعيات حديثة النشأة ذات ارتباطات حزبية واضحة، ويختم بنكرينة تصريحه بنبرة نقدية صارمة، مؤكدًا أن الثقافة في المغرب عمومًا، وفي فاس خصوصًا، أصبحت رهينة حسابات سياسية ضيقة، بدل أن تكون مجالًا للتنوير والإبداع، فالفنان، كما يقول، “لم يعد يجد في المؤسسات الرسمية سندًا، بل يواجه البيروقراطية والتهميش وانعدام الرؤية، ورغم ذلك، يظل متشبثًا بالأمل في أن تستعيد المدينة الروحية للمملكة بريقها الثقافي، وأن تعود خشبة المسرح لتنبض من جديد، لأن فاس بدون مسرح، تفقد جزءًا من روحها الحضارية التي شكّلت عبر التاريخ منارة للفكر والفن والإبداع.

منذ بداياته الفنية، ارتبط اسم الفنان عادل بنكرينة بلقبين أصبحا جزءًا من هويته المسرحية بين جمهور فاس، الأول هو “الأستاذ المعطي الكلخة”، المستوحى من أحد أدواره الكوميدية التي لاقت نجاحًا واسعًا وجعلت الشخصية لصيقة به في الذاكرة الجماعية، أما اللقب الثاني، “النخلة الطويلة”، فجاء نتيجة لقامته الفارعة التي ميّزته بين زملائه، ولا يزال المسرحيون والجمهور في فاس ينادونه بهذين اللقبين إلى اليوم، دلالة على محبّتهم له وتقديرهم لعطائه الفني المستمر، يعدّ الفنان عادل بنكرينة واحدًا من أبرز الوجوه الشابة التي استطاعت أن تشقّ طريقها بثبات في المشهد المسرحي المغربي، قبل أن تخوض غمار التجربة السينمائية عبر أدوار بسيطة شكلت مدخلًا نحو اكتساب خبرة فنية متينة في مجالي الإنتاج والإخراج، وبفضل مثابرته ووعيه الجمالي، تمكن بنكرينة من ترسيخ بصمته الخاصة في المشهد الفني، وهو اليوم بصدد التحضير لإخراج أول فيلم طويل يحمل توقيعه، يتميز عادل بنكرينة بحسٍّ فنيٍّ رفيع وشغفٍ عميق بكل ما هو جميل، إذ يجد في الموسيقى ملاذًا روحانيًا، وتغمره المشاعر إلى حد البكاء، شفيف، هشم، صارم في عمله، مبتكرا، يفكر بصمت ويلبي نداء العمل بكل ثقة ومراس، أما خشبة المسرح، فهي فضاؤه الأثير الذي يمنحه إحساسًا بالنخوة الإبداعية لا يُقدّر بثمن، فيما تمثل له السينما ولغتها البصرية امتدادًا لذلك العشق الجمالي الذي يسكنه ويقوده نحو اكتشاف أبعاد جديدة في التعبير الإنساني والفني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى