قراءة في مسيرة الفنان التشكيلي عمر كوران: حول الخط من مجرد عنصر بنائي إلى حامل دلالي وبصري يختزن ذاكرته وانفعاله
جاء التجريد لديه كمقاومة جمالية في وجه هذا التشظي، بحثًا عن الجوهر بدل المظهر


وُلد الفنان التشكيلي عمر كوران عام 1963 بمدينة بني ملال، في قلب المغرب، بحيّ يطلّ على عين أسردون، التي تمتزج فيها زرقة المياه بخضرة الطبيعة، فتنطبع في الذاكرة كلوحة أولى رسمتها الطبيعة له قبل أن يتعلم كيف يرسمها بيديه، في تلك البيئة الغنية بالألوان والظلال والنور، تشكّلت البذور الأولى لحسّه الجمالي وارتباطه العميق بالعالم المحيط به، لم يمضِ على ولادته سوى أربعة أعوام حتى أخذه والده إلى الكتاب القرآني “المسيد”(والكلمة تصغير لكلمة مسجد، وتم حذ الجيم لسهولة النطق)، كما جرت العادة في الأسر المغربية المحافظة، هناك انفتح أمام الطفل عالم جديد، مختلف عن فضاء البيت والحيّ، عالمٌ تتقاطع فيه البراءة بالاكتشاف، واللعب بالانضباط، في ذلك الفضاء القرآني تعرف عمر على مجموعة من الأطفال الذين سيشاركونه دروب الطفولة الأولى، وعلى الفقيه الذي كان يمثل له هيبة معرفة بوقارها وحمولتها الدينية والتربوية، وعلى طقوس التعلم التي ستظلّ عالقة في ذاكرته ووجدانه، كان اللوح الخشبي هو أول سطح تعليمي يواجهه، مطليًّا بالصلصال الرطب، تستعيد عليه أصابع الصغار حروفها الأولى، وتتشكل فوقه الخطوط بلون الصمغ الأسود الطبيعي الذي كان الفقيه يُعدّه بعناية من مواد طبيعية، أما أقلام القصب فكانت أداة العبور نحو العالم الرمزي للكتابة، حيث تتحول النقطة إلى شكل، والشكل إلى معنى، والمعنى إلى إحساس بالابداع، كانت تلك الممارسة، في عمقها، درسًا بصريا مبكرًا في الفن قبل أن تكون تمرينًا على الحفظ أو القراءة، إذ علّمته كيف تتجسد الفكرة على سطحٍ مادي، وكيف تمتزج المادة بالروح، يتذكر عمر تلك المرحلة بحنينٍ عميق، ويرى فيها أجمل فترات طفولته، إذ لم تكن مجرد زمن تعلّم، بل كانت لحظة تأسيس لعلاقته الأولى بالأثر، بالعلامة، وبالجمال الذي ينبت من البساطة، من “المسيد” خرج الطفل وهو يحمل في داخله حبًّا خفيًّا للّوحة، وللكلمة المكتوبة، وللضوء الذي ينعكس على سطحٍ مدهونٍ بالصلصال، كما لو أنه كان يتدرّب، من دون أن يدري، على أن يكون فنانًا سيجعل من الذاكرة مادة للرسم، ومن الطفولة مصدرًا للألوان التي سترافقه طوال مساره التشكيلي.

بعد عامين من تجربته الأولى في “المسيد”، انتقل عمر كوران إلى مدرسة “حجرة” في أواخر ستينيات القرن العشرين، ليخوض مرحلة جديدة من التعلم تختلف في أدواتها وطقوسها عن تلك التي عرفها في فضاء التعليم القرآني، فهناك، أمام الطاولات الخشبية والمقاعد الحديدية، واجه الطفل أدوات جديدة، عبارة عن الريشة المعدنية التي تغمس في المداد البنفسجي القاتم، ودفاتر ناعمة الأوراق تنفتح كمساحات بيضاء تنتظر الأثر الأول، كانت الكتابة حينها فعلًا مادّيًا مكثفًا، إذ كان التلميذ يشعر بحرارة الاحتكاك بين الريشة والورق، وبنبض الحروف وهي تتشكل واحدةً تلو الأخرى. وعندما يقع الخطأ، كانت المنشفة أو الطباشير الأبيض وسيلة لمحو أثره أو التخفيف منه، في محاولة لاستعادة النقاء البصري للنصّ المكتوب، في تلك المرحلة المدرسية، بدأ كوران يربط بين الرسم والكتابة، بين الحرف كشكلٍ جماليٍّ والمعنى كفضاءٍ رمزيٍّ أوسع، فكلّ كلمة تُكتب كانت تفتح أمامه مجالًا بصريًا جديدًا، وكلّ خطّ مستقيم أو منحنى كان يوقظ في داخله حسّ التناسق والإيقاع، ومع مرور الأيام، لم تعد الكتب المدرسية بالنسبة إليه مجرد أدوات للتعلّم، بل صارت نوافذ جمالية تطلّ على عوالم الرسم والتصوير، كانت الرسوم الملوّنة المرافقة للنصوص، المرسومة يدويًا بأنامل فنانين مجهولين، تبهره وتستولي على خياله الطفولي، حتى وجد نفسه يحاول تقليدها في دفاتره، مستخدمًا أقلام التلوين البسيطة التي كانت في متناول يده، تلك المحاولات الأولى في النسخ والتلوين كانت أشبه بتمارين مبكرة على الفن التشكيلي، لكنها أيضًا كانت تمرينًا على النظر، أو على الأقل كيف يرى الشكل؟ كيف تتوازن الألوان؟ وكيف يتحول الخط إلى إحساس؟ ومن خلال هذا التفاعل البصري، بدأ يكوّن ذائقته الخاصة ويكتشف ميله الفطري إلى التعبير التشكيلي، وفي العام الأول إعدادي، حين شارك في مسابقة للرسم نظّمتها إدارة “الإعدادية الجديدة” قرب ثانوية الكندي بمدينة الفقيه بن صالح، فاز بجائزة تقديرية مكافأةً لإبداعه وتميّزه، كان لذلك الفوز أثر بالغ في نفسه؛ فقد شعر للمرة الأولى بأنّ ما يرسمه يُرى ويُقدَّر، وأنّ الفن يمكن أن يكون وسيلة للتعبير والاعتراف، لقد شكّل ذلك الحدث لحظة تحول حقيقية في مساره، إذ ازداد شغفه بالرسم والتلوين، وبدأ يدرك أن هذا العالم الذي يخطّه بالألوان ليس مجرد هواية عابرة، بل نداء داخلي سيقوده لاحقًا إلى مسيرة فنية غنية ومتفرّدة.

حين بلغ عمر كوران المرحلة الحاسمة من مساره الدراسي، وتحديدًا عام التوجيه نحو التخصصات الثانوية، كان حلمه واضحًا لا لبس فيه، أن يلتحق بشعبة الفنون التشكيلية ليمنح طاقته الإبداعية فضاءً أكاديميًا يوازي شغفه المتأصل منذ الطفولة، غير أن هذا الطموح الفني اصطدم بالعقبة الأولى التي واجهها في حياته؛ فقد كان الالتحاق بهذه الشعبة يتطلّب الانتقال إلى مدينة الدار البيضاء، وهو أمر لم ترحب به أسرته، وخصوصًا والدته التي عارضت الفكرة بشدة، خوفًا عليه من الغربة ومصاعب الحياة في المدينة الكبيرة، أمام هذا الرفض العاطفي الذي لم يستطع تجاوزه، وجد نفسه مضطرًا للتراجع عن خياره الأول والانصياع لرغبة العائلة، متجهًا نحو شعبة العلوم التجريبية، رغم أنها لم تكن تعبّر عن ميوله ولا عن طبيعته الحساسة والفنية، تابع دراسته العلمية بجدّ واجتهاد، إلى أن حصل على شهادة البكالوريا عام 1986، بعد ذلك التحق بجامعة القاضي عياض في مدينة مراكش، مسجلًا في شعبة البيولوجيا والجيولوجيا (B.G)، مقتنعًا – ولو ظاهريًا – بأنه يواصل مسارًا أكاديميًا مستقرًا ومفتوحًا على المستقبل، غير أن الصراع الداخلي بين العقل والموهبة، بين رغبة العائلة ورغبته الشخصية ظلّ يتأجج في داخله، فالدروس العلمية المختبرية لم تكن تُشبع رغبته في التعبير، ولا تُرضي توقه إلى اللون والضوء والخيال، كان يعيش في قلب مفارقة صامتة، جسد في قاعات العلوم، وروح تائهة في فضاءات الفن، وفي نهاية العام الجامعي الأول، وبينما كان منشغلًا بالتحضير للامتحانات النهائية، سمع صدفةً عن مباراة ولوج المركز التربوي الجهوي لتكوين الأساتذة شعبة الفنون التشكيلية، التي نظمت لأول مرة في مراكش، شكّل هذا الخبر بالنسبة إليه بارقة أمل، وإشارة قدرٍ أعادت إشعال الحلم الذي كاد يخبو، غير أنّ الطريق لم يكن سهلاً؛ فقد وجد نفسه أمام اختيار مصيري، إما التضحية بعام جامعي كامل والتخلي عن مسار علمي مستقر، أو مواصلة طريقٍ لم يكن يؤمن به تمامًا، لم يكن يملك آنذاك أي فكرة عن طبيعة المباراة أو محتواها أو طرق التحضير لها، ومع ذلك، كان هناك صوت داخلي يهمس له بأنّ الفرصة لا تأتي مرتين، في خضمّ هذا التردد، لجأ عمر إلى أحد أفراد أسرته، وهو إطار في مجال التوجيه التربوي بمدينة العيون في الصحراء المغربية. كان لهذا الشخص الفضل الكبير في تنويره وإرشاده، إذ قدّم له معلومات دقيقة عن مواد المباراة ومجالاتها، مما مكّنه من فهم المتطلبات الأساسية لخوض التجربة بثقة أكبر، عندها فقط بدأ القرار يتبلور في داخله، فحسم أمره بجرأة نادرة، وقرّر أن يغيّر وجهة مساره 180 درجة، تاركًا وراءه مقررات البيولوجيا والجيولوجيا، ومتفرغًا كليًا للتحضير لمباراة الفنون التشكيلية.

انكبّ على العمل بجدٍّ وإصرار، مستعيدًا أدواته القديمة وأحلامه التي رافقته منذ أيام المدرسة و”المسيد”، فكان يرسم ويهيّئ نفسه لامتحان يراه أكثر من مجرد اختبار أكاديمي، بل امتحان حياة يحدّد مصيره الفني، مستقبله العملي، وبفضل المثابرة والإيمان بقدره، تكلّلت جهوده بالنجاح، إذ اجتاز المباراة بنجاح باهر، ليبدأ بذلك مرحلة جديدة من حياته، مرحلة التكوين الفني والتربوي التي ستفتح له أبواب الإبداع على مصراعيها، كان يوم القبول في المركز لحظة فرحٍ غامر لا توصف، امتزجت فيها دموع الفرح بذكريات الصبر والعناد، شعر كوران أنه استعاد ذاته الحقيقية التي كادت تضيع بين معادلات الكيمياء ونظريات الجيولوجيا، وأنّ القدر أعاده إلى مساره الطبيعي، ولو بعد تأخيرٍ فرضته ظروف الحياة والأسرة، أما والدته التي كانت قد رفضت في البداية انتقاله إلى الدار البيضاء، فقد شاركته الفرحة هذه المرة من أعماق قلبها، بعدما أدركت أنّ ابنها لم يكن يطلب مغامرة، بل كان يتبع نداء الموهبة الذي يسكنه منذ الطفولة، سيما وأنه سيصبح أستاذا لمادة التربية التشكيلية، ما بعني أن يحقق اكتفاء ذاتيا، وهكذا، تحقق حلمه أخيرًا، ليبدأ رحلة الفن الواعي، تلك التي ستجعله لاحقًا واحدًا من الأسماء البارزة في المشهد التشكيلي المغربي.

قضى عمر كوران عامين كاملين في مزاولة الأنشطة الفنية ودراسة تاريخ الفن واقتفاء إثر البيداغوجية، وكان خلالهما يعيش في غمرة من الشغف والولع بمادة الفنون التشكيلية، لم تكن تلك الفترة مجرد تجربة أكاديمية عابرة فقط، ولكنها شكلت منعطفًا جوهريًا في تكوينه الجمالي والفكري، إذ فتحت أمامه آفاقًا جديدة للتأمل في ماهية الصورة، وتفاعل اللون مع الشكل، والعلاقة الجدلية بين الضوء والظل، وبعد تخرجه وتفرغه التام للتعليم والفن، بدأ أولى خطواته العملية في رسم أعمال شخصية تعبّر عن رؤيته الخاصة، فاختار أن يستلهم من البيئة المغربية الغنية بالرموز والدلالات، فكانت أزقة مراكش القديمة أول فضاء بصري يحتضن تجاربه، حيث رسم تفاصيلها الدقيقة، جدرانها الحمراء، نوافذها الخشبية المزخرفة، وملامح الحياة اليومية التي تنبض في أركانها، كما خاض تجربة موازية في رسم الطبيعة الصامتة، سعيًا منه إلى فهم عمق العلاقة بين الأشياء وسكونها الظاهري، وتطويع يده على رسم الأشكال وتمرينه فكره على الابداع، وبين المعنى الكامن في ترتيبها داخل الفضاء التشكيلي، خلال هذه المرحلة، تبلور وعيه بعناصر التكوين الفني من شكل ولون وفضاء وفراغ وتركيب، إذ كان يختبرها بعين الملاحظ المتأمل، لا بعين المنفذ فقط، هذا الوعي الجمالي دفعه إلى الاحتكاك بتجارب فنية أخرى، بعضها ينتمي إلى الفن الحديث، وبعضها الآخر إلى الفن المعاصر، وهو ما مكّنه من إدراك التحولات الكبرى التي عرفها التعبير التشكيلي في العالم، بفضل اطلاعه الواسع على أعمال فنانين من مختلف البلدان، اتسعت نظرته وتضاعفت أسئلته حول موقع تجربته داخل هذا المشهد المتنوع، وحول الكيفية التي يمكن أن يصوغ بها لغته التشكيلية الخاصة، كانت أولى ثمار هذا البحث المتواصل تجربة متميزة اشتغل فيها على موضوع أبواب الأسوار، وهو موضوع استغرق منه قرابة ثلاث سنوات من البحث البصري والمادي، مسائلا مكونات الأسوار والأبواب، منفتحا على تدرجها اللوني وبنائها التركيبي، لم يكن الأمر مجرد رسم لأشكال معمارية، بل كان محاولة لقراءة الرموز الكامنة خلف الباب باعتباره حدًّا بين الداخل والخارج، والبحث عن كنهها العميق واستجلاء أفاقها المغلقة، بين الحماية والانفتاح، وبين الذاكرة والعبور، هذا الاشتغال الطويل عمّق علاقته بالرمز، وعلّمه كيف يحاور المادة والأثر في الآن ذاته، غير أن المنعطف الحقيقي في مساره جاء صدفة، حين لفت انتباهه يومًا مجموعة من الخطوط السوداء العفوية كان قد رسمها بسرعة على الورق، رأى فيها ما يشبه الوحي البصري، إذ اكتشف جمالًا خاصًا في تلقائيتها، جمالًا ذكّره بطفولته الأولى حين كان يخط بالقلم القصبي على اللوح الخشبي المطلي بالطين والصمغ الأسود. في تلك اللحظة أدرك أن في الخطوط البسيطة طاقة تعبيرية كامنة لا تقل عمقًا عن الأشكال المعقدة، وأن العفوية أحيانًا تكشف عن روح الفنان أكثر مما تكشفه الدراسة المتأنية، ومن هنا بدأت حكايته الفنية الحقيقية، حيث تحوّل الخط من مجرد عنصر بنائي إلى حامل دلالي وبصري يختزن ذاكرته وانفعاله، معلنًا بذلك ولادة مرحلة جديدة في تجربته التشكيلية.

بدأ الفنان التشكيل عمر كوران يتأمل في ماهية الخطوط التي كانت في البداية مجرد أثر عفوي على الورق، ثم تحوّلت أمام عينيه إلى كائن بصري حيّ يحمل إمكانات لا محدودة للتعبير والتواصل، أخذ يطرح على نفسه سلسلة من الأسئلة العميقة، كيف استطاع الإنسان، منذ فجر التاريخ، أن يحوّل الخط إلى وسيلة للتعبير عن ذاته؟، وكيف تمكنت هذه العلامات البسيطة، المنحنية أو المستقيمة، من بناء جسور بين الأفراد والشعوب عبر العصور؟، لقد أدرك أن الخط ليس مجرد أثر مادي، بل لغة رمزية متجذّرة في الوعي الإنساني، استطاع الإنسان بفضلها أن ينقل أفكاره ومشاعره، وأن يخلّد ذاكرته الجمعية والفردية على السواء، ومن خلال هذا التأمل، تبلورت لديه قناعة بأن الخطوط تمتلك قدرة خارقة على توليد المعنى، وأنها ليست محصورة في نطاقها الجمالي فحسب، بل تمتد إلى فضاءات التواصل الإنساني، فهي الوسيلة التي بها تشكّلت لغات العالم، وتنوّعت طرائق التعبير باختلاف البيئات والثقافات، فكل خط يحمل في طيّاته أثر المكان والزمان والوجدان الذي انبثق منه. هنا استعاد عمر قول ابن سينا: “إن كتابة الأحرف إنما اختلف حالها بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها”، ليدرك أن الكتابة ليست مجرد نظام من العلامات، بل انعكاس مباشر لتحوّلات الفكر والمشاعر، وأن الخط بحد ذاته يتلون بانفعالات الإنسان وتجاربه، بهذا الوعي الجديد، صار عمر ينظر إلى الخط بوصفه جسرًا للتواصل بين الذات والآخر، بين المرئي والمجرد، بين الصمت والنطق، فهو قادر على حمل المشاعر الجميلة كما السيئة، وعلى بثّ طاقة عاطفية تنتقل من الفنان إلى المتلقي دون وسيط لغوي مباشر، ولأن الخط في جوهره فعل وجداني، فإنه يعكس الانفعالات الداخلية للإنسان، قلقه، فرحه، توتره، وحتى سكينته. من هنا، بدأ عمر يرى في الخط أفقًا فنيًا وإنسانيًا رحبًا، لا يقتصر على التشكيل الجمالي، بل يتجاوزه إلى فعل تواصلي وروحي يجعل من الأثر البصري لغة قائمة بذاتها، قادرة على أن تتحدث بلسان القلب والعقل معًا، لقد تحوّلت خطوط عمر في تجربته الفنية إلى كيانات بصرية غامضة، تشبه في حضورها شظايا كلمات متفككة أو أحجارًا أثرية تعود إلى حضارة اندثرت، لكنها لا تزال تبثّ فينا أثرها الصامت. كانت تلك الخطوط تنبض بروح البحث لا عن شكل جديد فحسب، بل عن لغة بديلة تتجاوز حدود النطق والكتابة، لغةٍ نقيةٍ تشبه همس القلب حين يعجز اللسان عن الكلام. فبينما يهرع العالم إلى ازدحام الصور والأصوات والخطابات، اختار عمر أن يسلك طريقًا معاكسًا، طريق الصمت المعبّر، الذي يرى في أثر الخط وسيلة لتطهير المعنى من ضجيج الكلام ومن شوائب الإيديولوجيا والتضليل. لقد أراد أن يحرر اللغة من إسارها، وأن يعيدها إلى حالتها الأولى، إلى براءتها الأصلية التي لم يلوثها الاستعمال السياسي أو المصلحي أو الدعائي.

إن ما يقدمه عمر كوران في أعماله ليس مجرد تشكيل فني أو بحث في الجماليات، بل موقف وجودي ومعرفي من اللغة ومن العالم في آن واحد، فهو يعي أن الكلمات لم تعد دائمًا وسيلة للتواصل، بل كثيرًا ما أصبحت جدارًا يحول بين الإنسان والإنسان، وأن كثرة الكلام لا تعني بالضرورة عمق الفهم، بل قد تكون قناعًا يخفي هشاشة المعنى، لذلك، جاءت خطوطه كمحاولة للبحث عن جوهر التواصل الإنساني خلف قشور الخطاب المعلّب، وكصرخة فنية صامتة تقول إن الصدق في التعبير لا يحتاج إلى كلمات، بل إلى أثرٍ صادقٍ نابعٍ من الداخل، في عالمٍ تهيمن عليه البروباغاندا وتسيطر عليه الآلة الإعلامية وتزيف الحقائق، تصبح الكتابة بلغة القلب فعل مقاومة، فـلغة القلب التي يسعى عمر إلى خلقها هي لغة غير منطوقة وغير مكتوبة، لكنها محسوسة، إنها لغة العيون قبل الآذان، والقلوب قبل العقول، لغة لا تخون لأنها لا تدّعي امتلاك الحقيقة، بل تكتفي بالإصغاء إلى نبض الوجود، هذه اللغة الجديدة التي يقترحها عمر كوران لم تكن بديلاً عن اللغة اللفظية، ولكنها امتدادًا لها في منطقة الصمت، حيث تبدأ المعاني العميقة بالظهور حين يصمت الكلام، في أعماله، يصبح الصمت ليس غيابًا، بل حضورًا آخر، حضورًا مفعمًا بالاحتمالات والتأويلات، كأن كل خط يرسمه يفتح بابًا نحو حوار غير منطوق بين الفنان والعالم، هكذا تحولت لوحات عمر إلى مساحات من الصمت المشترك، فضاءات يتقاطع فيها المتلقي مع الأثر دون وسيط لغوي، ليشارك في تجربة شعورية قائمة على التأمل لا على الفهم المباشر. فكل لوحة عنده أشبه باعتراف جماعي بأن الكلمات قد خذلتنا، وأن ما نبحث عنه من صدقٍ وجمالٍ لم يعد يسكن اللغة، بل يتوارى خلفها، إنها دعوة للعودة إلى ما قبل اللغة، إلى اللحظة الأولى التي كان فيها الإنسان يعبّر بنظراته وإيماءاته قبل أن تُفرض عليه قوالب الكلام الجاهزة، في هذا السياق، يمكن اعتبار مشروع عمر نوعًا من المقاومة الجمالية في وجه الاستهلاك اللغوي المفرط، ومواجهة رمزية ضد ابتذال المعنى في زمن تتكاثر فيه الشعارات وتختفي الحقيقة، إن أعماله تقول إن الجوهر يبدأ حيث تنتهي القدرة على التعبير، وإن العجز عن النطق ليس فقرًا بل غنى، لأنه يفتح المجال لتجلّي الصمت كقيمة إنسانية وروحية. فالصمت في لوحاته ليس خواءً، بل امتلاءٌ بالمعنى، هو اللغة التي تنصت ولا تتكلم، تشعر ولا تشرح، هكذا، تتحول خطوطه إلى أثر وجودي، وإلى نوع من الكتابة التي لا تكتب شيئًا محددًا لكنها تقول كل شيء، إنها كتابة بالروح لا بالقلم، كتابة ترفض أن تُختزل في معنى واحد لأنها تنتمي إلى فضاء التأمل المفتوح، ومن هنا، فإن تجربة عمر ليست مجرد رحلة في الشكل، بل رحلة في جوهر الإنسان نفسه، في حاجته الدائمة إلى التواصل الصادق، في توقه إلى لغة نقية لا تزيّف ولا تُؤدلج، لغةٍ تتحدث بالصمت وتُفهم بالبصيرة لا بالبصر، بهذا المعنى، تصبح أعماله مرآة لعصرٍ أرهقه الكلام، فاختار أن يعالج عجزه بالصمت، وأن يمنح للخطوط مهمة ما كانت للكلمات لتقدر عليها، أن تقول الحقيقة دون أن تنطق بها، واختار حروفا للتعبير لا يفهمها إلا من يستطيع فك طلاسمها والغوص في عمقها التجريدي، الذي لا يكشف عن سره إلا لمن منح قلبه لأعماله واستخدم الفكر التشكيلي الذي يراهن على القراءة العميقة للبعد الرابع.

إن اختيار الفنان عمر كوران وانعطافه نحو التجريد، يعود بالاساس إلى جملة من الدوافع الفكرية والجمالية التي تراكمت في تجربته عبر السنوات، فالتجريد بالنسبة إليه ليس هروبًا من الواقع كما يعتقد البعض، ولكنه غوصٌ عميق في جوهره ومحاولة للقبض على ما لا يُرى بالعين المجردة، بل يُحسّ بالبصيرة والحدس، إنه رحلة نحو اللامرئي، نحو ما يتجاوز السطح والزخرف، بحثًا عن البنية الداخلية للأشياء، وعن الطاقة الخفية التي تجعلها تحمل معناها الخاص، بهذا المعنى، يمثل التجريد عند عمر تحررًا من قيود التمثيل المباشر للواقع، ومن أسر المحاكاة البصرية التي تحصر المعنى في المألوف والمحدد، فهو يسعى إلى خلق مساحة مفتوحة للتأويل، حيث لا تُملى على المتلقي قراءة واحدة، بل يُترك له المجال ليشارك في صنع المعنى عبر تفاعله الذاتي مع اللوحة، في هذا الأفق، يرى عمر أن كل متلقٍّ يرى في العمل التجريدي عالمًا مختلفًا عن الآخر، لأن التجريد لا يصف الواقع بل يستدعيه رمزيًا، ولا يحاكي الأشياء بل يوقظ إحساسًا بها، لذلك، فالتجريد بالنسبة له لغة بصرية كونية تتجاوز اللغات القومية والاختلافات الثقافية، لأنها تعبّر عن الإنسان في حالته الأولى، عن اللاوعي الجمعي والمشاعر الخام التي تسبق التفسير والوعي. ومن خلال هذه اللغة، يصبح الفنان مترجمًا لذبذبات داخلية وأحاسيس لا يمكن حصرها في الكلمات، بل تُنقل عبر الإيقاع اللوني، والكتلة، والخط، والفراغ، ولأن عمر ابن هذا العصر، فإنه يدرك أن التجريد ليس مجرد اتجاه جمالي، بل هو أيضًا موقف وجودي من أزمات الحاضر، فالعالم الذي يعيشه مليء بالصور والرموز والضوضاء البصرية، حتى غدا الواقع نفسه مشهدًا متشظيًا فاقدًا للمعنى، ومن هنا، جاء التجريد لديه كمقاومة جمالية في وجه هذا التشظي، بحثًا عن الجوهر بدل المظهر، وعن الصدق بدل التجميل، وعن الصمت الداخلي في مقابل صخب العالم الخارجي، إنه في جوهره فعل تأمل أكثر مما هو تصوير، وسعي لاستعادة التوازن بين الذات والكون، بين المعنى والفراغ، يمكن إدراج أعمال عمر كوران تحت مسمى “شذرات” أو “بقايا كلمات”، كما يحب هو أن يصنفها، فكل عمل لديه أشبه بما تبقى من جملة ناقصة، أو ما يطفو على السطح من أثر حوار لم يكتمل، عمر يشتغل في فنه على فكرة الكلمة، على صدقها وقوتها وسلطتها، يتأمل كيف تتحول الكلمة إلى أداة بناء أو هدم، إلى صوتٍ يشفي أو يؤذي، إلى وعدٍ أو خديعة، إنه يعي أن الكلمات كائنات حيّة، قادرة على أن تطرب وتسعد كما يمكنها أن تغضب وتحزن، وأن تمارس أحيانًا سلطة التضليل والتلاعب بالعقول. لذلك، جاءت أعماله كمحاولة لإعادة مساءلة هذه الكلمة، لتعرية قناعها وكشف ما وراء بريقها اللغوي.

في ظل التحولات التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي، ازدادت هذه الأسئلة إلحاحًا في وعيه، فالعالم الرقمي المعاصر، كما يرى عمر، غيّر طبيعة اللغة والتواصل، حتى اختلط الصدق بالزيف، وتماهت الحقيقة مع الخداع. الكل يتحدث، الكل يكتب، الكل يبثّ صوته، لكن نسبة الصدق تقلّ وتتآكل، فيما ترتفع الأصوات الفارغة التي لا تقول شيئًا حقيقيًا. لقد صارت الكلمات تُستهلك حتى فقدت معناها، وصار التواصل نفسه أزمة لا وسيلة للفهم، وهنا وجد عمر في التجريد ملاذًا، لأنه يتيح له أن يتكلم دون كلمات، أن يعبر دون خطاب، أن يستبدل الثرثرة البصرية بلغة الصمت والرمز، إن أعماله في النهاية ليست مجرد تجارب لونية أو تشكيلية، ولكنها تجسيد لفكرة فلسفية حول اللغة والصدق والمعنى في زمن فقد الإيمان بالكلمة، فالتجريد عنده ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لاكتشاف لغة جديدة، لغة القلب والحدس، التي لا تخون، لأنها لا تدّعي امتلاك الحقيقة فقط، وتتعداه إلى فضاء البحث الدائم عنها، هكذا تتجاوز تجربة عمر حدود الفن لتصبح تأملًا في ماهية الوجود الإنساني، في علاقته بالكلمة، بالصورة، وبالعالم الذي يغرق أكثر فأكثر في وهم التواصل وغياب المعنى.




