قراءة في مسيرة الفنان التشكيلي رشيد شعرير: تجربةمفتوحة تتغذى من الذاكرة المحلية وتتطلع إلى الأفق الكوني

قراءة في مسيرة الفنان التشكيلي رشيد شعرير: تجربةمفتوحة تتغذى من الذاكرة المحلية وتتطلع إلى الأفق الكوني

ولد الفنان التشكيلي رشيد شعرير في مدينة آزرو في بيئة تنصت إلى الخشب كما إلى الدعاء، في حضن عائلة أمازيغية بسيطة تنحدر من قرية تجماصت التابعة لمدينة تنغير( الجنوب الشرقي للمغرب) ، هناك حيث تمتد الجذور في عمق التراب والذاكرة منذ أربعينيات القرن الماضي، كانت أسرته تنتمي إلى سلالة حرفيين مهرة احترفوا صناعة الأقفال الخشبية وآلات النفخ التقليدية المعروفة في المنطقة باسم الرابوز، وهي حرفة تجمع بين الحس الجمالي والدقة الميكانيكية، وبين النفع والرمز، تلك الورشة العائلية الصغيرة لم تكن مجرد فضاء للعمل، بل كانت أول مدرسة جمالية تلقّى فيها الطفل معاني الإيقاع والتناسق والاتزان، وتعلّم منها أن كل قطعة خشب تُخفي في جوفها روحًا تنتظر من يُنصت إليها، في ذلك الجو المشبع برائحة خشب الأرز والعرعار والجوز، كانت حواس الطفل تتفتح على العالم من خلال الملمس واللون والرائحة والصوت، كان يسمع في احتكاك الأزميل بالخشب نغمةً لا تقلّ شاعرية عن ترتيل المساء، ويرى في تماوج نشارة الخشب المتساقطة على الأرض صورةً للزمن وهو ينحت شكله الخاص، هناك، بين الأدوات البسيطة والوجوه المألوفة، تشكّل وعيه الأول بالفن؛ حيث بدأ يتشكل وعيه بالنقش والنحت ليس مهة أب تورَّث، ولكنها طقسًا سريًا يعيد الإنسان من خلاله تشكيل الوجود على مقاس رؤيته الخاصة، لقد كانت النجارة بالنسبة إليه فنًّا قبل أن تكون حرفة، ومادة الخشب أوّل أفقٍ تخييلي قبل أن تصير خامة تشكيلية في أعماله اللاحقة، كان يرى في كل قطعة خشب كائنًا حيًّا يحمل ذاكرة الجبل، وأن على الفنان أن يحرّره من صمته عبر لمسٍ ذكي وصبرٍ طويل، ومن هنا يمكن أن نفهم أن شروده الطفولي، الذي كان يراه الكبار انقطاعًا عن الواقع، أو هروبا إلى حيث تخوم الأسئلة القلقة، لم يكن في حقيقته سوى انغماسٍ في جوهر الأشياء؛ بحثًا عن المعنى الخفي الذي تسكنه المادة، لقد كان الطفل الصغير يتأمل الظلال كما يتأمل الضوء، ويراقب الفراغ كما يراقب الكتلة، وكأن وعيه البكر كان يتدرّب باكرًا على فهم العلاقات البصرية التي ستصبح لاحقًا جوهر تجربته التشكيلية، ومع مرور الوقت، بدأ رشيد شعرير يُدرك أن الفن ليس ترفًا بصريًا، بل هو شكل من أشكال المعرفة، وطريقة لتفكيك العالم وإعادة تركيبه وفق منطقٍ جمالي، في ورشة والده، كان يكتشف كيف تتحوّل الفوضى إلى نظام، وكيف تُنحت الفكرة من المادة، وكيف يمكن لحركة اليد أن تكون استجابةً لموسيقى خفية لا تُسمع إلا لمن يُصغي جيدًا، وكيف تتحول المادة من قطعة باردة جافة، إلى قطعة تنبض بالحياة وتوحي بمعنى، تلك التجارب الأولى كانت بمثابة تمرين روحي على الصبر والانتباه، وعلى التوازن بين القوة والنعومة، بين الضربات الدقيقة للأداة والفراغات التي تمنح الشكل تنفّسه، حين شبَّ الفتى، صار الخشب بالنسبة إليه ذاكرة وجودية أكثر منه مادة للعمل؛ فيه يرى أثر الزمن، وتشققاته تُذكّره بخطوط الوجوه التي عبرت الحياة، لذلك لم يكن غريبًا أن يتطور حسّه الجمالي لاحقًا نحو البحث في ثنائية المادة والضوء، واشتغالٍ متواصل على مفهوم الفراغ كعنصر مكمّل للتكوين لا غيابه، في أعماله، تتقاطع الظلال مع البريق، وتتجاور الخشونة مع النعومة، كما لو أن الفنان يسعى باستمرار إلى تحقيق مصالحة بين النقيضين، بين ما يُرى وما يُحَسّ، بين الكتلة التي تُعلن حضورها والفراغ الذي يُضفي عليها المعنى، في هذه العوالم كان رشيد يفكر بعمق ويناقش الوجود بكل مسالكه، إلى اين يقود كل هذا؟. من الطرائف اتي يستحضرها رشيد جيدا أن المدرسة الابتدائية التي كان يدرس فيها تقع على بُعد خطوات قليلة من بيته، لكن مطعمها الصغير بدا كعالم بعيد، لا يُسمح بدخوله إلا لقلة مختارة من العائلات المعسرة، كانت رائحة “اللوبيا” (الفاصوليا البيضاء) الساخنة تمتزج بعبق الخبز والتمر فتغزو الممرات، وتغري الحواس أكثر من أي درس في الحساب أو الإملاء، وذات يوم، عنت له فكرة “عبقرية” لا تخلو من لمسة فنية، أن أصنع بطاقة مطعم مزوّرة من غلاف دفتر “السبع”، أضاف عليها ختمًا ملونًا وتوقيعًا متقنًا، لم يحتفظ بها لنفسه، بل بدأ يصنع بطائق أخرى ويبيعها لزملائه بدرهم للبطاقة. ازدهرت “التجارة” بسرعة مذهلة، حتى اكتشف المسؤولة عن المطعم السرّ، فانكشف أمره، واستدعاه الحارس العام للمدرسة إلى الإدارة، وكان ما زلت يرسم في آخر الصف، وهناك، كانت “الفلقة”(أسلوب العقاب الذي كان سائدا في تلك الفترة، الضرب على الرجلين) في انتظاره، كدرسٍ لا يُنسى، في ذلك اليوم تعلم رشيد أن “اللوبيا” قد تكون شهية، لكن طعمها يصبح مرًّا حين تتبعها صفعة من دروس الحياة.

إن تجربة رشيد شعرير هي في جوهرها رحلة في الإنصات؛ إنصاتٌ للمادة كما للحياة، وللجذور كما للأفق، لقد ظلّ أمينًا لتلك اللحظة الأولى التي لامس فيها الخشب بيده الصغيرة، حين أدرك أن الفن لا يولد من الرفاهية بل من الحميمية، من علاقةٍ حقيقية بين الإنسان والعالم الذي يحيط به. لذلك يمكن القول إن مسيرته ليست مجرد تطور مهاري، بل هي استمرارية روحية لطقس طفولي تحوّل إلى فلسفة في النظر والخلق، هكذا، انبثق من عمق تلك الطفولة المتشظية في دوار صغير فنانٌ يبحث في المادة عن اللامرئي، وفي الشكل عن المعنى، وفي الضوء عن ذاكرة المكان، وفي الوجود قيمة مضافة لمعنى الانوجاد، ولعلّ ما يميز رشيد شعرير أن أعماله تسعى إلى تمجيد الخشب وإلى الإصغاء إلى صمته، لأن الصمت – في عالمه التشكيلي – هو اللغة الأولى للجمال، والفراغ هو المساحة التي تنبعث منها الحياة. يصف الفنان التشكيلي رشيد شعرير والده بـ “المعلّم الأول”، وهو توصيف يتجاوز حدود العاطفة الأُسرية ليبلغ عمقًا تربويًا وجماليًا نادرًا؛ إذ لم يكن الأب مجرّد حِرفيٍّ يشتغل على الخشب، ولكنه كان مربّيًا بالمعنى الفني للكلمة، في ورشته الصغيرة بقرية تجماصت، كان الابن يتعلم أبجدية الصبر والدقة والانصات، من إيقاع المطرقة على الخشب، ومن الفراغ الذي يسبق النقشة الأولى، ومن رائحة الأرز والعرعار والجوز التي كانت تختزن ذاكرة اليد والزمان، كان الأب يقول لابنه دون أن يتلفّظ “الفن ليس ما تراه العين، بل ما تكتشفه اليد حين تصغي”، هذه الفلسفة الصامتة كانت درسَه الأول في الجمال، لقد شكّل الأب نموذجًا لما يمكن تسميته بـ التربية الجمالية التقليدية، تلك التي تتأسس على الفعل والممارسة، لا على القول والتلقين. فبينما كان الطفل يراقب كيف تتحول قطعة الخشب الجامدة إلى شكل نابض بالحياة، كان في العمق يتعلم كيف يترجم الصمت إلى معنى، وكيف تتحول الدقة الحرفية إلى حسٍّ جماليٍّ داخلي، ولعلّ هذا ما جعل رشيد شعرير ينظر لاحقًا إلى الخشب لا باعتباره مادة صلبة، بل ككائن حيٍّ يحمل في تجاويفه صوت الزمن، وكأن الفن كله تمرينٌ على الإصغاء إلى هذا الصوت العميق. غير أن التجربة التكوينية لابن تنغير لم تقف عند حدود الورشة العائلية. فقد مثّلت المدرسة المغربية في ثمانينيات القرن الماضي الفضاء الثاني لتكوينه الجمالي. هناك، في فصولها البسيطة وساحاتها المزدحمة، اكتشف أفقًا جديدًا للجمال، أفقًا جماعيًا يحتفي بالخيال والهوية والاحتفال الوطني، كانت مسابقات الرسم المدرسية واحتفالات عيد العرش (الثالث من شهر مارس من كل عام) والمناسبات الوطنية، لحظاتٍ يتفجر فيها ذلك الشغف الطفولي باللون والشكل، في تلك البيئة، بدأ شعرير يدرك أن الفن لغة تواصل تتجاوز الحرفة الفردية إلى الفعل الجماعي، وأن اللوحة يمكن أن تكون ساحة لقاء بين الذاكرة والخيال، في هذه الفترة، سيكون الأستاذ والفنان التشكيلي محمد حستي، ذو الأصول الأمازيغية العميقة بثقافتها وحكمتها، يقول رشيد شعرير:”كان محمد حستي معلّمًا يلقّن الحرف واللون، ومربّيًا يغرس فينا حب الجمال والمسؤولية، وصديقًا يجعل من المشرفة درسًا في الإنسانية، وفنانًا ملهِمًا أشعل في داخلي الشرارة الأولى للفن، حفزني كثيرا للمشاركة في كل المسابقات وكنت دائما الفائز الأول، وغالبا ما كان يصحبني إلى منزله لكي اشاهد أعماله وأتلمس طرق اشتغاله، حقا كان صديقا أكثر منه أستاذا، ذات يوم طلب مني بحثًا عن الصناعة التقليدية، إدراكًا منه لجذوري الحرفية، قدّمت له ملفًا غنيًا عن فنّ الخشب والزربية الأطلسية، فكانت تلك اللحظة ولادتي الأولى مع الفن، وإلى جانب المدرسة، انفتح على فضاء آخر لا يقل أهمية، دار الشباب القدس بمدينة فاس عام 1989، التي كانت في تلك الفترة منبعًا لتجارب إبداعية واعدة، هناك شارك في ورشات الرسم والمسرح، وانخرط في إعداد الديكورات الركحية لعروض الهواة، فاكتشف العلاقة المعقدة بين الفضاء واللون، بين الحركة والظل، بين الكلمة والصورة، لقد كانت تلك التجربة بمثابة معبر من الخشب إلى الخشبة، ومن السطح التشكيلي إلى العمق المسرحي، ففي المسرح، وجد رشيد شعرير إمكانية تحويل اللوحة إلى عالمٍ يتحرك وينبض ويُخاطب الحواس جميعها. وفي سن الخامسة عشرة، سيصل إلى اللحظة الفاصلة في مساره المبكر حين فاز بالجائزة الوطنية الأولى في المهرجان الوطني لإبداعات الشباب عن سينوغرافيا مسرحية “الإرث” كانت تلك الجائزة اعترافًا بموهبةٍ تجاوزت حدود الهواية، وشرارةً جعلته يدرك أن الفن يمكن أن يكون قدرًا ومسؤولية في آن واحد، في تلك اللحظة التقت عين الرسّام بخيال المسرحي، وتوحّد في ذاته البصر بالبصيرة؛ إذ رأى في الركح امتدادًا للّوحة، وفي اللون امتدادًا للحركة، وفي الضوء كائنًا ثالثًا يربط بين الفضاءين، منذ تلك التجربة، بدأت تتبلور في شخصه ازدواجية الخشبة واللوحة، وهي ثنائية ستظلّ ترافقه في جميع مراحل تطوره الفني، فكما يستنطق الخشب ليكشف عن سره وصمته، يستنطق الفضاء المسرحي ليكشف عن جماليات التكوين والغياب، ومن خلال أعماله اللاحقة في الأداء والفن التركيبي، ظلّ يبحث عن نقطة التماس بين البصري والحيّ، بين التشكيل والمشهد، مؤمنًا بأن الفن ليس مجرد منتج بصري، بل حدث وجودي يعيد الإنسان إلى جوهر تجربته الأولى مع العالم، وهكذا، من “المعلم الأول” إلى جائزة الشباب، ومن الورشة العائلية إلى الركح الوطني، تشكّلت تجربة رشيد شعرير كرحلةٍ تربوية وجمالية متكاملة، جمعت بين الصنعة والتأمل والتربية، بين اليد والعين، بين الحرفة والرؤية، تجربةٌ تؤكد أن الفن حين يولد من الصبر والإصغاء يصبح أكثر من مهنة أو موهبة؛ يصبح طريقة في الحياة، ووسيلة لإعادة الإنصات إلى العالم كما يُنصت إلى الخشب في صمته العميق.

بين عامي 1992 و1995، التحق الفنان رشيد شعرير بشعبة الفنون التشكيلية بثانوية مولاي إسماعيل بمدينة مكناس، وهي مرحلة شكلت منعطفًا حاسمًا في مساره الفني والفكري، فبعد أن تشرّب في طفولته لغة الخشب وطقوس الورشة الأبوية، وجد نفسه الآن في فضاء جديد يختلف عن التجربة الحرفية التي نشأ عليها؛ فضاء مؤسسي يقوم على الدراسة والتحليل والملاحظة والنقد والنقاش، حيث بدأ ينتقل تدريجيًا من الفطرة إلى الوعي، ومن الحس إلى النظر، ومن العفوية إلى المنهج، إذ أدرك أن الفن  يقوم على الموهبة والذوق، وعلى معرفة منظمة، لها تاريخها ونظرياتها ومفاهيمها وتقنياتها، في قاعات الدرس، وبين الجدران التي تزيّنها نسخ من أعمال كبار الرسامين، اكتشف شعرير أن الفن التشكيلي ليس مجرد فعلٍ تعبيري، بل حقل معرفي متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الجمالي بالفلسفي، والتقني بالثقافي، والذاتي بالكوني، لقد تعلم أن الخط واللون والظل والفراغ بالإضافة إلى كونها عناصر زخرفية فهي مفردات في لغة بصرية دقيقة يمكن من خلالها التفكير في العالم والتعبير عن الوجود، بهذا الوعي الجديد، بدأ يراقب الأشياء بعين الفنان لا بعين المتلقي، ويعيد النظر في الطبيعة والوجوه والرموز باعتبارها عوالم قابلة للترجمة التشكيلية، وخلال هذه الفترة، انفتح على التيارات الفنية العالمية الكبرى، خصوصًا الانطباعية والرومانسية، وتأثر على نحوٍ خاص بأعمال كلود مونيه وروم بروند، لما تحمله من شاعرية الضوء وعمق الإحساس بالمكان، غير أن رشيد شعرير لم يقع في فخ التكرار أو المحاكاة كما يحدث عادة في البدايات، بل تعامل مع تلك التأثيرات كمنابع معرفية ومجالات للتأمل الجمالي، لقد كان شغله الشاغل هو أن يجد لنفسه موقعًا داخل الخريطة الجمالية الكونية دون أن يفقد خصوصيته المحلية، فشرع في البحث عن نغمةٍ بصرية تنبع من تربته الثقافية وتتحاور في الوقت نفسه مع الحداثة الفنية العالمية/ من هنا بدأ اهتمامه المتزايد بموضوعات الفولكلور والفانتازيا والطقوس الشعبية، حيث وجد في الموروث المغربي خزانًا بصريًا ثريًا يمكن الاشتغال عليه بأساليب معاصرة، لم يكن التراث بالنسبة إليه مجرد حمولة ماضوية أو زخرفة تراثية تُستعاد من باب الحنين، بل كان طاقة رمزية حيّة، قابلة لأن تتحول إلى لغة تشكيلية حديثة، ففي رموز الحناء، وحركات الخيل، وزخارف الزرابي، وألوان الأسواق الشعبية، كان يرى إمكانات جمالية هائلة تعبّر عن روح المكان المغربي وعن ذاكرته الجمعية، لقد أدرك شعرير في تلك المرحلة أن الهوية ليست نقيض الحداثة، بل أحد منابعها الأصيلة، وأن الفنان الحقيقي هو الذي يستطيع تحويل جذوره إلى رؤيا كونية، هكذا بدأ يبني مشروعه على وعي مزدوج، وعي بالذات ووعي بالعالم، من مكناس انطلق نحو مغامرة فنية تجمع بين التجريب البصري والانتماء الثقافي، واضعًا بذلك الأسس الأولى لرؤيته التي ستتبلور لاحقًا في أعماله التركيبية والمعاصرة، حيث يصبح التراث مادة حية يعاد تشكيلها وفق منطق الفن الحديث، لا بوصفها ماضٍ يُستعاد، بل مستقبلًا يُعاد صياغته باللون والضوء.

في مرحلته بالمركز التربوي الجهوي بمدينة طنجة بين (1995–1997)، بدأت ملامح شخصية رشيد شعرير تتبلور في صورةٍ مزدوجة ومتكاملة، فنانٍ ومربٍّ في الوقت نفسه، في تلك المرحلة المفصلية، لم يكن يسعى فقط إلى التكوين المهني في حقل التربية، بل كان يبحث عن معنى أعمق للمعرفة، عن الجسر الذي يربط الفن بالتربية، والخيال بالتفكير، والحس بالمسؤولية، كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ “التربية فنٌّ، والفن تربية، وبينهما يولد الإنسان الجميل”؛ وهي عبارة تلخّص فلسفته التربوية والجمالية التي سترافقه لاحقًا في مشواره الفني والأكاديمي، لقد وجد شعرير في التربية امتدادًا طبيعيًا للفن، كما وجد في الفن تجسيدًا أسمى للتربية، فالفنان في نظره لا يختلف كثيرًا عن المربّي، كلاهما يصوغ الوجدان، ويحرّك الخيال، ويزرع في المتلقي القدرة على رؤية العالم بعيون مختلفة، من هذا المنطلق، لم يكن ينظر إلى الدرس التربوي باعتباره لحظة تلقينٍ معرفي أو مجال للحصول على العلامة الكاملة من أجل شهادة التدريس، بل باعتباره فعلاً جماليًا وتواصليًا يُستعاد فيه جوهر التجربة الفنية نفسها، وهكذا تحولت حصة التربية التشكيلية في تصوره إلى مختبرٍ للتعبير والتفكير البصري، لا إلى تمرينٍ تقني أو تقليدٍ أكاديمي جامد، في القاعات الدراسية، كان يحاول أن يزرع في تلاميذه حسّ الاكتشاف، وأن يدفعهم إلى التفكير في الصورة لا كمجرد شكل، بل كأفق للفهم والتأمل، كان يؤمن أن الفن يعلّم الإنسان كيف يرى قبل أن يعلّمه كيف يرسم، وأن التربية الحقيقية هي التي تُنمّي الذائقة قبل أن تزرع المهارة، لذلك، كانت تجربته التربوية امتدادًا فلسفيًا لمشروعه الفني، إذ لم يفصل بين العمل التشكيلي والعمل البيداغوجي؛ فكلاهما عنده وسيلة لتربية الحس الجمالي وصقل الوعي الإنساني، ومع مرور الوقت، بدأ هذا التوجه يأخذ شكلًا أكثر وضوحًا في مساره، فانبثق منه ما يمكن تسميته بـ الاتجاه الفني–القيمي، الذي يزاوج بين الجمال والمعنى، وبين الإبداع والمعرفة، لقد أدرك شعرير أن الجمال لا يكتمل دون أن يستند إلى قيمة إنسانية، وأن الفن إن لم يُسهم في تهذيب الروح وتوسيع أفق الوعي، فإنه يفقد جوهره، من هنا نشأت لديه رغبة متزايدة في البحث عن الأسس الفكرية والجمالية لهذا التداخل بين الفن والتربية، وهو ما سيتبلور لاحقًا في أبحاثه حول الخط العربي، باعتباره ميدانًا تتعانق فيه الرمزية الجمالية والدلالة الروحية، تلك المرحلة (الطنجاوية إن صح التعبير) كانت لحظة نضجٍ فكري وتحوّل وجودي؛ فيها اتخذ رشيد شعرير موقعه كفنان يرى في التربية طريقًا إلى الجمال، وفي الجمال أسمى أشكال التربية، فكان نتاجها إنسانًا يؤمن أن الفن لا يُدرَّس فحسب، بل يُعاش ويُمارَس كقيمة تُهذّب الذوق وتبني الوجدان.

ابتداءً من عام 2018، انطلق الفنان رشيد شعرير في رحلة جديدة نحو عوالم الحرف العربي، رحلةٍ تمزج بين الجمال والمعنى، بين الأصالة والتجريب، بين الروح والمادة، كان يرى في الحرف امتدادًا لذاكرته الأولى مع الخشب، تلك الذاكرة التي ورثها عن والده الحرفيّ النحّات. فكما كان الأب ينصت إلى الخشب ليكتشف شكله الداخلي، بدأ شعرير ينصت إلى الحرف العربي ليفكّ شيفرته الجمالية، وكأنه ينصي إلى أنين الحرف في قصبة الخيزران، ليصبح الحرفٍ يشبه قطعة الخشب المنحوتة؛ يحمل في تجاويفه ذاكرة المادة ودفء اليد التي صاغته، وفي كل انحناءة من القلم تسكن روح النحّات الأول، الذي جعل من الحركة وسيلة للعبور من المادي إلى الروحي، انكبّ شعرير خلال هذه المرحلة على دراسة كلاسيكيات الخط العربي بتنوّع مدارسه واتجاهاته، من المدرسة المشرقية بأنواعها (الثلث، النسخ، الكوفي…) إلى المدرسة المغربية بخطوطها الأصيلة (المبسوط، المجوهر، المسند، والسوداني)، وقد أولى اهتمامًا خاصًا لتطور الخط المغربي عبر المخطوطات التاريخية، باعتبارها سجلًّا حيًّا لذاكرة الأمة البصرية، وشاهدًا على تفاعل الهوية المغربية مع المحيطين العربي والإسلامي. لكن اهتمامه لم يكن توثيقيًا أو تقنيًا فحسب، بل فلسفيًا وجماليًا بالأساس؛ إذ كان يسعى إلى فهم الحرف في جوهره، إلى استكشاف كيف يتحول من علامة لغوية إلى طاقة بصرية، من أداة للتعبير إلى كيانٍ شكليٍّ نابضٍ بالحياة، ومن هذا المنطلق، لم يكتفِ شعرير بإتقان قواعد الخط، بل جعل من الكتابة نفسها مختبرًا للتشكيل، كان يسأل نفسه باستمرار، كيف يمكن للحرف أن يتخطّى دلالته اللسانية ليصبح مشهداً بصرياً؟، كيف يمكن للمدّ والانحناء والنقطة أن تتحوّل إلى نظامٍ تشكيليٍّ تجريدي يعبّر عن الإيقاع والفراغ والسكينة؟ لقد كان جوهر بحثه في هذه المرحلة هو تحرير الحرف من حدوده التقليدية دون المساس بقداسته الجمالية، هكذا تبلورت في تجربته رؤية حروفية تجريدية تقوم على الدمج بين القواعد البنيوية للحروف وبين حرية اللون والفراغ، فصار الحرف في لوحاته كائنًا متحوّلًا بين النص والصورة، بين الإيقاع الموسيقي والتكوين الهندسي. ولعبت وسائط التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا في نشر هذه التجارب، إذ شارك من خلالها أعماله الخطية المباشرة، التي لاقت صدى واسعًا بين الخطاطين والفنانين المغاربة والعرب، لما تحمله من توازن بين الاحترام العميق للتقاليد والجرأة في التجريب، غير أن ما يميز هذه المرحلة في مسار شعرير ليس بعدها التقني فحسب، بل عمقها الروحي، فقد تحوّل الخط عنده إلى تجربة تأملية، تُمارَس بالصبر والإنصات، حيث يتحاور القلم مع الوجدان، والحركة مع السكون، واليد مع الفكرة، ومع كل خطٍّ يخطّه، كان يزداد يقينًا بأن الجمال لا يسكن الفوضى، بل في النظام والدقة، وأن الحرف، في صرامته وانضباطه، إنما يكشف عن وجهٍ خفيٍّ من وجوه الروح، بهذا المعنى، لم يعد رشيد شعرير مجرد فنانٍ صانعٍ للشكل، بل صار فنانًا متأملًا، يرى في الحرف طريقًا إلى الذات، وفي الفن رحلةً نحو المطلق، حيث يتحد الجمال بالمعرفة، والمهارة بالصفاء، والخلق بالذكر.

شكّلت مرحلة التفرغ الأكاديمي عام 2020 نقطة تحوّل جوهرية في المسار الفني والفكري للفنان رشيد شعرير، إذ مثّلت لحظة نضجٍ وتأملٍ وإعادة بناء للرؤية التشكيلية التي ظلّ يبحث عنها منذ بداياته، فبعد سنواتٍ من التجريب في مجالات متعدّدة مثل السينوغرافيا والبورتريه والكاريكاتير، أدرك أن تعدّد الممارسات قد أغنى تجربته تقنيًا، لكنه في الوقت نفسه شتّت بوصلة رؤيته الجمالية، ومع هذا التفرغ، بدأ شعرير عملية تصالحٍ داخلي بين مكوّنات شخصيته الفنية، ليُعيد تركيبها في مشروع موحَّد يجمع بين التجريد الحروفي والتعبير اللوني في صيغةٍ متماسكة تعكس عمق نضجه المعرفي والوجداني، في هذه المرحلة، لم يعد اللون عنده من مجرد سطحٍ زخرفيٍّ يُستعمل لتزيين الشكل أو لملء الفراغ، إلى فضاء وجدانيٍّ وروحيٍّ يُترجم انفعالاته وتأملاته، صار اللون لغة مستقلة بذاتها، تمتلك نحوها وصرفها، وتعبّر عن المشاعر عبر تدرجات الشفافية والاختزال، لا عبر الكثافة والتكديس. ولتحقيق هذا الأفق التعبيري، اشتغل شعرير على تقنية الطبقات اللونية المتراكبة، بحيث تتحاور الألوان فوق سطح اللوحة كما تتحاور النبرات في مقطوعة موسيقية، فتتولد من تفاعلها نغمة بصرية تجمع بين الهدوء والعمق، كما لجأ إلى استعمال تقنية الكولاج بوصفها وسيلة لإغناء المادة التشكيلية وإضفاء بعدٍ ملموسٍ على اللوحة، فكان يدمج بين قصاصات المخطوطات القديمة وأمشاق الخط العربي، ليخلق بذلك تداخلًا بين ما هو بصري وما هو رمزي، وبين الذاكرة والحاضر، هذه التقنية جعلت اللوحة عنده أشبه بموقعٍ أثريٍّ للبحث الجمالي، حيث تتجاور بقايا النصوص مع آثار اللون، ويتقاطع المرئي مع المخفي في علاقةٍ تنبض بالتوتر الجمالي. وبذلك، تتحول المادة إلى ذاكرة متجسدة، والحرف إلى أثرٍ بصريٍّ حيٍّ يتجاوز كونه شكلًا لغويًا إلى كونه نَفَسًا تشكيليًا ينبض بالحياة، لقد تبلور من خلال هذه الممارسة أسلوب شخصي ناضج يقوم على الحوار الخلاق بين الأصالة والابتكار، فالحرف في أعماله لم يعد نصًا يُقرأ، بل طاقة حية تتنفس داخل الفضاء اللوني، واللون بدوره لم يعد مجرد خلفية للحرف، بل عنصرًا رمزيًا ومجازيًا يحمل في تدرجاته أثر الروح وحركة الزمن. وهكذا، أصبحت اللوحة فضاءً للتفاعل بين الضوء والظل، الملموس واللامرئي، المادة والفكرة، وكأن الفنان يسعى من خلالها إلى الوصول إلى نوعٍ من التوازن بين النظام والانفلات، بين انضباط الخط وانسياب اللون، إنّ تجربة رشيد شعرير بعد عام 2020 لا يمكن فهمها إلا بوصفها مغامرة في البحث عن الوحدة داخل التعدد، وعن الجمال داخل النظام، وعن المعنى داخل التجريد. إنها مرحلة اكتمال الرؤية، حيث تماهى الحرف مع اللون، والفكر مع الإحساس، ليولد من هذا التفاعل عالم بصري فريد، يجعل من كل لوحة تجربة تأملية، ومن كل لون صلاة صامتة تُترجم حوار الفنان مع ذاته والعالم.

في تجربة عام 2022 انفتح رشيد شعرير على أفقٍ فلسفيٍّ أعمق من أي مرحلة سابقة، أفقٍ جعل من خط الأفق محورًا رمزيًا يعبر عن علاقة الفنان بالعالم والوجود، لم يعد الأفق في أعماله مجرّد عنصر بصري يوازن بين السماء والأرض أو يحدد البعد المنظوري للمشهد، بل تحوّل إلى مجازٍ وجوديٍّ متعدّد الطبقات، يختزن في امتداده الطويل معنى التوازن بين الثبات والتحوّل، بين التأمل والانفعال، بين الصمت والحركة. لقد صار الأفق عنده مقياسًا داخليًا يزن به المسافة بين الذات والعالم، وبين الحلم والواقع، فيتحول من خطٍّ هندسي إلى فكرة فلسفية تشكّل روح اللوحة وسرّ تكوينها، لقد سعى شعرير في هذه التجربة إلى أن يجعل من اللوحة فضاءً للتأمل الوجودي أكثر من كونها مجالًا للتعبير التشكيلي فحسب. كل خطٍّ أفقي يرسمه كان بمثابة رحلة بصرية نحو الداخل، استبطانٌ للذات وهي تتأمل وجودها في مرآة اللون والفراغ. إن هذا الأفق، في تموّجاته الصامتة، لا يحدّد المشهد بقدر ما يفتحه على احتمالاتٍ لا نهائية؛ فهو الحدّ الذي يفصل بين العالمين ويصل بينهما في آن، بين الداخل والخارج، المرئي والمجرّد، الحضور والغياب. إنه حدٌّ يحافظ على النظام، لكنه في الوقت نفسه يتيح الانفلات منه، كما لو أن الفنان يوازن بين الحاجة إلى الاستقرار والرغبة في الحرية، بين الحضور المادي والامتداد الروحي، ومن خلال هذا الاشتغال الدقيق على الخط الأفقي، استطاع شعرير أن يخلق لغة بصرية هادئة وعميقة، تستدعي المشاهد إلى تأملٍ صامت، إلى لحظة انخطافٍ يتجاوز فيها الشكلُ وظيفته الجمالية ليصبح أداة للتفكير في الوجود. فالمساحات اللونية الواسعة، والطبقات الشفافة، والإيقاعات الخافتة للألوان الترابية، كلها عناصر تساهم في بناء مزاج تأملي يذكّر بلوحات التجريد الروحي عند كبار الحداثيين، لكنها عند شعرير مشبعة بنفَسٍ مغربيٍّ أصيل يستمد رموزه من الأرض والضوء والمادة، لقد أفضت هذه التجربة إلى تحوّل جوهري في فلسفة الفنان، حيث لم يعد الفن عنده مجرّد متعة بصرية أو ممارسة تقنية، بل تجربة وجودية تسائل معنى الكينونة ذاتها، فالرسم بالإضافة إلى أنه رؤيته الجديدة، اصبح إنتاجًا لشكلٍ جميل، وتعبيرا عن رحلةٍ داخل الذات، عن محاولةٍ لإدراك العلاقة بين الإنسان والزمان والمكان، وهكذا تحوّل خط الأفق إلى حدٍّ رمزيٍّ بين الفن والفكر، بين الحس والمعنى، وصارت اللوحة عنده مرآةً للروح وهي تبحث عن توازنها بين الصعود والنزول، بين الانخطاف في الجمال والرسوخ في الأرض، بهذا المعنى، تكشف تجربة الأفق في أعمال رشيد شعرير عن نضجٍ فلسفيٍّ وجماليٍّ رفيع، وعن وعيٍ بأن الفن الحقيقي لا يقف عند حدود الإبهار البصري، بل يتجاوزها ليصبح تأمّلًا في الوجود نفسه، وفي ما يربط الإنسان بسرّ العالم وامتداده في الزمن.

في عام 2024، دخل رشيد شعرير مرحلة جديدة من تجربته الفنية، يمكن وصفها بمرحلة العبور نحو الفن الحيّ، أو ما يسميه البعض “الانفتاح على فنون الأداء”. كانت هذه التجربة ثمرة شراكة فنية وإنسانية جمعته بالشاعر الزجال لحسن حاجي، في عملٍ مزج بين الكلمة والصوت والضوء والجسد، ليصوغ لحظة جمالية لا يمكن اختزالها في لوحة أو قصيدة، بل في حدثٍ زمانيٍّ متحوّل، يعيش في التفاعل الآني مع الجمهور ويذوب بانتهاء العرض، اعتمد شعرير في هذا المشروع على الإسقاطات الضوئية التي تتقاطع مع الارتجال الموسيقي، لتصنع فضاءً بصريًا وصوتيًا تتفاعل فيه الحواس جميعها. لم يكن الهدف من التجربة مجرد مزجٍ بين الفنون – كما قد يُظن – بل إعادة بناء مفهوم التلقي الفني من أساسه، بحيث لا يبقى المتفرج متلقّيًا سلبيًا، بل يتحول إلى عنصر مشارك في توليد المعنى. فالإسقاط الضوئي لا يكتمل إلا بحضور النظرة، والموسيقى لا تكتسب طاقتها إلا من ذبذبة الجسد الحاضر، والقصيدة لا تتفتح إلا في أذنٍ تصغي بحسٍّ تشكيليٍّ داخلي، وهكذا يتحول العمل الفني إلى تجربة حسية شاملة، تتقاطع فيها اللغة مع اللون، والإيقاع مع الضوء، ليُبنى جمالٌ جديد أساسه التفاعل والدهشة الآنية، تكشف هذه التجربة عن نزعة فلسفية عميقة في فكر شعرير، نزعة ترى في الفن حدثًا زمانيًا ووجوديًا أكثر منه منتوجًا مادّيًا قابلاً للحيازة. فالفن عنده ليس أثرًا يُعلّق على الجدران، بل زمنًا يُعاش وفضاءً يتحوّل بتغيّر الأنفاس والحركات، لقد أراد من خلال هذا المشروع أن يحرّر اللوحة من سطحها، وأن يطلق اللون من ثباته نحو الامتداد في الفضاء، تمامًا كما أراد أن يحرّر القصيدة من ورقها لتغدو صوتًا وصورةً وحركةً في آن، وفي جوهر هذه التجربة تبرز فلسفة شعرير التفاعلية القائمة على كسر الحواجز بين الفنون، وإعادة التفكير في العلاقة بين الفنان والجمهور، وبين العرض والتلقي، فهو لا يرى في الجمهور كتلة متفرجة، بل شريكًا في صياغة اللحظة الفنية، تمامًا كما لا يرى في العرض مجرد “عرضٍ” بل حدثًا وجوديًا يختبر فيه الإنسان حضوره في الزمن. لذلك، فإن تجربته مع لحسن حاجي كانت نقطة التقاء بين الشعر والتشكيل، بين الصوت والضوء، بين الجسد والفراغ، أي بين الفنون في أرقى حالات انصهارها، بهذه التجربة، أعلن شعرير عن عبورٍ جديد في مسيرته الفنية، عبورٍ من اللوحة الصامتة إلى المشهد الحي، ومن العمل المنغلق إلى الفعل التفاعلي المفتوح. إنها خطوة تمهّد بوضوح لانتقاله الطبيعي نحو الفن التركيبي، حيث يصبح العمل فضاءً كونيًا تتعانق فيه الفنون، ويصبح الفنان مهندسًا للحس الإنساني لا مجرد صانع للجمال.

يُعتبر مشروع “أوتار من ضوء”لعام 2026، تتويجًا لمسار طويل ومعقد من التجارب الجمالية التي خاضها الفنان رشيد شعرير، مسارٌ تميز بتعدد الطبقات وانصهار الحرف باللون والضوء والموسيقى، يقوم هذا العمل التركيبي على تنصيب أشرطة ضوئية معلقة بأطوال متفاوتة داخل فضاء مفتوح، بحيث تتفاعل مع القصيدة والموسيقى والحرف، لتنشأ تجربة حسية متعددة الأبعاد تتجاوز حدود الرؤية البصرية التقليدية. من خلال هذا الترتيب، يتحول الحرف إلى طاقة حية تنبض في الفضاء، والقصيدة إلى شكل بصري، واللون إلى نبض صوتي، ويصبح المتلقي جزءًا فاعلًا من العمل، مشاركًا في تكوينه وتفسيره، لا مجرد متفرج سلبي، في جوهر هذا المشروع، نجد استمرارًا للفلسفة الجمالية التي تبناها شعرير منذ بداياته، فلسفة ترى في الفن حدثًا زمانيًا ووجوديًا أكثر منه مجرد منتوج مادي. إذ يدعو المشروع إلى إعادة التفكير في علاقة المتلقي بالعمل الفني، بحيث لا يكتفي بالتموضع أمام اللوحة أو التكوين البصري، بل يصبح جسده وحواسه مؤشّرًا على المعنى وتجربة التفاعل. فالحركة بين الأشرطة الضوئية، وتغيير زاوية النظر، والانسجام مع الإيقاع الموسيقي، كل ذلك يمنح الجمهور دورًا نشطًا في إنتاج المعنى، ليغدو العمل الفني مساحة حية للتفاعل بين الفنان والمتلقي، بين المادة والفكرة، بين الصوت والصورة، يمثل “أوتار من ضوء” أيضًا ذروة نضج شعرير الفني، إذ يلتقي في هذا المشروع كل ما اكتسبه من خبرة في النحت والخط والسينوغرافيا والتربية التشكيلية، ليعيد صياغتها في تركيب بصري وفلسفي متكامل. فالأشرطة الضوئية ليست مجرد أدوات تركيبية، بل وسائط تحوّل المكان إلى فضاء تجريبي، يتيح استكشاف التوازن بين الثبات والانسياب، بين التجريد والرمزية، وبين الحضور والغياب. كما يعكس المشروع اهتمامه العميق بـ الحدود المتغيرة للفن في زمن تتسارع فيه التحولات الجمالية وتطغى الوسائط الرقمية، حيث يسعى الفنان إلى إعادة تثبيت تجربة جسدية وحسية ومعرفية في مواجهة هذه السيولة، بهذه المعايير، يمكن القول إن “أوتار من ضوء” ليس مجرد مشروع تشكيلي، بل محاولة فلسفية وتجريبية لإعادة تعريف الفن وعلاقته بالزمن والمكان والمتلقي، تجربة تندمج فيها الحواس والمعرفة والروح، فتتحول إلى فضاء حيٍّ يُستكشف ويُعاد اكتشافه مع كل خطوة داخل المعرض، مؤكدًا أن الفن عند شعرير ليس منتوجًا يُعرض، بل حدثٌ حيٌّ يُعاش ويُشترك فيه الجميع.

تبدو أعمال رشيد شعرير فضاءً تأمليًا مفتوحًا يتمدد وفق بواعث المتلقي وإيحاءاته، بما يعزز تجربته التأويلية الخاصة، يمكن القول إنها تتسم بتنوعها التقني والفكري، فهي ثمرة مسار طويل من التجريب والبحث في جوهر الحرف واللون والضوء والفضاء، اشتغل على تقاطع الخط العربي والفن التجريدي، مستحضرًا الحرف لا كعنصر زخرفي جامد، بل ككائن بصري نابض بطاقة رمزية وجمالية، يتجاوز وظيفته اللغوية ليغدو أثرًا وجوديًا يختزن أسئلة المعنى والعدم، فهو لا أنتمي إلى مدرسة محددة، بل ينتهج أسلوبًا حروفيًا تجريديًا يميل أحيانًا إلى المدرسة الغنائية، وأحيانًا أخرى إلى التجريدية الروحية، في أفقٍ منفتح على مقاربات الفن المفاهيمي والتنصيبي المعاصر، وعلى اختراق إطار اللوحة نحو فضاءات تشكيلية أوسع وأكثر تحررًا، تتغذى موضوعاته من الصورة الشعرية على المستويين النفسي والرمزي، ومن التأملات الوجودية التي تبحث عن لحظة توازن بين المعنى والفراغ، وبين الصوت واللون، وبين الذات والعالم، فالعلاقة بين الامتلاء والفراغ، وبين الضوء والظل، تمثل محورًا حسّاسًا في رؤيتي البصرية، إذ يتحول الفراغ إلى فضاء ناطق بالإيحاء، محاولًا تحويلها من زمن لغوي إلى زمن ضوئي وتكويني، أما على مستوى التقنيات، فتعتمد أعماله على العفوية والمجازفة) مجازفة محسوبة برهانات الدرس واستشراف الأفق) إذ آمن بالأداء المباشر وبالطاقة الانفعالية للحظة الخلق، يزاوج بين الحبر العربي والأصباغ الطبيعية أو الأكريليك، مستحضرًا البعد التراثي والصدق التاريخي للحرف العربي، ويضيف أحيانًا مواد شفافة ليصبح الضوء جزءًا من البنية التشكيلية، مولّدًا عمقًا روحيًا يتجاوز الأثر البصري البحت، كما يوظّف تقنية الكولاج مستخدمًا مخطوطات وأوراقًا مهملة، لبناء طبقات حسية من اللون والحبر تتجاور فيها صلابة السطح وشفافية المادة في حوار دائم بين الأصيل والمعاصر. فالحرف في هذا السياق ليس حضورًا شكليًا، بل أثرًا روحانيًا يوحي ببقايا لغة أزلية تتنفس في صمتها الخاص، تشكّل “اللطخة” في أعماله ضرورة حتمية، ليست انفجارًا شكليًا بل علامة وجدانية تنبع من انفعال لحظي، حيث تمتزج العفوية بالتأمل والمجازفة بالسيطرة، لا يخطط مسبقًا لتوزيع الألوان كما في الرسم الأكاديمي، بل يصغي إلى المادة وهي تتكلم، ينصت إلى توتر الحبر وجريان الأكريليك وتفاعل الماء والهواء على السطح، محاولًا القبض على الإحساس قبل أن يتبلور في شكل، إنها لغة ما قبل الكلمة وصوت اللون قبل المعنى، حيث تتوازن التلقائية مع حساسية التكوين في جوهر روح المغامرة، اعتمد رشيد شعرير على تقنية تراكب الطبقات عبر الرشّ أو السيلان أو المسح الجزئي أو الخدش، بما يمنح السطح ملمسًا زمنيًا يحتفظ بأثر كل لحظة انفعال أو سكون، ليتحوّل إلى مسرحٍ لحوارٍ بين الإرادة والعفوية، وبين النظام والفوضى، من هذا المنظور، سعت تجربته إلى إعادة الحرف العربي إلى جوهره الأنطولوجي، كعنصر يربط الروح بالمادة، ويحوّل اللوحة إلى فضاء للبحث في الجوهر الخفي للجمال والمعنى. فالحرف عنده ليس نقشًا بصريًا، بل كيانٌ يتنفس في الضوء ويذوب في الفضاء، علامةً للوجود ذاته، تحمل أعماله بُعدًا فلسفيًا يستبطن سؤال الوجود الإنساني من خلال الحرف واللون، مستدعيًا العلاقة بين المادي واللامرئي، بين الفناء والخلود، في سعي دائم لتحويل الصمت والزمن إلى أثر، والغياب إلى حضور بصري نابض بالحياة.

يمكن القول إن مسار الفنان التشكيلي رشيد شعرير يشكل تجربة فنية غنية ومعقدة، تقوم على تثليث جوهري يجمع بين المادة والذاكرة والروح، وهي عناصر تتفاعل معًا لتشكّل منطقًا جمالياً متكاملاً يميز تجربته عن غيره من الفنانين المعاصرين. أولاً، تمثل المادة في أعماله عنصراً محورياً، وهي تتجسد في الخشب والحرف واللون، بوصفها وسيطًا بين اليد والفكر، بين الواقع والخيال، بين الصنعة والفلسفة، فالخشب الذي ورثه من الورشة الأبوية لا يقتصر على كونه مادة صلبة، بل يصبح أداة للتحقيق الجمالي، واللون لا يكتفي بإضفاء الشكل، بل يفتح الأفق للتعبير عن الإحساس الداخلي. ثانيًا، تأتي الذاكرة في قلب مشروعه الفني، فهي خزان للرموز الأمازيغية والتراثية، وعنوان للتواصل بين الماضي والحاضر، بين المكان والهوية. من خلال استحضار هذه الذاكرة، يستحضر شعرير الحكايات والطقوس والزخارف الشعبية، لكنه لا يجعل منها مجرد استعارة تاريخية، بل يحولها إلى لغة تشكيلية معاصرة تتنفس في كل عمل، وتربط بين التجربة المحلية والفكر الكوني. وهكذا، تتحول أعماله إلى جسر بين التراث والحداثة، بين الأصالة والابتكار. ثالثًا، تأتي الروح كمحرك باطني لكل فعل جمالي، فهي تمنح المادة والذاكرة ديناميكية وحياة، وتجعل من كل حركة على اللوحة أو في الفراغ أو على الورق تجربة وجودية. بالنسبة لشعير، الفن ليس إنتاجًا شكليًا بحتًا، بل بحثًا عن المعنى؛ اللوحة سيرة للذات، والخط تجلٍّ للروح، والأداء حوار مع الزمن. إن هذا الوعي يجعل من تجربته تجربة إنسانية قبل أن تكون تشكيلية، حيث يلتقي الفكر بالحسّ، والانفعال بالتأمل، والمعرفة بالوجد.

لا يمكن حصر مشروع رشيد شعرير ضمن تيار فني بعينه؛ فهو تجربة مفتوحة تتغذى من الذاكرة المحلية وتتطلع إلى الأفق الكوني، تجمع بين الممارسة التقليدية للنحت الأمازيغي، والانضباط الفني للخط العربي، والنزعة التجريبية المستمرة التي تبحث عن توازن بين الهوية والتجريد، بين الانفعال والتأمل، بين الفن والتربية، بمعنى آخر يمثل رشيد شعرير نموذجًا للفنان الذي يحمل في ريشته ذاكرة الخشب، وفي خياله ضوء الروح، فتصبح أعماله مسرحًا يتلاقى فيه الماضي والحاضر، اليد والعقل، المادة والروح، في تجربة تشكيلية وإنسانية متكاملة تتجاوز حدود الفنون التقليدية لتصبح رحلة بحثية مستمرة عن المعنى والجمال والهوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى