قراءة في مسيرة الفنانة التشكيلية فوزية السقاط: من الزليج إلى التجريد، تحوّلات الرؤية الجمالية

تُعدّ الفنانة التشكيلية فوزية السقاط نموذجًا مميزًا في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر، حيث يجتمع في مسارها الفني والمهني بعدان متكاملان، البعد التربوي التعليمي، والبعد الإبداعي الجمالي، فهي من الفنانات اللواتي مزجن بين الموهبة الفطرية والبحث الأكاديمي، وبين الحلم الطفولي والإنجاز الواقعي، وبين الوفاء للتراث الفاسي العريق والانفتاح على التجريب المعاصر في صياغة الشكل واللون، وُلدت فوزية السقاط في مدينة فاس، المدينة التي تُعدّ بحق متحفًا مفتوحًا للفن الإسلامي والزخرفة المغربية، منذ طفولتها أبدت ميلًا واضحًا إلى الرسم، وكانت تميل إلى ترجمة إحساسها بالأشياء عبر الخطوط والألوان، وقد لقيت في بداياتها دعمًا وتشجيعًا كبيرين من طرف أخيها الأكبر، الذي كان يمارس الفن كهواية قبل أن يحترفه لاحقًا، تاركًا وراءه مسارًا مهنيًا واعدًا في سبيل التفرغ للفن التشكيلي. هذا الدعم الأسري المبكر شكّل حجر الزاوية في بناء شخصيتها الفنية، إذ منحها الثقة والجرأة على اعتبار الفن طريقًا مشروعًا للحياة، لا مجرد ترف جمالي عابر، مع مرور الزمن، لم تكتفِ فوزية السقاط بموهبتها الطبيعية، بل سعت إلى صقلها بالدراسة والتكوين العلمي المنهجي، فقد تابعت دراستها الثانوية في شعبة الفنون التشكيلية، حيث تعرفت على تقنيات الرسم والتصوير والنحت والتكوين البصري، ثم واصلت دراستها الجامعية في مركز تكوين الأساتذة لمادة التربية التشكيلية، وهو الفضاء الذي صاغ معالم وعيها الفني والتربوي في آنٍ واحد، هناك، تعلمت كيف يتحول الفن إلى لغة للتواصل الإنساني، وكيف يصبح اللون أداة تربوية قادرة على تنمية الحس الجمالي لدى الناشئة، بعد تخرجها، التحقت بالتدريس في ثانوية إعدادية بمدينة فاس، حيث مارست تعليم مادة التربية التشكيلية لليافعين، مؤمنة بأن الفن ليس حكرًا على الموهوبين فقط، بل هو أداة لتوسيع المدارك وصقل الذوق العام، موازاة مع ذلك، كانت تنشط في ورشات فنية بالمعهد الفرنسي بفاس، مقدمةً تجربة منفتحة على الآخر، تنبني على الحوار الثقافي والجمالي بين الفن المغربي والذوق الغربي.

منذ أكثر من عشر سنوات، اختيرت فوزية السقاط لتأطير ورشات الفن التشكيلي بمركز التفتح الفني والأدبي بفاس، وهو فضاء موجه لصقل مواهب الشباب ودعم قدراتهم الإبداعية، من خلال هذه التجربة، ساهمت في تكوين جيل جديد من الفنانين الناشئين الذين وجدوا في إشرافها نموذجًا للتوازن بين التقنية والرؤية، ولم يتوقف نشاطها عند هذا الحد، إذ تعمل منذ ست سنوات كأستاذة مؤطّرة في المدرسة العليا للهندسة المعمارية بفاس، حيث تزاوج بين الرؤية التشكيلية الصافية والفكر المعماري القائم على التناسب والبناء الهندسي، هذا الاحتكاك بين مجالي الفن والعمارة أثرى تجربتها، ومنح أعمالها عمقًا بصريًا جديدًا يُزاوج بين الحس الجمالي والدقة البنيوية، وإلى جانب مسارها الأكاديمي والفني، تُعتبر فوزية السقاط من الوجوه النشيطة في المجال الجمعوي الثقافي، فقد كانت عضوًا مؤسّسًا لعدد من الجمعيات الفنية، منها جمعية زلاغ للفنون التشكيلية وجمعية الإبداع النسائي ذات الاهتمام الفني والثقافي والاجتماعي، ومن خلال هذه الإطارات، ساهمت في تنظيم تظاهرات ومعارض وورشات تستهدف تمكين المرأة الفنانة وتوسيع دائرة الممارسة التشكيلية داخل المجتمع، كما أنها كانت لها مشاركة دائمة في مهرجان فاس للفنون التشكيلية التي مان يشرف على تنظيمها المرصد الجهوي للمعرفة والتواصل، حيث حضرت في اثنتي عشرة دورة إلى جانب فنانين مغاربة وأجانب، ما منحها فرصًا للتفاعل مع تجارب مختلفة والانفتاح على مدارس وأساليب متنوعة في التعبير التشكيلي، عرفت المسيرة الإبداعية لفوزية السقاط حضورًا مميزًا في المشهد التشكيلي المغربي من خلال معارض فردية أقامتها بمدينة فاس وعدد من المدن المغربية الأخرى، إضافة إلى مشاركاتها في معارض جماعية ومناسبات وطنية، حيث تركت بصمتها في كل تجربة من خلال فرادة موضوعها وأسلوبها في معالجة اللون والضوء والمادة.

بوصفها فنانة منحدرة من مدينة فاس، كان لا بد أن يتأثر نتاجها التشكيلي بالمحيط العمراني الغني الذي تزخر به المدينة القديمة، لقد كانت المناظر الإجمالية للأحياء والأزقة والدروب الفاسية أولى مواضيعها، إذ حاولت أن تترجم عبرها الإحساس بخصوصية المكان وحرارته الإنسانية، غير أن التحول الجوهري في تجربتها جاء حين انجذبت إلى عالم الزليج المغربي، الذي اكتشفت فيه مصدرًا لا ينضب للإلهام البصري والرمزي، حيث أنجزت بحثًا أكاديميًا حول الزليج أثناء تكوينها في الدراسات العليا، وتعرفت عن قرب على مراحل صناعته ودلالاته التشكيلية، وهو ما انعكس على لوحاتها لاحقًا، صار الزليج عندها أكثر من مجرد عنصر زخرفي؛ إنه مجاز بصري للهوية المغربية، وللذاكرة الجماعية التي تختزنها أمكنة فاس القديمة، تظهر في أعمالها السقايات والمدارج والأعمدة والجدران، وكلها عناصر تستحضر المكان وتمنحه حياة جديدة من خلال رؤية فنية متجددة، تقترب فوزية السقاط من اللوحة كما يقترب النحات من مادته، لا تكتفي بالسطح وإنما تحفر بإزميل الوعي في عمق اللون والمادة، تنظر إلى الزليج ليس كموضوع جاهز، بل ككائن حيّ يحمل ذاكرة الجماعة، فتسائل تشكيلاته وألوانه وتنوعاته، إنها لا ترسمه لتوثيقه، بل لتعيد قراءته في ضوء الحس المعاصر، وهكذا تتحول لوحتها إلى مجال للتأمل في العلاقة بين التراث والحداثة، بين الثابت والمتحول، بين المادي والروحي، لقد ارتبط اسم الفنانة فوزية السقاط برسمها الدقيق للزليج المغربي، حيث تتداخل القطع في بناء بصري متوازن يخلق مسافات من الأمل والتجذر في الهوية والمكان، غير أن المرحلة اللاحقة من تجربتها تميزت باقترابها من التفاصيل الدقيقة والتراكيب الهندسية، مبرزةً تناغمها الإيقاعي ضمن فضاء اللوحة.

في السنوات الأخيرة، شهدت التجربة التشكيلية للفنانة فوزية السقاط تحوّلًا نوعيًا نحو التجريد التعبيري، دون أن تفقد مرجعيتها الواقعية أو جذورها المتأصلة في التراث الفاسي الذي شكّل منبعها البصري الأول، هذا التحول لا يمكن النظر إليه بوصفه انقطاعًا عن الماضي أو قطيعة مع موضوع الزليج الذي ميّز مراحلها السابقة، بل هو بالأحرى تطوّر طبيعي لمسار داخلي نضجت فيه الرؤية وتحررت اليد من أسر الشكل لتبلغ عتبة التعبير الخالص، فقد انتقلت السقاط من مرحلة الانبهار بجماليات الزخرفة المغربية، وما تحمله من هندسة صارمة وتناغمات لونية دقيقة، إلى مرحلة أكثر تأملًا وعمقًا، حيث صار الزليج بالنسبة إليها رمزًا للجوهر لا للمظهر، ووسيلة للغوص في عوالم التجريد والروح، بدل الاكتفاء بتمثيلها بصريًا، يبدو أن الفنانة، وقد خبرت تفاصيل الزليج الفاسي في دراساتها وبحوثها السابقة، قد بلغت مرحلة التحرر من الموضوع لتصنع منه مدخلًا نحو الذات، فقد تخلّت عن التمثيل المباشر للأشكال الزخرفية لصالح استبطان بنيتها الإيقاعية، بحيث تحولت الشبكات الهندسية إلى إشارات رمزية، وانقلب التكرار الزخرفي إلى تكرار إيقاعي تعبيري يشبه النبض الداخلي للّوحة. هذه النقلة تمثل انتقالًا من الواقعية الدقيقة، التي كانت تُعنى بتفاصيل السطح والزخرفة، إلى التجريد الحرّ الذي يفتح فضاء اللوحة أمام الانفعال والعاطفة والذاكرة، وفي هذا السياق، يمكن القول إن فوزية السقاط تمارس نوعًا من “التجريد العضوي”، الذي لا ينطلق من الرغبة في القطيعة مع المرجع الواقعي، بل من الحاجة إلى تأويله وإعادة صياغته بلغة جديدة، تزاوج بين النظام والانفلات، بين الخط واللون، بين المعمار والعفوية. اللافت في هذه المرحلة أن السقاط استطاعت أن توفق بين الخط الصارم للزخرفة والهندسة المغربية، وبين الانفلات الحرّ للّون في التعبيرية الحديثة، فهي لا تتخلى تمامًا عن البنية الصلبة التي ميزت الزليج المغربي في أصوله، بل تحتفظ بها في عمق التكوين كذاكرة بصرية أو “هيكل خفي” يؤطر انسيابية اللون، بذلك، يتولّد توترٌ جمالي بين النظام والفوضى، بين القصد والعفوية، يمنح اللوحة ديناميتها الداخلية.

يعتبر الزليج أحد أرقى الفنون المعمارية التي تجسد عبقرية الإنسان المسلم في توظيف الجمال بوصفه لغةً للتعبير عن التوازن والانسجام، فهو ليس مجرد زخرفة تزين الجدران أو الأرضيات، بل نظام بصري وروحي يعكس رؤية حضارية عميقة للعالم، حيث تتجسد فيه فكرة الوحدة في التعدد، والتكامل بين الشكل والمعنى، والمادي والروحي، هذا الفن العريق، الذي ازدهر في فضاءات المغرب والأندلس، يقوم على هندسة دقيقة تجعل من كل قطعة لبنة في بناء جمالي متكامل، لا تكتمل إلا بانسجامها مع غيرها، وكأنها كائن حيّ يتنفس من خلال التكرار والإيقاع واللون، ويمتاز بتصاميمه الهندسية المعقدة التي تنبني على منطق رياضي صارم، لكنه ينفتح في الوقت ذاته على الخيال والتأمل، فالألوان الزاهية التي تتداخل بانسجام بديع ليست مجرد زينة، بل رموز تستبطن دلالات روحية وحضارية، بمعنى أن اشتغال فوزية السقاط على الزليج هو إعادة وصل الإنسان بمحيطه، فهو لا يقوم على الانفصال بل على التفاعل والتكامل، كل قطعة تعتمد على الأخرى في بناء نسقها الجمالي، فيحضر فيه مبدأ “الجماعة” قبل “الفرد”، تمامًا كما في الفلسفة الصوفية التي ترى الجمال طريقًا إلى الكمال، ومن هذا المنطلق، يصبح الزليج في لوحات فوزية تعبيرًا عن نمط عيش يستمد قوته من التجريد، ومن البحث عن النظام داخل الفوضى الظاهرة، وعن الوحدة في تنوع الأشكال والألوان، هو تجديد دائم للصلة بالتراث والهوية، فهو يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان ومكانه، بين الحرفة والفكر، بين الماضي والحاضر. إنه فنّ يعيش في تحول مستمر، يحمل عبق التاريخ ويستشرف المستقبل، محافظًا على أصالته ومجددًا في رؤاه، ليظل علامة فارقة في المعمار الإسلامي ومرآة لروح الحضارة التي جعلت من الجمال طريقًا إلى المعرفة والسكينة.

تتجاور في أعمالها المستويات المادية والروحية، إذ يتحول اللون إلى كائن حيّ ينبض بالحركة ويؤسس فضاءً بصريًا متعدد الطبقات، وفي الوقت نفسه، تبقى البنية الهندسية – وإن خُفِّض حضورها – هي ما يمنح اللوحة توازنها الإيقاعي، وكأنها سُلَّم موسيقي خفي تتراقص فوقه نغمات اللون وضربات الفرشاة، تُعدّ الألوان في المرحلة الجديدة من تجربة فوزية السقاط عنصرًا مركزيًا في بناء المعنى الجمالي. فهي تستخدم ألوانًا ترابية دافئة تعكس ارتباطها بالأرض المغربية، وتستحضر في آنٍ واحد طابع المدن العتيقة وظلالها الغامقة، في مقابل تدرجات الأزرق الكوبالتي والأخضر الزمردي والأصفر الذهبي والأبيض العاجي، وهي ألوان ذات حمولة رمزية تتجاوز البعد الزخرفي إلى أفق وجداني وروحي، اللون عندها لا يُستخدم لتوصيف الأشياء، بل لتوليد الإحساس وإثارة الذاكرة البصرية، إنه ليس وسيلة تمثيل بل وسيلة تأمل. فحين توظف الأزرق الكوبالتي، فإنها لا تستحضر زرقة الزليج الفاسي وحسب، بل تستدعي عمق السماء وانفتاح الأفق، أما الأخضر الزمردي، فيحيل إلى الحياة والنماء، فيما يرمز الأصفر الذهبي إلى النور الداخلي، في حين يمثل الأبيض العاجي عندها الصفاء والسكينة، كأنه فضاء تتنفس فيه الألوان الأخرى، بهذا التكوين اللوني المتعدد، تخلق الفنانة انسجامًا بين الحسي والروحي، بين المادة والرمز، لتمنح اللوحة طابعًا تأمليًا يتجاوز حدود التشكيل إلى فضاء التجربة الإنسانية نفسها، من الناحية التقنية، تعتمد فوزية السقاط على ضربات فرشاة متجاورة أو لطخات متداخلة، تُنفّذ بتفاوتٍ بين البروز والانمحاء. فثمة مساحات تعلن حضورها القوي عبر اللون الكثيف والخط العريض، وأخرى تتراجع لتفسح المجال للّون المجاور، وكأن اللوحة كائنٌ يتنفس، يزفر ويستقبل الهواء في إيقاعٍ بصري متوازن. هذه الحركية المزدوجة – بين الحضور والغياب، البروز والمحو – تمنح العمل طابعًا ديناميًا متحولًا يذكّر بتحولات الضوء على جدران المدينة القديمة التي ألهمتها في بداياتها، إن هذه التقنية تخلق إيقاعًا بصريًا نابضًا بالحياة، حيث تتجاور الانفعالية اللونية مع الوعي البنائي. فهي لا تترك للّون أن يسيل عبثًا، بل تمنحه حرية محسوبة، عفوية منضبطة، بحيث يظل التوازن قائمًا بين الانفعال والسيطرة، وهذا التوازن هو سرّ الجمال في أعمالها، إذ يمنح اللوحة إحساسًا بالحركة الداخلية، كأنها تنبض من داخلها لا من سطحها فقط. يُظهر هذا التحول نحو التجريد التعبيري نضجًا واضحًا في التجربة الفنية لفوزية السقاط. فبعد مراحل من الاشتغال على المرجع الواقعي، استطاعت أن تخلق لغة بصرية خاصة بها، لا تكرر التراث بل تُعيد إنتاجه من الداخل. وهكذا أصبح الزليج عندها رمزًا للتنظيم الكوني والتوازن الوجودي، في حين تحول اللون إلى طاقة حرة تعبّر عن الحياة والزمان والحركة، إن ما يجعل أعمالها في هذه المرحلة ذات خصوصية هو ذلك الحوار الخفي بين الذاكرة والحداثة، بين اليد التي تتذكر والحسّ الذي يتجدد، فهي ترسم بروح المعمار الفاسي، لكنها تُلوّن بجرأة الفنان المعاصر الذي لا يخشى الانفلات نحو المجهول. في هذا المعنى، تمثل فوزية السقاط جسرًا بين جيلين من الحس الجمالي، جيل الوفاء للجذور، وجيل البحث عن الذات في أفق الحرية، لقد تحوّلت تجربة فوزية السقاط، في مسارها الحديث، إلى مختبر للتوازن بين النظام والفوضى، بين الحرفية والتجريب، بين التراث والحداثة. فهي لا تزال تحمل في لوحاتها روح الزليج الفاسي، لكنها لم تعد تستنسخه بصريًا، بل تستبطن منطقه الجمالي لتعيد تفجيره في فضاء تعبيري رحب. ومن هنا، تبدو لوحاتها ككائنات حية، تنبض بين يديها، توازن بين الصرامة والليونة، بين الوعي والحدس، لتقدّم لنا فنًا صادقًا في إحساسه، عميقًا في معناه، ومفتوحًا على التأويل في كل ضربة لون، يبدو من خلال تتبع مسارها أن فوزية السقاط تنتمي إلى مدرسة تؤمن بأن الفن رسالة تربوية وجمالية في آنٍ واحد، فهي، من موقعها كأستاذة ومؤطرة، لا تفصل بين الإبداع والتعليم، بل ترى في كل لوحة درسًا بصريًا وفي كل درس بذرة إبداعية، الجمال عندها ليس مظهرًا خارجيًا بل هو وعي بالعمق الروحي للمادة، وتجسيد لعلاقة الإنسان بتراثه وثقافته ومحيطه.

تشتغل الفنانة فوزية السقاط على الذاكرة الفنية والثقافية، لا بوصفها مخزونًا جامدًا من الصور والموروثات البصرية، بل باعتبارها طاقة حيّة قابلة لإعادة التشكيل، ومجالًا رحبًا للحوار بين الماضي والحاضر، فهي لا تستعيد الذاكرة كما هي، بل تُعيد صياغتها في رؤية معاصرة تستند إلى الأصالة دون أن تُقيَّد بها، وتستحضر التراث لا لتكرره، بل لتجعله منطلقًا لتجربة حداثية تُنصت إلى الحاضر بوعي التاريخ، وتبني الجديد على أسس الجمال المغربي المتجذر في الزمان والمكان، في أعمالها، تتحول الذاكرة إلى مادة بصرية تتغذى من تفاصيل مدينة فاس العتيقة، من أزقتها، وزخارف جدرانها، وبهاء زليجها، لكنها لا تُستنسخ كما هي، بل تُعاد قراءتها في ضوء الحس التجريدي الذي تنتمي إليه الفنانة في مرحلتها الراهنة، إنها ذاكرة مُفكَّر فيها، لا تُستحضر من باب الحنين، بل من باب التأمل الواعي في معنى الانتماء، بهذا المعنى، يمكن القول إن فوزية السقاط تجعل من اللوحة فضاءً للبحث في العلاقة بين الهوية والحداثة، بين ما هو راسخ في الوجدان الجمعي، وما هو متحوّل في التجربة الفردية، تنتمي السقاط إلى جيل من الفنانين المغاربة الذين أدركوا أن الحداثة الفنية لا تُبنى على القطيعة مع التراث، بل على المصالحة معه وإعادة تأويله، فالأصالة عندها ليست نقيضًا للمعاصرة، بل شرط من شروطها، إذ تمنحها الجذور والمعنى والاتجاه، لذلك، فإن لوحاتها، وإن كانت مشبعة بروح التجريد التعبيري، تظل محتفظة بإشاراتها المضمَرة إلى التراث الفاسي، هندسة الزليج، إيقاعات الخطوط، توازن المساحات، ودفء الألوان الترابية التي تشي بعمق المكان وروحه، هكذا تُثبت فوزية السقاط من خلال تجربتها أن الهوية ليست قالبًا مغلقًا، بل مسارًا ديناميًا يتجدد بالتأمل والإبداع، فهي تستمد من الذاكرة مادتها الأولى، لكنها تُعيد صهرها في مختبر التجريب الحديث، لتنتج فنًا يجمع بين الوجدان والتركيب، بين البعد المحلي والآفاق الكونية، وبذلك، تبرهن أعمالها على أن الحداثة الحقيقية في الفن المغربي لا تتحقق إلا عندما تتغذى من جذور الهوية، وتستمد منها المعنى والخلود.

تُشكّل تجربة الفنانة فوزية السقاط نموذجًا متفرّدًا للفنانة المغربية المعاصرة التي استطاعت أن تُحقّق توازنًا خلاقًا بين الحس الإبداعي والممارسة التربوية، وبين الوفاء للجذر التراثي والانفتاح على آفاق الحداثة الجمالية، فمنذ بداياتها الأولى، حين كانت طفلة تتلمّس طريقها إلى الألوان بدافع فطري عميق، بدا واضحًا أن الفن بالنسبة إليها ليس مجرّد هواية عابرة، هو نداء داخلي يتجاوز حدود الذات ليصبح رسالة إنسانية وتربوية متجذّرة في الوجدان، هذا الوعي المبكر بالممارسة الفنية جعلها تسلك مسارًا متكاملًا، يزاوج بين التكوين الأكاديمي الصارم والتجريب الفني المتحرّر، لتتحوّل لاحقًا إلى مؤطّرةٍ تُلهم الأجيال الجديدة وتغرس فيهم شغف اللون وروح الجمال، من أزقة فاس القديمة استلهمت فوزية السقاط أولى نبرات رؤيتها التشكيلية، فالعمران الفاسي، بتعقيد زخارفه وتناسق هندسته، شكّل لها مدرسة بصرية قائمة بذاتها، جعلتها تدرك أن الجمال في جوهره ليس ترفًا شكليًا، بل انعكاسٌ لهويةٍ وثقافةٍ متجذّرتين، ومع مرور الزمن، لم تكتفِ بأن تكون متأثرة بهذا الإرث، بل سعت إلى إعادة قراءته من جديد، من خلال تحويل الزليج والعمارة التقليدية إلى رموز بصرية تحمل دلالات إنسانية وحضارية. فلوحاتها لا تنقل فاس كما تراها العين، بل كما يستبطنها الوجدان؛ مدينةً تُختزل فيها ذاكرة الجمال وروح التناسق بين المادة والخيال، لقد تحوّلت أعمالها إلى جسرٍ جمالي بين الماضي والمستقبل، بين الزخرفة والمعنى، بين الحس التراثي المحلي والنَفَس الكوني للفن. فهي تستلهم من الزليج دقّته الرياضية الصارمة، لكنها تُحرّره من هندسته الجامدة لتمنحه حياة جديدة في فضاء تجريدي نابض باللون والضوء والحركة. وهنا تتجلّى قدرتها على الجمع بين النظام والانفعال، بين الوعي والعفوية، وهي سمة تميز أعمال الفنانين الذين يشتغلون على الذاكرة بوصفها حقلًا للتأمل وليس للاستعادة، كما أن البُعد التربوي في مسارها لم يكن هامشيًا، بل شكّل ركيزة أساسية في رؤيتها للفن. فهي تؤمن بأن التربية الجمالية ليست ترفًا معرفيًا، بل هي أساس بناء الوعي الإنساني. ومن موقعها كأستاذة ومؤطرة في مؤسسات فنية، استطاعت أن تجعل من الورشات الفنية فضاءاتٍ حقيقيةً لاكتشاف الذات وتنمية الحسّ الجمالي لدى الناشئة، معتبرةً أن الفن فعل تنويرٍ وبناءٍ للذوق، بقدر ما هو تعبير عن الذات، إن فوزية السقاط تُجسّد في مسيرتها فكرة أن الفنان الحقيقي لا يكتفي بالإبداع الفردي، بل يحمل مسؤولية ثقافية وتربوية، فهي تكتب بريشتها سردية مغربية جديدة، تمتد من جدران فاس إلى آفاق الفن الكوني، لتؤكد أن الهوية المغربية ليست ذاكرة مغلقة، بل نبع متجدّد يروي جمال العالم بلغته الخاصة، وهكذا تبقى فوزية السقاط شاهدًا حيًّا على قدرة الفن على أن يصنع الجمال، وأن يربّي الذائقة، وأن يحفظ للهوية المغربية حضورها المشرق في زمن التغيّر والانفتاح.
