قراءة في رواية”عبور آمن، كنت موظفًا… هل كنت خطئًا…؟؟”للكاتب ميلود الياسمني:”هل كنتُ مخطئًا حين تمسّكتُ بالمبادئ؟”

تأتي رواية “عبور آمن، كنت موظفًا… هل كنت خطئًا…؟؟” للكاتب المغربي ميلود الياسمني(تقع الرواية في 205 صفحة من القطع المتوسطة، طبعت بمكتبة شرف الرباط/المغرب عام 2024) ضمن المسار السردي الذي يسعى إلى مساءلة الواقع المغربي من داخل مؤسساته، لا من خارجها، فهي ليست مجرّد حكاية عن موظف مغربي نزيه يصطدم ببنية إدارية متآكلة، بل هي شهادة فكرية وسردية عن أخلاقيات العمل في الإدارة المغربية، وعن المفارقة المأساوية بين المثالية الفردية والبيروقراطية الجماعية، يقدّم الكاتب عبر لسان ميلود فوزي، الشخصية المحورية في الرواية، صورة مركّبة لإنسان مغربي يعيش انشطارًا بين قيمه الداخلية ونظام إداري لا يرحم، ومن هنا، تصبح الرواية نصًا عن الضمير المهني حين يجد نفسه في مواجهة الفساد البنيوي، وعن الإنسان حين يُحاصر بين الواجب والخذلان، وترحل بنا الرواية إلى عوالم فوزي وانشغالاته وطموحاته، حيث تتخذ الرواية من مولود فوزي شخصية مركزية تتماهى في بعض جوانبها مع الكاتب ذاته، فالتقاطع في الاسم ليس اعتباطيًا، بل يشي بتقنية الكتابة “السيرذاتية” التي تستند إلى واقعية مُضمرة، ميلود فوزي ليس بطلًا خارقًا ولا متمرّدًا على النسق، بل هو نموذج للموظف المغربي الذي يسعى إلى الوفاء لضميره المهني والإنساني، رغم ما يلقاه من عراقيل وإحباطات.
يقدّم الراوي من خلاله سيرة شاب من أسرة متوسطة الحال، تربّى على قيم العمل والجد والمسؤولية، قبل أن يجد نفسه في خضمّ واقع إداري متشابك تحكمه الزبونية، المحسوبية، والولاءات الشخصية، وهنا يتحوّل المسار المهني إلى رحلة عبور صعبة، لا نحو الترقية، بل نحو الحفاظ على الذات من الانكسار الأخلاقي، ومن أهم ما يميّز الرواية هو قدرتها على تحويل الإدارة المغربية من فضاء بيروقراطي جامد إلى فضاء روائي نابض، فالمكتب، والملف، والمحضر، والاجتماع، والمراسلات، تتحوّل جميعها إلى أدوات للسرد تكشف من خلالها الرواية عن ذهنية السلطة الصغيرة التي تسكن بعض المسؤولين والموظفين، فالرواية لا تُقدّم الإدارة هنا بوصفها جهازًا منظمًا، بل كـمتاهة من العلاقات المتشابكة التي تُحدّد فيها الولاءات أكثر من الكفاءات، ومن خلال سلسلة من الأحداث والمواقف اليومية، يكشف ميلود فوزي عن صراع خفي بين قيم النزاهة وروح المصلحة، وعن كيف تتحوّل الوظيفة العمومية إلى فضاء للاستهلاك النفسي والأخلاقي، في هذا السياق، يمكن القول إن ميلود الياسمني يكتب عن الإدارة كما يكتب عن الوطن، فالإدارة في الرواية ليست سوى صورة مصغّرة للوطن الكبير، بكل تناقضاته وطبقاته وأزماته.

تتحرّك الرواية ضمن إطار الواقعية النقدية التي تسعى إلى تشريح المجتمع من الداخل، لا من خلال الخطاب السياسي المباشر، بل عبر تفاصيل الحياة اليومية، لذلك، نجد الكاتب يُدخلنا إلى عالم الاجتماعات العقيمة، القرارات الاعتباطية، والموظفين الذين يشتغلون بالرمزيات أكثر من الإنتاج، غير أن ميلود الياسمني يخضع “مولود فوزي” إلى رقابة صارمة، وتحفظ نبيه لحفظ اسرار الإدارة، والحرص على عدم قول ما يشين فعل الرؤساء، وإن كانوا يستحقون، أكثر من لوم وعتاب، لكنه يربأ بنفسه من القول الصراح، ويغلفه بالصمت تارة، أو بالتلميح، يبرز في الرواية تحليل عميق لما يمكن تسميته بـ”الفساد الثقافي”، أي تلك البنية الذهنية التي تجعل الموظف الصغير يقلّد رئيسه، والرئيس يستمد سلطته من شبكة من المصالح، في هذا الجوّ المشحون، يصبح الموظف النزيه مثل مولود فوزي غريبًا في وطنه المهني، بل مهدّدًا بالتهميش أو الإقصاء، ليطرح ميلود فوزي سؤال الرواية المركزي: هل كنتُ خطئًا حين تمسّكتُ بالمبادئ؟”، وهو سؤال يتجاوز الشخصية إلى القارئ ذاته، إذ يدفعه إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الأخلاق والمصلحة، بين الصدق والبقاء، وبين العمل كقيمة والعمل كوظيفة، لا تقف الرواية عند حدود المؤسسة الإدارية، بل تمتد إلى الفضاء الأسري والاجتماعي لتكشف عن انعكاس الإدارة في البيت المغربي، فأسرة ميلود فوزي تمثّل طبقة وسطى مكافِحة، تحاول أن تضمن لأولادها مكانة في الحياة رغم ضيق الإمكانات، غير أن العمل الإداري بكل توتّراته يتسرّب إلى البيت، ليصبح الهمّ المهني جزءًا من المعاناة اليومية.
تُظهر الرواية كيف يعيش الموظف المغربي ضغطًا مزدوجًا، من الإدارة التي تستنزف طاقته، ومن الأسرة التي تنتظر منه الاستقرار والطمأنينة، وهكذا يتجسّد في ميلود فوزي الإنسان الممزّق بين الواجب والعيش الكريم، بين الحلم الفردي والواقع الجماعي، تتميّز لغة ميلود الياسمين بوضوحها وسلاستها، فهي لا تسعى إلى التزويق البلاغي بقدر ما تتوسّل اللغة اليومية القريبة من الناس، غير أن هذه البساطة ليست سطحية، بل مشحونة بدلالات إنسانية عميقة، يستعمل الكاتب أسلوب الاسترجاع الزمني (الفلاش باك) ليعيد بناء مسيرة ميلود فوزي المهنية، ويربط بين الماضي والحاضر، بين الأمل والخيبة، بين الطفولة في حي التقدم بالرباط، والأتراب، وأسر الحي، والأب المكافح، والأم التي تحرص على التربية والأخلاق، كما يعتمد على الضمير الأول (أنا) الذي يُقرّب القارئ من التجربة الذاتية، ويمنح الرواية طابع الاعتراف والبوح، لكنه بوح شفيف لا يقول كل شيء، وعلى القارئ أن يكون ذكريا لاستنباط الغاية من سرد الأحداث، السرد هنا يقوم على التوازي بين الحكاية الفردية والخطاب الجماعي، حيث تتحوّل التجربة الخاصة إلى مرآة للواقع المغربي العام.

من خلال حكاية مولود فوزي، يقدّم ميلود الياسمني تأمّلًا فلسفيًا حول معنى العمل والكرامة في زمن اختلطت فيه القيم، فـ”العبور الآمن” الذي يحلم به البطل لا يتحقق في الواقع الإداري، بل في القدرة على الحفاظ على الذات من الانهيار الأخلاقي، تُثير الرواية أسئلة وجودية حول معنى النجاح، وحول الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل نزاهته. فهل النزاهة في واقع فاسد بطولة أم حماقة؟ وهل الموظف الشريف مشروع ضحية أم مشروع مقاوم؟، من هنا، تتحوّل الرواية إلى صرخة ضدّ التطبيع مع الرداءة، ودعوة إلى إعادة الاعتبار للضمير الإنساني كشرط لأي إصلاح إداري أو وطني.

في النهاية، يمكن القول إن رواية “عبور آمن، كنت موظفًا… هل كنت خطئًا…؟؟” ليست مجرّد نص أدبي، بل وثيقة سردية تشخّص الواقع الإداري المغربي من زاوية إنسانية فكرية، وذهنية، لقد استطاع ميلود الياسمني أن يزاوج بين السرد الواقعي والتأمل الأخلاقي، مقدّمًا من خلال مولود فوزي شخصية مأزومة لكنها نبيلة، منكوبة لكنها صامدة، هي رواية عن الإنسان المغربي في قلب المنظومة البيروقراطية، عن حلم الإصلاح الفردي وسط فساد جماعي، وعن معنى أن تظل وفيًا لقيمك في زمنٍ يُكافَأ فيه الانتهازيّون.

إنها رواية تذكّرنا بأن “العبور الآمن” لا يكون دائمًا نحو الخارج، بل نحو الداخل، حيث يصمد الضمير في وجه الإغراء والسقوط.

تعليق واحد

  1. هذا التقرير الذكي يصور الرواية كشريحة بيضاء لفناجين الواقع المغربي! يتباهى بوضوح الكاتب في تحليل كل زاوية، من الفساد الثقافي إلى سؤال الخلق ووجودي الموظف. من الواضح أن الكاتب نفسه يعاني من انشطار ميلود فوزي، فهو يقدّم تحليلاً عميقاً لرواية لم أقرأها! لكن الجديد أننا الآن نعرف حتى التقاطع في الاسم ليس اعتباطياً. فكرة العمل كقيمة والعمل كوظيفة تبدو وكأنها حوار بين ضمير ميلود الياسمني ونفسه ككاتب يكتب عن موظف اسمه ميلود فوزي. أما سؤال البطل المأزوم هل كنتُ خطئًا؟، فهو ببساطة سؤال مملح للموظفين الذين يحاولون البقاء ناكرين الواقع.vongquaymayman

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى