الملك محمد السادس ينبه إلى أن الإعلام العمومي ظلّ طيلة سنوات الحلقة الأضعف في منظومة الحكامة المغربية

جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية لهذه الحكومة، اليوم الجمعة، حاملاً إشارات عميقة إلى أهمية الإعلام باعتباره إحدى آليات التنمية الوطنية، فقد أكد الملك على الدور الجوهري الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في تحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع، وفي بناء الثقة بين المؤسسات والمواطنين، وهذه الإشارة، رغم وجازتها، تمثل تحوّلاً في الوعي المؤسسي تجاه الإعلام العمومي، الذي ظلّ طيلة سنوات الحلقة الأضعف في منظومة الحكامة المغربية، مما جعل العلاقة بين الشارع والدولة تتسم أحياناً بالتوتر، بل والانفصال أحياناً أخرى، ثم إن إدراك المؤسسة الملكية لهذه الثغرة يعكس وعياً بأن أي منجز تنموي، مهما بلغت أهميته، يظل ناقصاً إذا لم ترافقه منظومة إعلامية قادرة على الشرح والتحليل والنقد والتنوير، فالإعلام ليس مجرد قناة لنقل الخبر، بل هو فضاء لبناء الوعي الجماعي وصيانة الذاكرة الوطنية، ومن ثمّ، فإن ضعف الإعلام العمومي لا يهدد فقط جودة التواصل بين الدولة والمجتمع، بل يفتح الباب أيضاً أمام قوى متربصة، داخلية وخارجية، تستغل هذا الفراغ لتوجيه الرأي العام وفق مصالحها الخاصة، سواء تمثلت في بنى خفية تتغذى من التوتر والصراع، أو في وسائل إعلام أجنبية تتدثر برداء مغربي شكلاً لا مضموناً.

لقد أظهرت احتجاجات زد 212 الحاجة الماسّة إلى إعلام عمومي قوي ومهني، لا يقتصر حضوره على مواسم الأزمات، بل يكون حاضراً بشكل يومي في النقاش العمومي، فاعلاً فيه لا متفرجاً عليه، فالإعلام الذي يُستدعى فقط عند الأزمات يتحول إلى أداة إطفاء مؤقتة، بينما المطلوب هو إعلام دائم اليقظة، يمارس نقداً بناءً، ويحتضن التعدد والاختلاف بدل أن يُقصي كل من ليس “معنا”. إن العقلية الإقصائية التي سيطرت على المشهد الإعلامي في فترات سابقة، والتي حولت بعض المنابر إلى منابر للتحريض أو التشهير، هي أحد أسباب تآكل الثقة في الإعلام العمومي، ومن ثمّ ضعف تأثيره في المجتمع.من هنا، يبرز الدور المنتظر من الهيئة العليا للإعلام، كهيئة سيادية يفترض أن تكون بعيدة عن صراعات الصحافيين ومشاكل المقاولات الإعلامية، لتؤسس لما يمكن تسميته بـ”إعلام الردع الإيجابي”؛ إعلام يحمي المصلحة العامة من الانحرافات، ويمنع الاحتكار، دون أن يتحول إلى جهاز وصاية أو أداة تكميم. فإصلاح الإعلام لا يمكن أن يتم بقرارات فوقية أو بإعادة إنتاج نفس النخب التي فشلت في الماضي، بل عبر بناء مؤسسات مستقلة قادرة على الموازنة بين الحرية والمسؤولية، لقد كان على رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، أن يدرك منذ بداية ولايته أن التحكم في الإعلام لا يصنع سلطة، بل يُفقدها مشروعيتها، فالإعلام الذي يطبل للحاكم، أو يُجمّل صورته، يخلق وهماً بالقوة، لكنه يضعف في المقابل صلته بالواقع، كان الأجدر بأخنوش أن يشجع على إعلام ناقد، بل ومتشدّد في نقده له، لأن القائد الحقيقي هو من يحتمل النقد، ويُصلح بناء عليه. غير أن أخنوش، بوصفه شخصية وافدة على “دار المخزن” وليست من أبنائها التقليديين، لم يستوعب بعد هذه القاعدة غير المكتوبة في الثقافة السياسية المغربية، أن الملك لا يرضى عن مسؤول يُغضب شعبه، بل يرضى عمن يجنّب البلاد التوتر ويحافظ على السلم الاجتماعي.

الخطاب الملكي اليوم الجمعة، وإن بدا للبعض تبرئة ضمنية للحكومة من بعض الاتهامات، إلا أنه في العمق كان إعادة ترتيب للسلطة الرمزية داخل المشهد السياسي، فالملك شدّد على أن القضايا الكبرى لا يمكن حلها ضمن المدى الزمني للحكومات أو البرلمانات، في إشارة إلى أن الإصلاحات البنيوية تحتاج إلى نفس استراتيجي طويل، وإلى استمرار في الرؤية لا يتقيد بدورة انتخابية، كما أقرّ بوجود ممارسات تُهدر الوقت والجهد، في اعتراف ضمني بعمق الفساد البنيوي داخل بعض القطاعات، لكن الأهم في الخطاب، أنه رفض الانجرار إلى منطق الهدم الذي تبنّاه من يحاولون توتير العلاقة بين الشارع والقصر، فقد دعا الملك بوضوح إلى تغيير العقليات وأساليب العمل بدل تدمير ما بُني سابقاً، مهما كانت محدوديته. فالإصلاح، في التصور الملكي، لا يعني القطيعة، بل التطوير المستمر ضمن رؤية تراكمية.

وبذلك، يمكن القول إن الكرة اليوم في ملعب رئيس الحكومة، فالخطاب الملكي لم يكن “عتق رقبة” أو فرصة نجاة من الإقالة كما قد يتوهم البعض، بل كان مهلة مشروطة. فالمؤسسة الملكية منحت أخنوش فرصة ثانية، لكنها فرصة محدودة في الزمن، ومقرونة بتغيير حقيقي في أسلوب التواصل مع المواطنين. إن منطق “التزيين أمام الملك” لم يعد يجدي، بل المطلوب هو إعادة الثقة بين الحكومة والمجتمع، من خلال خطاب صادق وشفاف، وإعلام حر ومسؤول، وإذا لم يدرك أخنوش أن سبب غضب الشارع ليس في مشاريعه الاقتصادية بل في عزلته التواصلية، فإنه لن يتمكن من تجاوز أزمته الحالية، فالملك لا يحتاج إلى إعلام يُخبره بما يريد أن يسمع، بل إلى إعلام يُعبّر عن نبض الشارع بصدق، دون تضخيم ولا تجميل. وحين يفهم رئيس الحكومة هذه المعادلة، قد يكون بالفعل قد بدأ ولايته الثانية قبل أوانها، أما إذا استمر في سوء قراءة الخطاب الملكي، فسيبقى رهين صورة القائد الذي لم يتعلم من دروس الأزمة، وظلّ يخلط بين الولاء والولع بالسلطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى