هل هو ترويج لذاتها قبل الانتخابات المقبلة؟: الحكومة المغربية تسلط سهام النقد على نفسها أكثر من المعارضة نفسها.


في خضم الاحتجاجات التي أشعلتها حركة “جيل زد 212” في المغرب منذ أواخر سبتمبر/أيلول 2025، حيث انطلق الاحتجاج الشبابي تحت شعار المطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد، بعد وفاة ثماني نساء أثناء وضعهنّ في مستشفى الحسن الثاني بأكادير، في حادثة أثارت غضبًا شعبيًا واسعًا. الاحتجاج امتدّ إلى عدة مدن، وتحوّل من شكل رقمي (عبر منصة ديسكورد ومنصات التواصل) إلى تظاهرات ميدانية واجهتها السلطات باعتقالات وتصعّد أمني، الحكومة المغربية بدأت تُظهر جرأة نقدية وتجاوزًا غير مسبوق في توجيه السهام إلى المعارضة، بل أحيانًا إلى مؤسسات تابعة لها، في سِيَر تبدو فيها السلطة التنفيذية أكثر صراحةً للمواجهة من ذي قبل، وهكذا بقدرة قادر بدأت الحكومة في الاستجابة- ليس فقط عبر اتخاذ تدابير أمنية أو وعود إصلاحية- بل عبر تغيير في النبرة والخطاب الاستقطابي اتجاه المعارضة.

استجابة لزلزال احتجاجات “جيل زد 212″، دخلت الحكومة المغربية في نمط سياسي جديد، أصبحت أكثر جرأة في تسليط النقد، حتى داخل مؤسساتها وداخل التحالف الحكومي، ضد خصوم سياسيين أو أطراف حاولت انتقادها. هذا السلوك يعكس محاولة للسيطرة على خطاب الأزمة، استباق خصوم محتملين، وإعادة رسم المعادلة السياسية. لكن هذه الجرأة ليست مطلقة، فهي قيد المرونة السياسية والشرعية الشعبية. فإذا فشلت في تقديم حلول واقعية تخفّف الاحتقان الاجتماعي، فإن الانتقادات الحكوميّة قد تنقلب عليها في المعركة السياسية المقبلة، وتتحول من أدوات بسط هيمنة إلى صراعات داخلية تضعفها. قبل هذا الحراك، كثيرًا ما كانت المعارضة هي من يهاجم الحكومة في التشريعات والممارسات، في حين أن الحكومة، أو على الأقل بعض مكوناتها، تحاول تفادي الخوض في صراع لفظي مباشر، مفضلة إدارة الملفات خلف الكواليس أو عبر بيانات رسمية معتدلة. لكن مع تصاعد الاحتجاجات، بدا أن الحكومة قد قررت استعادة المبادرة؛ أي أنها باتت تُهاجم أولًا، بدل أن تدافع فقط، ظهر ذلك جليا في الإعلام الرسمي وبعض المنابر القريبة من السلطة، حيث انطلقت هجمات مركّزة على أداء بعض الأحزاب المعارضة، بتهم عدم الفعالية أو تشويش الرأي العام، متهمة إياها بالانتهازية السياسيّة. مثلاً، يُناقش الآن كيف أن بعض أعضاء التحالف الحكومي، بدلاً من التضامن، شرعوا في انتقاد بعض القرارات الحكومية علنًا، ربما استعدادًا للمعركة الانتخابية القادمة، الأمر اللافت أن الكثير من الانتقادات التي كانت موجهة إلى “الخصوم” انتقلت إلى داخل التحالف الحكومي نفسه. بعض قيادات الأحزاب المشاركة بدأت تتباعد عن الخط الرسمي الموحد للحكومة، بل بعضها ألقى بالمسؤولية على شركائها في الحكومات، مبررة ذلك بكون “الوزارات المعنية” هي التي تتحمّل تبعات الإخفاق.

بهذه الطريقة، تخلق الحكومة مناخًا داخليًا يتماهى مع النقاش العلني، وتُفكك من دون إعلان، أو ربما تعبّر عن إعادة توزيع الأدوار بين مكوّنات السلطة التنفيذية، من الظواهر الجديدة أيضًا أن القنوات الإعلامية العمومية وسيلة تُوظّف في هذا الشدّ السياسي. ما كان يُعدّ تقليدًا أن تكون القنوات الحكومية مناوئة للنقد الحاد أصبح يُستخدم أحيانًا كمنصة لتمرير رسائل نقدية موجهة إلى بعض الأطراف السياسية، وفي حالات أخرى، بدا أن بعض القنوات – ذات الصلة أو الموالية للحكومة – تتبنى خطابًا يُحرّض ضمنيًا على المعارضة أو يُشكّك في نواياها، مبررة ذلك بأنها “تحذيرات لأداء ضعيف” أو “دعوة للمحاسبة”، ورغم الدعوات الرسمية للحوار واستجابة ظاهرية لمطالب الشباب، فإن الحكومة لم تتخل عن أدوات الضبط الأمنية والتحرك القضائي ضد بعض المحتجين أو المتورطين في أعمال تخريبية. هذا المزج بين السياسة الحازمة والنبرة السياسية الهجومية يُظهِر أنها ما زالت تحتفظ بآليات ضغط، لكنها الآن توظّفها من منظور تصعيدي واستراتيجي، لا فقط لفرض السير العام، بل للتأثير في الخطاب العام، السؤال الذي يطرح نفسه ماهي العوامل دفعت بالسلطة التنفيذية إلى أن تكون أكثر جرأة؟ لدرجة إطلاق رصاصات الرحمة على بعض أعضائها، إن الحراك الشبابي جرّ الحكومة إلى مواجهة شعبية غير مسبوقة في حجمها واستقلاليتها التنظيمية. في هذه الحالة، تتحول الحكومة من متلقي الانتقادات إلى خصم استباقي يسعى لتبيين أن لديها مبادرات سياسية وتجاوبًا، وأن خصومها السياسيين ليسوا جديرين بثقة الجماهير، قد تستخدم الحكومة، أو جزء منها، هذا الموقف الجديد للترويج لذاتها قبل الانتخابات المقبلة، عبر تصوير نفسها كقوة فعالة وقوية قادرة على إدارة الأزمات، مقابل المعارضة التي يُصوَّر أنها عاجزة أو متردّدة. الانتقاد المباشر للمعارضة يُعدُّ طريقة لإضعاف خصم مفترض مسبقًا. (وهي استراتيجية شائعة في الأنظمة شبه التنافسية)، بما أن المعارضة قد تبدو مشتتة أو ضعيفة التنظيم أمام الاحتجاجات الاجتماعية التي عمت أغلبية المدن والقرى المغربية، فإن الحكومة تجد فرصة لاستخدام هيمنتها الإعلامية والمؤسسية لنقض المعارضة في ميدان الخطاب. أي أنها تستفيد من ضعف الرد المضاد المعارض، خصوصًا إذا كان الأخير غائبًا أو متعثّرًا في صياغة مواقف واضحة أو متماسكة تجاه الحراك الشبابي.

الاحتجاجات جلبت القضايا الاجتماعية (الصحة، التعليم، العدالة الاجتماعية، البطالة) إلى واجهة النقاش العام، وأصبح الحديث عنها محرجًا جدًا لأي حكومة. لذا، لا يكتفي الوزراء بدور المتلقّي، بل باتوا يُقيّمون الأداء المعارض أيضاً بناء على موقعها من هذه القضايا، لمنع خصم سياسي من استقواء حراك الشباب على حسابهم، رغم الجرأة الظاهرية، هناك توازن دقيق يجب أن تحافظ عليه الحكومة. فهي تعمل ضمن إطار سياسي مؤسسي، النظام الملكي، البرلمان، القضاء، الأجهزة الأمنية، الذي يفرض حدودًا على مدى الهجوم الكاسح ضد خصوم سياسيين بعيدًا عن الدعوات التي تضرّ بالاستقرار. كما أن أي تجاوز قد يُعكس سلبًا على صورتها الشعبية إذا بدا أنها تخلّت عن أسلوب الاستجابة الحوارية. علاوة على ذلك، المعارضة ليست بلا رصيد؛ في ظل غضب اجتماعي واسع، قد تستعيد الاشتباك إذا رأت في الهجوم الحكومي مدخلاً لاستعادة الزخم وتعبئة الشارع أو الاستفادة من تضامن الشباب.

