احتجاجات جيل زد 212: استقالة حكومة أخنوش غير كافية ما لم تُرفَق بمحاسبة شاملة، تستند إلى الدستور، وتحترم الإرادة الشعبية.

تُعَدُّ المسؤولية السياسية والأخلاقية من أهم ركائز الحكامة في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، إذ لا يمكن الحديث عن دولة مؤسسات وقانون ما لم تكن هناك آليات واضحة للمساءلة والمحاسبة. في هذا السياق، يطرح السؤال التالي: هل تكفي استقالة حكومة عزيز أخنوش دون محاسبتها؟ نفسه بإلحاح في المشهد السياسي المغربي، خاصة في ظل تنامي الاحتجاجات الاجتماعية التي دعت إليها”حركة” (جيل زد 212)، وارتفاع منسوب الغضب الشعبي اتجاه السياسات العمومية التي اتُّهِمت بالعجز عن معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. يؤكد دستور المملكة المغربية لعام 2011 أن الحكومة مسؤولة أمام الملك وأمام البرلمان، وتتحمل مسؤولية تنفيذ السياسات العمومية وتدبير الشأن العام. وتنص المادة 47 على أن “الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب”، كما أن الفصل 92 يحدد اختصاصات المجلس الحكومي في السياسات العامة للدولة. غير أن هذا الإطار الدستوري لا يكتمل من دون الإشارة إلى مبدأ الربط بين المسؤولية والمحاسبة، وهو المبدأ الذي أقره الفصل الأول من الدستور، باعتباره أحد الأسس الجوهرية للنظام الدستوري المغربي، بيد أن الممارسة السياسية كثيرًا ما تُظهِر فجوة بين النص الدستوري والواقع العملي. فالمساءلة البرلمانية غالبًا ما تظل شكلية أو محدودة الفاعلية، لأسباب تتعلق بتوازن القوى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وضعف آليات الرقابة البرلمانية، إضافة إلى غياب ثقافة سياسية تجعل من المحاسبة أداة للتقويم لا للتصفية الحزبية. وهنا يظهر أن مجرد استقالة الحكومة لا يُعَدُّ في ذاته تحقيقًا لمبدأ المسؤولية، بل قد يكون هروبًا من تبعاتها.

الاستقالة في النظم الديمقراطية تُعدّ فعلًا سياسيًا يحمل رمزية قوية، إذ تعني الاعتراف بالفشل أو تحمل المسؤولية الأخلاقية عن التقصير. لكن في السياق المغربي، تُثير فكرة استقالة حكومة أخنوش إشكاليات متعددة: هل هي استقالة ناتجة عن ضغط شعبي مشروع؟ أم محاولة لامتصاص الغضب وتفادي المحاسبة السياسية؟، لقد تولّت حكومة أخنوش مهامها في سياق دولي واقتصادي صعب، تميّز بتداعيات جائحة كوفيد-19، وارتفاع الأسعار عالميًا، وجفاف متواصل أثر على الأمن الغذائي والمائي. غير أن هذه التحديات لا تُعفي الحكومة من مسؤولية ضعف التواصل السياسي، وتغليب المنطق المقاولاتي على الرؤية الاجتماعية، وإخفاقها في بلورة سياسات عمومية فعّالة لتخفيف أعباء المعيشة.

استقالة حكومة أخنوش – إن حدثت – ستكون من حيث الشكل تجاوبًا مع حالة احتقان اجتماعي، لكنها من حيث المضمون قد لا تكفي ما لم تُقرَن بمحاسبة دقيقة لسياساتها، وبرؤية واضحة لإعادة بناء الثقة. فالتاريخ السياسي المغربي أظهر أن “التناوب على السلطة” من دون محاسبة حقيقية لا يؤدي سوى إلى إعادة إنتاج نفس البُنى الريعية التي عطّلت الإصلاح لعقود. في الفكر السياسي الحديث، تُعتبر المحاسبة جوهر العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وهي لا تقتصر على الإجراءات القانونية فحسب، بل تشمل أيضًا المسؤولية الأخلاقية والسياسية. فحين يفشل المسؤولون في تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية أو في الحفاظ على كرامة المواطن، فإن مساءلتهم تصبح واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، لا مجرد خيار سياسي.

إن الاقتصار على الاستقالة دون محاسبة يفرغ العملية الديمقراطية من مضمونها، ويحوّلها إلى مسرحية تداول شكلي للسلطة. فالمحاسبة ليست انتقامًا، بل هي أداة لتصحيح المسار وضمان عدم تكرار الأخطاء. لذلك، يجب أن تتخذ المحاسبة في حالة حكومة أخنوش طابعًا مؤسساتيًا شفافًا، يُحدِّد مسؤوليات كل قطاع، ويكشف بوضوح أوجه التقصير في مجالات حيوية مثل التعليم، والصحة، والتشغيل، والسياسة الاجتماعية. كما أن الضمير الأخلاقي للحاكم يظلّ في المجتمعات الحية معيارًا أساسًا للمساءلة. فحين يغيب الحس الأخلاقي لدى النخبة السياسية، تتحول السلطة إلى وسيلة للاغتناء بدل خدمة المصلحة العامة. لذلك، فإن المحاسبة هنا ليست مجرد مطالبة بالاستقالة، بل استعادة للقيم التي بُنيت عليها الدولة الحديثة: الشفافية، العدالة، والإنصاف.

من الملاحظ أن جزءًا كبيرًا من الشارع المغربي لم يعُد يكتفي بخطابات الإصلاح أو الوعود الانتخابية، بل أصبح يُطالب بـ”العدالة الإجتماعية”و”العدالة السياسية” و”الكرامة الاقتصادية”، و”كرامة المواطن”. هذا التحول يعكس وعيًا متزايدًا لدى المواطن بدوره كفاعل سياسي، لا كمجرد متلقٍّ للقرارات. في هذا الإطار، يصبح مطلب محاسبة حكومة أخنوش تجسيدًا لتحول نوعي في الثقافة السياسية المغربية: من ثقافة التسامح مع الفشل إلى ثقافة المساءلة. فحين يشعر المواطن أن المسؤولين يمكن أن يُحاسَبوا على تقصيرهم، تتقوى ثقته في الدولة وتضعف نزعات العزوف واللامبالاة. أما إذا اكتفت الدولة بقبول استقالة الحكومة دون إجراءات محاسبة، فإنها تُرسل رسالة عكسية، مفادها أن الفشل لا يترتب عليه ثمن سياسي، مما يُعمّق الإحباط ويقوّض الثقة في الديمقراطية.إن تجاوز منطق الاستقالة الشكلية يقتضي إعادة بناء مفهوم المسؤولية الجماعية للحكومة، وإشراك مؤسسات الرقابة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة في تتبّع وتقييم الأداء الحكومي. كما يجب تطوير مؤشرات كمية ونوعية لقياس مدى نجاح السياسات العمومية، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من خلال تقارير دورية شفافة تُعرَض على الرأي العام.

بهذه الآليات يمكن الانتقال من سياسة الوجوه إلى سياسة النتائج، ومن ثقافة التبرير إلى ثقافة التقييم. حينها فقط يمكن أن تكون الاستقالة جزءًا من دورة ديمقراطية ناضجة، لا مجرد مخرجٍ مؤقتٍ لأزمة الثقة. ثم إن استقالة حكومة أخنوش – مهما كانت مبرراتها – لا يمكن أن تُعتبر كافية ما لم تُرفَق بمحاسبة حقيقية وشاملة، تستند إلى الدستور، وتحترم الإرادة الشعبية، وتستحضر البُعد الأخلاقي للسلطة. فالديمقراطية ليست مجرد تداول على الكراسي، بل هي قبل كل شيء مساءلة للضمير السياسي ومحاسبة أمام التاريخ.إن ما يحتاجه المغرب اليوم ليس فقط استقالة حكومة، بل ولادة عقد سياسي جديد يجعل من المحاسبة قيمة يومية، ومن الشفافية ممارسة مؤسساتية، ومن الكرامة أساسًا للعلاقة بين الدولة والمواطن. فقط حينئذٍ يمكن القول إن الاستقالة لم تكن هروبًا من المسؤولية، بل خطوة في طريق بناء دولة عادلة ومسؤولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى