قراءة في مسرحية “نشرب إذن”: لا تُختزل المعاناة في دائرة عبثية مغلقة، بل تُقدَّم كحافز للتساؤل والاحتجاج



تسرد مسرحية “نشرب إذن” حكاية عن شخصيات تواجه ظروفاً قاسية، وتفكك علاقة الإنسان بمصيره وبالعالم الذي يُحاصر وجوده، حيث تتجلى في العمل رؤية درامية مشحونة بلغة مكثفة، وإيقاع داخلي متوتر، وجمل قصيرة لكنها مثقلة بالمعنى، تجعل النص أقرب إلى صرخة إنسانية ممتدة عبر الزمن، تكشف عن التناقضات التي تسكن الكيان البشري، وعن جدلية الحرية والمعاناة بوصفها لبّ التجربة الإنسانية، يواجه المتلقي كلمة “نشرب إذن”، و”إذن” تُستعمل للجواب على كلام سابق، وتفيد معنى النتيجة أو الجزاء أو الاستنتاج، وهي تُنصب الفعل المضارع إذا وقعت في صدر الجملة، أي جاءت أولًا، وكانت مباشرة للفعل المضارع، قال صديقك: “هيا نشاهد المسرحية!”، تقول أنت: إذن نشاهد المسرحية، المعنى، بناءً على كلامك، ستكون النتيجة أننا سنشاهد المسرحية، “إذن” تفيد النتيجة، الفعل “نشرب” منصوب بـ”إذن” (فتحة ظاهرة: “نشربَ”)، “إذن” تفيد النتيجة أو الجزاء، وتربط الجملة بما قبلها، أما قولنا “نَشْرَبُ إذا”، فتكون “إذا” ظرف زمان للمستقبل، وتُدخل على الجملة لتبيّن الشرط الزمني، بعدها تأتي جملة فعلية تكون جوابًا للشرط “نَشْرَبُ إذا عُدْنا إلى البيت”، بمعنى سنشرب عندما نعود إلى البيت، “إذا” هنا تعني حين أو عندما، فهي ظرف زمان لا علاقة له بالجواب أو النتيجة المنطقية، “إذا” تفيد الشرط الزمني أو التعليق بالفعل على وقتٍ مستقبلي، من الناحية البصرية، يحمل فعل “الشرب” قيمة رمزية تتجاوز مدلوله الحسي، ليغدو علامة على الاحتجاج أو النسيان أو الرغبة في الخلاص، هذا التوظيف الرمزي يُذكّر بمسرح يونسكو، حيث تتحول الأفعال البسيطة إلى إشارات دلالية عميقة، في “نشرب إذن”، يصبح فعل الشرب لحظة تجسيد للبحث عن مخرج من القسوة، هذه الرمزية تمنح العرض المسرحي إمكانات إخراجية واسعة، تجعل من المشهد الحي مختبراً للتجربة الإنسانية.

تطرح مسرحية “نشرب إذن” سؤالاً وجودياً يتجاوز الإطار المحلي ليبلغ الأفق الكوني، كيف يمكن للإنسان أن يعيش وسط ظروف قاسية تحاصره من كل جانب؟ هذا السؤال لا يُعالج عبر خطاب مباشر، بل من خلال لغة درامية مكثفة، مشحونة بالتوتر والقلق، وبشخصيات تمزج بين الرغبة في الهروب ومحاولة تغيير المصير، في ذلك، تنفتح المسرحية على تراث مسرحي عالمي، خاصة في تقاطعاتها مع أعمال صموئيل بيكيت ويوجين يونسكو، اللذين شكّلا معاً ملامح المسرح العبثي والوجودي، تتخذ اللغة في المسرحية شكل جُمل قصيرة، مقتضبة، لكنها مثقلة بالمعنى، وهي لغة تقترب في تكثيفها من الشعر، وفي إيقاعها من الصرخة. هذا الأسلوب يعيد إلى الأذهان لغة بيكيت في في انتظار غودو (1953)، حيث يصبح الصمت والعبارة المبتورة وسائل تعبيرية لا تقل أهمية عن الكلمات. كذلك نجد تقاطعاً مع لغة يونسكو في الكراسي (1952)، حيث تتحول الجمل البسيطة إلى رموز تكشف عبثية التواصل الإنساني، بهذا المعنى، فإن مسرحية “نشرب إذن” تضع نفسها ضمن تقليد لغوي مسرحي يرى في الاختزال وسيلة لتكثيف التجربة الوجودية، الشخصيات في المسرحية تتأرجح بين الهروب والسعي إلى التغيير، تستعيد مصائر شخصيات بيكيت العبثية التي تعيش الانتظار المعلّق، فإذا كان فلاديمير وإستراغون في “في انتظار غودو” عالقين في انتظار لا نهاية له، فإن شخصيات “نشرب إذن” تواجه وضعاً مشابهاً، فهي تدرك استحالة التغيير، لكنها تظل متشبثة بأمل غير واقعي، في لعبة مراوحة بين العجز والرغبة، في المقابل، يختلف النص في منحه للشخصيات قدرة أكبر على التعبير عن صراعها الداخلي، وكأنها تحاول كسر الدائرة المغلقة التي فرضها المسرح العبثي الكلاسيكي، في “نشرب إذن”، الحرية ليست منجزاً، بل أفقاً بعيد المنال، هذا التصور يتقاطع مع الرؤية الفلسفية ليونسكو، الذي رأى أن الإنسان محكوم بعبثية وجوده، وأن محاولاته للخلاص غالباً ما تبوء بالفشل، فشخصيات يونسكو، كما في “الخرتيت” (1959)، تجد نفسها في مواجهة جماعية خانقة لا يمكن الفكاك منها، أما في المسرحية التي نحللها، فإن الحرية تظل وعداً مؤجلاً، لكنه في الوقت نفسه يشكّل دافعاً للاستمرار، بهذا، يجمع النص بين اليأس العبثي والأمل الوجودي، مانحاً المتلقي فسحة للتأمل في إمكانية تجاوز القسوة، حتى وإن لم يتحقق ذلك واقعياً، المعاناة في المسرحية ليست عارضاً، بل هي شرط بنيوي للوجود، يلتقي النص مع تصور بيكيت الذي جعل من الألم والانتظار أفقاً دائماً لشخصياته، حيث لا يمكن فهم معنى الوجود إلا عبر اختبار المعاناة، ومع ذلك، فإن “نشرب إذن” تُدخل بعداً إنسانياً أكثر دفئاً، إذ لا تُختزل المعاناة في دائرة عبثية مغلقة، بل تُقدَّم كحافز للتساؤل والاحتجاج، بهذا، يتجاوز النص حدود العبث إلى ما يشبه الوعي النقدي الذي يجعل المعاناة أداة لإدراك الظلم والرغبة في تغييره.

ما يجعل “نشرب إذن” نصاً يتجاوز حدود الجغرافيا هو قدرتها على التعبير عن سؤال كوني، كيف يواجه الإنسان مصيره وسط ظروف قاهرة؟ هذا السؤال طرحه بيكيت ويونسكو من زاوية عبثية، لكن المسرحية المطروحة هنا تضيف بعداً محلياً ـ عربياً، يضفي على النص طابعاً مزدوجاً، خصوصي في تفاصيله، وكوني في معناه، هذا الازدواج هو ما يفتح الباب أمام قراءات متعددة، تجعل النص قابلاً للتأويل في سياقات ثقافية متنوعة، مثل مسرحيات بيكيت ويونسكو، لا يقدّم نص “نشرب إذن” أجوبة جاهزة، بل يترك المجال مفتوحاً أمام المتلقي لتأويل الصراع. غير أن الفرق يكمن في أن النص العربي يميل إلى تحميل شخصياته عبئاً أكبر من الأسئلة الأخلاقية والسياسية، ما يجعل التلقي ليس فقط تجربة وجودية، بل أيضاً تجربة نقدية للواقع الاجتماعي. وهنا تكمن قوة النص، إذ يُحوّل المسرح من فضاء عبثي مغلق إلى ساحة مواجهة بين الذات والواقع، إذا كان المسرح العبثي الغربي قد انشغل بكشف فراغ المعنى، فإن “نشرب إذن” تمزج بين هذا الوعي وبين إرادة في البحث عن معنى مغاير، بهذا، يضع النص نفسه في موقع حوار مع التراث العالمي دون أن يذوب فيه، إنه يستعير من بيكيت توتر اللغة ومن يونسكو قوة الرمزية، لكنه يضيف حساسية محلية، تجعل التجربة الإنسانية أكثر التصاقاً بظروف واقعية عاشها المتلقي العربي، وبهذا، يتحول النص إلى جسر بين المحلي والكوني، بين العبث والاحتجاج، وكأني بالمسرحية سيرة مقتضبة لكاتبها قاسم مطرود (1961 – 2012)، والذي يعتبر واحدا من أبرز الأصوات المسرحية العراقية التي حملت همّ الوطن والإنسان عبر الخشبة، وُلد في العراق وعاش بداياته الفنية في ظل واقع مضطرب، حيث اصطدم بالقمع السياسي والرقابة الفكرية، ما جعله يعيش مأساة مزدوجة، معاناة داخلية ككاتب لا يجد فضاءً للتعبير، ومعاناة خارجية كإنسان مهدد في وجوده. هذا الوضع دفعه إلى الهجرة نحو المنفى الأوروبي، حيث وجد في الغربة متنفسًا إبداعيًا، وإن كان مثقلاً بالحنين والجراح، أفكاره المسرحية انطلقت من الإيمان بأن المسرح فعل مقاومة فكرية وجمالية، وأن الكتابة لا بد أن تُشعل الأسئلة في وعي المتلقي. لذلك حملت نصوصه نزوعًا فلسفيًا وإنسانيًا، متأثرةً بتجارب المسرح العالمي، لكنها مشبعة بروح عراقية تعكس قسوة الحروب والانكسارات. من أبرز أعماله “السرداب”، “المومياء”، و”حكايات مظلمة”، التي تجسّد ثنائية القمع والحرية، الذاكرة والمنفى، الأمل والخذلان، هجرته لم تكن خلاصًا بقدر ما كانت استمرارية للغربة الداخلية التي عاشها في وطنه. ومع ذلك ظل يكتب وكأن العراق حاضر في كل حرف، كأنه يصرّ على أن الفن هو الذاكرة الأخيرة التي لا يمكن للنفي أن يطمسها، قاسم مطرود بقي رمزًا للمسرحي الملتزم، الذي حمل جرح العراق إلى خشبات العالم، وترك أثرًا لا يُمحى في الكتابة المسرحية العربية.

في مسرحيته “نشرب إذن” يقدّم المخرج خالد ازويشي تجربة إخراجية تستند إلى مقاربة بصرية دقيقة، تجعل من العرض المسرحي مختبرًا جماليًا ونفسيًا، يقوم التصور الإخراجي على مفارقة جوهرية تتمثل في التباين بين البنية الحركية البسيطة للممثلين والحمولة النفسية الكثيفة للشخصيات، هذا التوتر بين السطح الجسدي والعمق النفسي يُحوِّل الحركة المسرحية إلى دالٍّ فلسفي يكشف عن هشاشة الذات في مواجهة صراعاتها الداخلية، وهو ما يضفي على العرض بعدًا تأويليًا يتجاوز حدود السرد المباشر، من الناحية السينوغرافية، تعامل ازويشي مع الفضاء المسرحي بوصفه مكوّنًا فاعلًا في البناء الدرامي، لا مجرد إطار لاحتضان الأداء، فقد استثمر توزيع الممثلين على الخشبة وتوظيف التشكيلات الحركية باعتبارها وحدات بصرية قائمة بذاتها، تتنامى دلالاتها مع تطور الأحداث، هذا الاشتغال الواعي على الفضاء جعل من كل موقع جسدي أو انتقال حركي علامة دلالية تُغني المعنى وتكثّف البعد النفسي للنص، أما الإضاءة فقد تحولت إلى عنصر درامي قائم بذاته، إذ تجاوزت وظيفتها التقليدية في الكشف البصري لتؤدي دورًا في الكشف النفسي، فقد وظّفها المخرج كأداة لفضح الصراعات الداخلية للشخصيات، فهي تضيء العتمات الداخلية حين يبلغ التوتر مداه، وتلقي ظلالًا كثيفة كلما استحكم الصراع. بذلك، غدت الإضاءة لغة موازية للغة الحوار، بل وأداة تفسيرية للانفعالات غير المنطوقة، وعلى المستوى الصوتي، اعتمد ازويشي على تضافر المؤثرات الصوتية والموسيقية مع الصورة المسرحية لتوليد أثر نفسي متصاعد، الأصوات لم تُوظَّف بوصفها خلفية جمالية، بل باعتبارها انعكاسًا للذات الداخلية، إذ تتجاوب مع الإيقاعات البصرية في توليد حالة من الضغط النفسي الموجّه نحو المتلقي، هذا المزج بين السمعي والبصري أتاح للعرض تحقيق ما يمكن تسميته بـ”الصدمة الجمالية” التي تدفع المشاهد إلى الانخراط الوجداني والفكري في آن واحد.

تتجلى قيمة مسرحية “نشرب إذن” في كونها تعيد الاعتبار إلى المسرح بوصفه فنًا للتفكير الفلسفي لا مجرد أداة للتسلية، فالمخرج لم يكتفِ بترجمة النص إلى مشاهد مسرحية، بل عمد إلى بناء لغة بصرية–سمعية قادرة على استنطاق العمق الإنساني للشخصيات، وعلى جعل المتلقي شريكًا في اختبار القلق الوجودي الذي يعيشه الممثل فوق الخشبة، وبهذا المعنى، يمكن اعتبار “نشرب إذن” تجربة إخراجية ترسّخ لخطاب مسرحي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين النص والأداء والفضاء، ويؤكد على وظيفة المسرح كأفق فلسفي وجمالي في آن واحد. إن مسرحية “نشرب إذن” عمل يُزاوج بين الحس الجمالي والقلق الفلسفي، وبين الانفتاح على تقاليد مسرحية عالمية والتجذر في واقع عربي قاسٍ، فهي نص يتقاطع مع بيكيت في التوتر الوجودي، ومع يونسكو في الرمزية العبثية، لكنه يتجاوزهما بإضفاء بعد نقدي محلي يجعل من الحرية والمعاناة سؤالين متداخلين في سياق اجتماعي وتاريخي ملموس، بهذا، تقدم المسرحية نموذجاً على قدرة المسرح العربي على الدخول في حوار مع التراث العالمي، دون فقدان خصوصيته أو فرادته. إنها نص يذكّرنا بأن الفن يظل أفقاً لمساءلة الوجود، ومجالاً لمقاومة القسوة عبر الجمال والمعنى، كما تكشف المسرحية عن قوة المسرح في مقاربة القضايا الإنسانية الكبرى من خلال لغة مكثفة وأسلوب درامي متوتر، فهي نص يضع الحرية والمعاناة في قلب الصراع، ويجعل الشخصيات مرآة للذات الإنسانية الممزقة بين الهروب والتغيير، ومن خلال بنيتها الرمزية وانفتاحها على أفق كوني، تظل المسرحية قادرة على إثارة الأسئلة وتجديد قراءتها مع كل تلقي جديد. إنها ليست فقط شهادة على قسوة العالم، بل أيضاً دعوة للتفكير في إمكانية تجاوزه، ولو عبر لحظة جمالية خاطفة، تثبت أن الفن يظل قادراً على مقاومة العدم بالمعنى.

مسرحية “نشرب إذن” لفرقة المركز الثقافي نجوم المدينة فاس، ستمثل المغرب في الدورة السادسة من مهرجان بغداد الدولي السادس للمسرح دورة “ميمون الخالدي” بتنظيم مشترك بين دائرة السينما والمسرح ونقابة الفنانين العراقيين، التي تحتضنها العاصمة العراقية في الفترة من 10 إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2025، من تأليف الرحل قاسم مطرود، وإخراج خالد ازويشي، وتشخيص كل من الفنانة المتألقة نسرين المنجى، والفنان القيدوم فريد بوزيدي، ومراد متوفق، سينوغرافيا أميمة الخضري وتنفيذ عبد الفتاح بن دعنان، الملابس آية حروش، تصميم الإضاءة الياس المربوح، ماكياج شريفة الجباري، المحافظة يوسف علكي، التقنيات كريم بنجلون، التوثيق والإعلام عبد الرحمن بلخضر.


هذا التحليل طويل ومفصل، لكنه يختزل مسرحية نشرب إذن في رموز وعبارات معقدة جداً! لقد وجد الباحث فيها كل ما يتمنى ليكشف عن اليأس والصراع الإنساني، من بيكيت ويونسكو إلى قاسم مطرود! بالطبع، الإضاءة تكشف الصراعات الداخلية، والأصوات تتجاوب مع الإيقاعات البصرية، والفنان الملتزم يطرح أسئلة كونية عبر شخصيات تعاني! كل هذا ولم يذكر أحد أن المشهد كله يمكن أن يُقدم على خشبة مغلقة بحجم دائرة المسرح فقط، مع إيقاع الشرب المستمر كنشاط رئيسي! فكرة رائعة، لكنها قد تكون أقل إثارة للاهتمام من تحليل الإضاءة!Đồng hồ đếm ngược