قراءة في مسار الفنان التشكيلي حسن شبوغ: الفن لا يحتاج إلى عناء التبرير، واللوحة الجيدة تفرض نفسها بقوتها الداخلية
يسعى باستمرار إلى الإمساك بما يفلت، وإلى صياغة جماليات جديدة من قلب القلق الإنساني.

في قلب الحي المحمدي بالدار البيضاء، حيث تختلط الأصوات بصخب الحياة اليومية، وحيث تتعانق ذاكرة المقاومة بأغاني ناس الغيوان، يطلّ الفنان التشكيلي حسن شبوغ كأحد أولئك الذين حفروا أسماءهم بصمتٍ في وجدان المكان، ليس مجرد رسامٍ يلوّن المساحات البيضاء، بل هو ذاكرة بصرية، رجلٌ مسكون بالألوان، يتنفس من خلالها، ويصوغ من عوالمه لوحةً تنطق بما تعجز عنه الكلمات، منذ بداياته الأولى، كان حسن شبوغ يلتقط بعينيه تفاصيل الأشياء التي تبدو عابرة في نظر الآخرين، كان يرى في جدران الحي مزيجاً من الدلالات، وفي الوجوه العابرة حكاياتٍ تختزن أحلاماً وانكسارات، لم ينغلق يوماً على مدرسةٍ تشكيلية واحدة، بل ترك نفسه مفتوحاً على كل المدارس، من الكلاسيكية إلى الانطباعية، من التعبيرية إلى التجريدية، من السريالية إلى الواقعية الجديدة، لكنه في النهاية، لم ينغمس في محاكاة أي اتجاه بعينه، وإنما اختار أن يكون هو كما هو، فناناً يرسم بما يحسّ، مسكوناً بحواسه الخمس، ومسلحا بحاسته السادسة التي لاتخطئ، يضعها كلها في خدمة اللون والخط والظل، يحتل حسن شبوغ موقعاً مميزاً في المشهد البصري المغربي المعاصر، ليس فقط بوصفه فناناً مبدعاً ينتمي إلى جغرافيا الحي المحمدي، بل أيضاً كحالة فنية تعكس جدلية العلاقة بين الذات المبدعة، والذاكرة الجماعية، والتحولات الجمالية التي عرفها الفن التشكيلي في المغرب خلال العقود الأخيرة، فشبوغ ليس مجرد رسام يواظب على إنجاز اللوحات والمشاركة في المعارض، بل هو فاعل بصري يُعيد باستمرار مساءلة أدواته وخبرته، وينتج خطاباً جمالياً قائماً على التعدد والتجريب والانفتاح، لا يمكن مقاربة تجربة حسن شبوغ دون الانطلاق من فضاء الحي المحمدي الذي يمثل بؤرةً سوسيو-ثقافية لها تاريخ خاص في الذاكرة المغربية، فهذا الحي لم يكن مجرد إطار جغرافي لنشأته، بل تحول إلى بنية رمزية تسكن لوحاته بشكل مباشر أو ضمني، فمن خلال موضوعاتٍ ترتبط بالوجوه، والجدران، والأزقة، وألوان الحياة الشعبية، يستحضر الفنان ذاكرة المكان بوصفها مادة تشكيلية قابلة للتأويل، إنّ الحي عنده ليس خلفية محايدة، بل هو طاقة تعبيرية تعيد صياغة اللوحة وتمنحها خصوصيتها الجمالية.

يؤمن شبوغ أن التجربة التشكيلية ليست فقط ممارسة تقنية أو اختياراً جماليّاً، بل هي جواب على أسئلة الوجود ومسار الحياة، لهذا فإن كل لوحة يرسمها تحمل جزءاً من سيرته الشخصية، من قلقه الداخلي، من تطلعاته ومن خيباته أيضاً، في كل مرة يمسك فيها بالفرشاة، يعيد صياغة ذاته، وكأنه يكتب يومياته باللون لا بالكلمة، يرسم لكي يؤرخ لمساره، ولكي يحفظ ما يتسرب من عمره بين التفاصيل اليومية، ولأنه ابن الحي المحمدي، فإن روح المكان تسكن لوحاته بعمق، ليس فقط في موضوعاته التي قد تستلهم الشارع والذاكرة الشعبية، بل أيضاً في نبض الألوان وحركتها، فلوحاته تحمل شيئاً من حرارة الجدران المبللة برطوبة المحيط الأطلسي، ومن دفء الشمس التي تشرق على السطوح المتواضعة، ومن الأصوات التي تتناوب بين الأغنية الشعبية وصوت كرةٍ تضرب جداراً قديماً، الحي المحمدي بالنسبة لشبوغ ليس مجرد جغرافيا، بل هو مخزن رمزي وجمالي يستعيده في لوحاته بشكل مباشر أو ضمني، وعلى الرغم من تأثره بمختلف المدارس، فإن شبوغ يفضل أن يسمي أسلوبه بالمدرسة الواقعية “الفنية”، هذه التسمية التي يرددها تكشف عن موقفه الرافض للتقعيد الصارم أو للتنميط، فهو يصر على أن واقعيته ليست مجرد محاكاة لواقع خارجي، بل هي واقعية مُصفّاة، تنبثق من خبرته وحساسيته الخاصة، إنّه يرسم الواقع لا كما هو فقط، بل كما يُعاد تشكيله في مرآة إحساسه، بهذا المعنى، فإن واقعيته ليست تسجيلية، بل تأويلية، قادرة على أن تلتقط الأبعاد الإنسانية والجمالية، غير أن هذه الواقعية ليست تسجيلية أو فوتوغرافية، بل واقعية تأويلية تنبع من إدراك ذاتي للواقع، فاللوحة عنده لا تعكس الواقع كما هو، وإنما تعيد صياغته من خلال حساسية وجدانية وروحية، بهذا المعنى، يختلف مشروعه عن الواقعية التقليدية، لأنه ينقل الواقع إلى مستوى آخر، حيث يغدو اللون والخط والظل أدوات لإعادة بناء المعنى، لا مجرد وسائل لنقله، ما يميز حسن شبوغ هو أنه لا يكرر نفسه، كل عمل جديد يمثل مغامرة مختلفة، وفي كل مرة يجدد أسلوبه وتقنياته بحسب حالته النفسية والإنسانية والمجتمعية، فهو لا يرى الفن كشيء ثابت، بل ككائن حي يتنفس ويتغير ويتطور، لذلك، يجد المتلقي في أعماله تحولاتٍ مستمرة، انتقالاً سلساً بين الواقعية الحسية، بين العفوية والتقنية المحكمة، كأنه يسعى باستمرار إلى الإمساك بما يفلت، وإلى صياغة جماليات جديدة من قلب القلق الإنساني.
تميزت بدايات شبوغ بانفتاحه على مختلف المدارس التشكيلية العالمية، من الكلاسيكية إلى الانطباعية، ومن التعبيرية إلى التجريدية والسريالية، غير أن هذا الانفتاح لم يتحول إلى تقليد أو تبعية، بل كان وسيلة لتوسيع المدارك التقنية والجمالية، لقد استثمر الفنان عناصر من هذه التجارب، لكنه أعاد تركيبها داخل رؤية شخصية ترفض التنميط، من هنا يمكن القول إن شبوغ اختار منذ البداية أن يكون “هو كما هو”، أي أن يرسم ما يحس به بكامل حواسه، بعيداً عن قسرية الانتماء إلى تيار محدد، يعتبر شبوغ أن الممارسة التشكيلية تشكّل جزءاً من الجواب على الأسئلة الكبرى لمسيرته الإنسانية، فاللوحة بالنسبة له ليست فقط إنتاجاً جمالياً، بل هي أيضاً وثيقة وجودية تؤرخ لمساره الشخصي، من هنا، تحضر في أعماله أبعاد السيرة الذاتية والذاكرة، ويتجلى الفن ككتابة يومية باللون، تلتقط قلق الفنان وأحلامه وهواجسه، وفي كل عمل جديد، تتجدد الأساليب والتقنيات، انسجاماً مع التحولات النفسية والذهنية التي يعيشها، حيث تُظهر تجربة شبوغ قدرة واضحة على التجريب المستمر، فهو لا يكرر نفسه، بل ينفتح على مغامرات تشكيلية متعددة، مما يجعل المتلقي أمام مسار متجدد باستمرار، مساره الفني لا ينفصل عن حضوره في المشهد التشكيلي المغربي، فقد داوم على المشاركة في معارض محلية ووطنية ودولية، من تلك الصغيرة التي تُقام في أروقة الأحياء، إلى المعارض الكبرى التي تحتضنها كبريات القاعات، حضورُه هناك لم يكن حضوراً شكلياً، بل كان بمثابة إشعاع، إذ اعتاد أن ينثر الجمال من حوله دون عناء. أعماله تشدّ المتلقي بجاذبية داخلية، فلا تحتاج إلى شروح طويلة، بل تتكلم بذاتها، ببساطتها، بصدقها وبعمقها، ورغم هذا التنوع، فإن لوحاته تحتفظ بخيط ناظم داخلي يتمثل في المنظور الجمالي الذي يوجهها، هذا الخيط هو الذي يمنح أعماله هوية بصرية مميزة، حتى عندما تختلف من حيث الشكل والأسلوب.

وإذا كان بعض الفنانين يسعون إلى ترك بصمتهم عبر توقيعٍ متكرر أو أسلوبٍ نمطي يُميزهم، فإن شبوغ يترك بصمته عبر تعدد الأساليب في وحدة الرؤية، أي أن المتلقي قد لا يجد تشابهاً شكلياً صارماً بين لوحاته، لكنه سيجد خيطاً داخلياً يربطها، ذلك الإحساس العميق بالجمال، وذاك البحث المستمر عن المعنى من خلال اللون، شبوغ ليس فناناً يعيش في برجٍ عاجي، بل هو رجل منفتح على الناس، قريب من الحياة اليومية بكل بساطتها وتعقيداتها، ويعتبر أن مهمته ليست فقط أن يرسم، بل أن يؤسس لثقافة بصرية في محيطه، يرى أن المجتمع المغربي يحتاج إلى تربية العين على الجمال، وأن الفن يمكن أن يكون لغة مشتركة تتجاوز الانقسامات، ولعل ما يمنح تجربته أصالتها هو تلك العلاقة الحميمية التي يقيمها مع اللون، فهو لا يتعامل مع الألوان كعناصر تقنية فقط، بل ككائنات لها حياة، يترك لها حرية الحركة فوق القماش، يتنصت إليها وهي تتداخل وتتصادم وتتصالح. اللون عنده ليس مجرد وسيلة للإيهام البصري، بل هو لغةٌ قائمة بذاتها، لغة وجدانية وروحية، يشكل اللون عند حسن شبوغ محوراً مركزياً في الممارسة التشكيلية، فهو يتعامل معه ككائن حي، يتنفس ويتصارع ويتصالح فوق سطح القماش، اللون ليس مجرد وسيلة للإيهام البصري، بل لغة قائمة بذاتها، ذات طاقة وجدانية وروحية، إنه يترك للألوان حرية الحركة، ثم ينصت إلى حوارها الداخلي، ليخرج بتوليفات تعكس علاقة جدلية بين الانفعال العاطفي والبناء الجمالي، لم ينعزل في ورشته، بل واظب على المشاركة في المعارض المحلية والوطنية والدولية، حضورُه في هذه الفضاءات لم يكن شكلياً، بل كان مساهمة في ترسيخ ثقافة بصرية داخل الوسط الفني المغربي، كما أن انفتاحه على الجمهور، سواء عبر اللقاءات الثقافية أو الأوراش التربوية، يعكس إيمانه بدور الفن في تنمية الذائقة الجمالية، وفي تأسيس علاقة أعمق بين المجتمع واللوحة التشكيلية، تتسم تجربة شبوغ بقدرتها على المزاوجة بين البعد الفردي والبعد الجماعي، فعلى المستوى الفردي، تعكس أعماله سيرته الخاصة وحالته النفسية؛ وعلى المستوى الجماعي، تنفتح على ذاكرة الحي وذاكرة المغرب الثقافية، بذلك تتحول لوحاته إلى جسر بصري بين الأنا والآخر، بين الفردي والجماعي، بين الذاتي والكوني.

هناك من يصف مسار حسن شبوغ بأنه رحلة مستمرة بين الذات والعالم، في كل لوحة يضع جزءاً من ذاته، لكنه في الوقت نفسه ينفتح على أسئلة الإنسان الكبرى، الحرية، الذاكرة، الزمن، الفقد، الحلم، الألم، الأمل، التجديد، والحفر في التراث، هذه الأسئلة لا يطرحها بشكل مباشر أو خطابي، بل يتركها تتسرب من بين ضربات الفرشاة، ومن انحناءات الخطوط، ومن تدرجات الضوء والظل، لقد أسس حسن شبوغ لمسار بصري متميز دون أن يُدخل نفسه في صراعات إثبات أو منافسة، كان يرى أن الفن لا يحتاج إلى عناء التبرير، وأن اللوحة الجيدة تفرض نفسها بقوتها الداخلية، لذلك ظل بعيداً عن الادعاءات، منكباً على ورشته، يبدع بصمت، تاركاً للزمن أن ينصف أعماله.
اليوم، حين يُنظر إلى مساره، يُمكن القول إن حسن شبوغ يمثل أحد الأصوات الأصيلة في التشكيل المغربي. صوته لا يعلو بالصخب، بل بالعمق، إنه فنان ظل وفياً لذاته ولفنه ولرؤيته الجمالية، ولأسلوبه في الحياة كما في الفن، وفي الوقت نفسه، ظل منفتحاً على العالم، مشاركاً في معارضه، متواصلاً مع تجاربه، محاوراً لها من موقعه الخاص.
من منظور نقدي، يمكن إدراج تجربة حسن شبوغ ضمن مسار الواقعية الجديدة في التشكيل المغربي، تلك التي لا تكتفي بالتسجيل، بل تعيد صياغة الواقع وفق منظور تأويلي، كما يمكن قراءتها في ضوء نظريات التلقي الفني، حيث تتيح لوحاته مستويات متعددة من القراءة، تنطلق من الحس الجمالي المباشر، وصولاً إلى التأمل الفلسفي في قضايا الوجود والذاكرة والزمن.
إنّ تجربة حسن شبوغ تمثل إضافة نوعية للمشهد التشكيلي المغربي، لأنها تزاوج بين الوفاء للذاكرة والانفتاح على آفاق التجريب الجمالي، فهي تجربة لا تبحث عن إثبات ذاتها عبر الصخب أو الادعاء، بل عبر عمقها الداخلي وتماسكها الجمالي. يمكن القول إن شبوغ يرسم لا ليقلّد الواقع، بل ليعيد تشكيله في أفق إنساني وجمالي أرحب، وفي هذا المعنى، تشكل أعماله مساراً بصرياً قائماً بذاته، يتجاوز حدود المحاكاة ليؤسس لرؤية جمالية تنبع من صميم التجربة الإنسانية، يمكن اختزال تجربته في عبارة واحدة، حسن شبوغ يرسم لكي يعيش، ويعيش لكي يرسم، وبين الاثنين مسافة قصيرة، لا تتعدى تلك المسافة بين قلبه ولوحته، بين يده والفرشاة، بين اللون والذاكرة.




