قراءة في تجربة “منذ متى كانت الأرض كروية؟” المسرح فضاء لإعادة تشكّل الذاكرة


يبرز العرض المسرحي المغربي “منذ متى كانت الأرض كروية؟”، الذي قدم في إطار افتتاح الموسم المسرحي الجديد 2025-2026 لمسرح الشامات بمكناس، من إبداع نخبة من الفنانين: بوسلهام الضعيف، رشيد فكاك، عبد الحي السغروشني، أسامة بوفارنو، منال الصديقي، هند بلعولة، سفيان نعيم، وليد معروفي، خديجة بلامين، يوسف لهبوب، حسن حميميدي، مروان الجرفي. باعتباره نموذجًا لممارسة مسرحية تنبني على المراوغة الجمالية، وتشتغل على إعادة تشكيل الماضي ضمن الحاضر، من خلال بناء دراماتورجي ينفتح على إمكانات الأرشفة الرمزية والاشتغال الفلسفي على مفاهيم الزمن والهوية، ومساءلة أنماط التلقي وزعزعة الحدود التقليدية بين التاريخ والخيال، وبين الذاكرة والنسيان.

العنوان نفسه يُحيل إلى مساءلة للتبسيط المفرط الذي يطبع الكثير من التصورات عن العالم. ليست المسألة مرتبطة بالعلم أو بالفيزياء، بقدر ما ترتبط بنقد السرديات الاختزالية التي تجعل العالم قابلاً للقراءة في معادلات جاهزة. فالمسرح هنا يقترح بديلًا يقوم على التعقيد والتشظي، ليذكّر المتلقي بأن الواقع لا يُختزل في خطية واحدة، وأن الحقيقة لا تُحاصر في يقين واحد.
تتسم الكتابة في هذا العرض بانفتاحها على أشكال متشظية، إذ تتوزع المشاهد في هيئة وحدات منفصلة لا تنسج خطًا سرديًا. هذا الاختيار الفني يقطع مع البنية الكلاسيكية القائمة على الحبكة المتماسكة، ليمنح المشاهد فضاءات تأملية أكثر من كونها أحداثًا متعاقبة. إن تفكيك وحدة السرد وإحلال التقطيع البصري والرمزي مكانها، يضع المتلقي أمام نص لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يستدعي منه المشاركة في إنتاج المعنى، وإعادة صياغة العلاقات بين الصور والمقاطع.

من أبرز مرتكزات العرض حضور شخصية الفنان التشكيلي الجيلالي الغرباوي. غير أنّ هذا الحضور لا يُقدَّم بوصفه وثيقة تاريخية، وإنما كعلامة جمالية محمّلة بأبعاد رمزية. استدعاء الغرباوي لا يعني العودة إلى سيرته الذاتية في بعدها الواقعي، بل يتموضع في مستوى آخر، حيث يتحول إلى صورة أرشيفية تُجسّد مأساة التهميش والنسيان الذي لاحق العديد من الأسماء الإبداعية في التاريخ الثقافي المغربي: “كرسي باريس”، “الماضي البسيط”، “الأيام الجميلة”، “فيروس الإنسان”
إن إعادة توطين شخصية الغرباوي داخل فضاء مسرحي معاصر، تمثل محاولة لرد الاعتبار إلى الذاكرة المهمشة، والتي قضت خارج أرض النشأة على ضفاف كرسي في باريس، وتؤكد في الآن ذاته على وظيفة المسرح كأداة لمساءلة السلطة الرمزية التي تتحكم في آليات التذكّر والنسيان.
من هذا المنطلق، فإن حضور الغرباوي في العرض لا يُفهم بوصفه استرجاعًا وثائقيًا، وإنما باعتباره ممارسة رمزية تُعيد تشكيل زمن الغياب في حاضر المشاهدة. المسرح هنا ينجز وظيفة مزدوجة: فهو من جهة يتصدى للنسيان المؤسساتي الذي يطال شخصيات ثقافية بعينها، ومن جهة أخرى يمنح الماضي إمكانية الاستمرار عبر إعادة تمثيله في سياقات معاصرة.
يُعد توظيف مشهدية الغياب أحد المحاور الأساسية التي يشتغل عليها العرض. فالمسرح، في بنيته، فن يقوم على الحضور المباشر، غير أن هذه التجربة تحوّل الغياب ذاته إلى مادة جمالية. حضور الغرباوي ليس حضورًا جسديًا متجسدًا، بل هو حضور أرشيفي، حضور مُمَسرَح للغياب.
بهذا الشكل، يتجاوز العرض البعد التمثيلي المباشر ليضع المشاهد أمام مواجهة مع سؤال: كيف يمكن للذاكرة أن تُستعاد وهي في حالة تفتت؟ وكيف يمكن للفن أن يملأ الفجوات التي يتركها النسيان؟
تتبدى في هذا العمل أسئلة الهوية بوصفها إشكالية جوهرية. فالفنان الذي عاش في المنفى ومات بعيدًا عن وطنه، يُستحضر لا باعتباره فردًا، بل كرمز لهوية مشروخة تعاني من الاغتراب والتهميش. إن هذا التوظيف المسرحي يفضح آليات “التهشيم الرمزي” التي غالبًا ما تُمارَس على الفنانين والمثقفين الذين لم يجدوا موقعًا داخل السرديات الرسمية.
وبالتالي، فإن العرض يقدّم صورة مركبة عن الهوية الثقافية المغربية، حيث يتقاطع فيها الإبداع مع المنفى، والذاكرة مع الغياب، في ما يشبه مرثية مسرحية لزمن أهمل أصواتًا عديدة.
يمكن اعتبار العرض ممارسة أرشيفية بديلة، تتحدى النسيان عبر استحضار شخصيات وتجارب ظلّت على هامش السرديات الكبرى، وهو رسالة للحاضر والمستقبل لما يحدث وسيحدث من تهميش وإقصاء للذاكرة المفكر أو المنشغل بالثقافة ومجالات عدة، هنا المسرح يتحول إلى فضاء يكتب ضد المحو، ويعيد إنتاج الماضي بما يتيح له البقاء حاضرًا في المخيلة الجماعية. إن ما يميز هذه التجربة هو قدرتها على تحويل النص المسرحي إلى وسيط للتفاوض بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة الفردية والجماعية، ضمن مشروع رمزي يربط الفن بالمساءلة الفلسفية.
إن قراءة مسرحية “منذ متى كانت الأرض كروية” تكشف عن أفق مسرحي يضع الذاكرة في مواجهة النسيان، ويجعل من استدعاء الغائبين فعلًا جماليًا مقاومًا. فالعمل لا يقتصر على إعادة تقديم أحداث أو شخصيات من الماضي، بل يسعى إلى إعادة صياغتها في الحاضر، ليمنحها إمكانات جديدة للوجود. وبهذا المعنى، يتحول المسرح إلى مختبر رمزي يعيد التفكير في الزمن والهوية والتاريخ، ويقترح أن الفعل المسرحي ليس مجرد تمثيل للحياة، بل هو أيضًا مقاومة ضد كل أشكال التبسيط والتسطيح، واحتفاء بالذاكرة في تعدديتها وتعقيدها.


