قراءة في مسرحية “البيت” لعبيدة زيد: التقدم لا يقوم على القطيعة المطلقة، وإنما على إعادة تأويل الإرث


في مسرحية “البيت” لعبيدة زيد، لا نكون أمام حكاية فردٍ يخاصم قريته بقدر ما نكون أمام سؤال وجودي عميق، أين يسكن المعنى؟ أفي الرحيل أم في البقاء؟ في القطيعة أم في الجذور؟ المسرحية تُشيِّد عالمها على توترٍ فلسفي بين الحلم الفردي والإرث الجماعي، بين الذات الراغبة والذاكرة الملزمة، لتقترح في النهاية مصالحة لا تقوم على التنازل، ولكن تنهض على إعادة الفهم، منذ اللحظة الأولى، يظهر أحمد بوصفه ذاتًا مأزومة بالضيق، القرية لم تعد فضاءً للحياة التي يحلم بها، بالنسبة إليه تحولت إلى قيدٍ رمزي، إلى مكان يعيد إنتاج نفسه بلا أفق، هنا، تتجلى القرية لا كجغرافيا، وإنما كنسقٍ ثقافي مغلق، يفرض على أبنائه مسارًا واحدًا، وكأن الأفراد فيها نسخا بأوجه مختلفة، الشهادة الأكاديمية بوصفها ضمانة الشرف الاجتماعي، ووسيلة تعويض رمزي عن إخفاقات الآباء، الأب في هذا السياق ليس شخصية قمعية بقدر ما هو حامل لحلم مؤجَّل، يريد أن يعيشه من خلال ابنه، فيعيد إنتاج ما يسميه بيير بورديو العنف الرمزي، حيث تُفرض الرغبة باسم الحب والحرص. في المقابل، يقف أحمد بوصفه تمثيلًا للذات الحديثة، ذاتٌ تريد أن تختار مصيرها بنفسها، وأن تعيد تعريف النجاح خارج القوالب الجاهزة، رغبته في تعلم المسرح ليست مجرد نزوة فنية، وإنما هي تعبير عن نزوع أنطولوجي نحو التعبير، نحو أن يكون الإنسان ذاته لا صدى لغيره، المسرح هنا ليس مهنة كما يتخيلها الآخر، إنه فعل وجود، محاولة للإمساك بالحياة عبر الجسد والصوت والذاكرة.

غير أنّ مسرحية “البيت” تتجاوز الوقوع في فخّ التقابلات الجاهزة بين “التقاليد” و”الحداثة”، فلا تُقيم صراعها على منطق الإلغاء أو المفاضلة، ولكنها تعمّقه وتعيد تركيبه عبر شخصية الأم، التي تنهض بدور دلالي بالغ الكثافة، فالأم ليست طرفًا في النزاع الظاهر بين الأب والابن، ولا صوتًا حياديًا سلبيًا، بوإنما تمثل ما يمكن تسميته بالحكمة الصامتة؛ تلك التي تفهم منطق التحولات دون أن ترفع شعارًا أو تصدر حكمًا، إنها لا تمنع أحمد من الرحيل، إدراكًا منها لضرورة التجربة، ولا تصطف علنًا إلى جانب الأب، وعيًا بخطورة فرض الحلم من الخارج، لكنها في المقابل تمنحه ما هو أعمق من الزاد المادي، حقيبة الجد، بما تختزنه من كتاب وسيرة وذاكرة. بهذا الفعل البسيط في ظاهره، تؤسس الأم لمسار ثالث يتجاوز الثنائية، مسار يقوم على الوصل لا القطع، وعلى الاستمرار لا القطيعة، فهي تدرك أن الإنسان لا يغادر مكانه خفيفًا كما يتوهم، وأن كل رحيل لا يكون محمّلًا بالذاكرة مصيره التيه، الأم هنا ليست حارسة للماضي، ولكنها تتجاوز هذا المعنى لتصبح وسيطًا وجوديًا ينقل الإرث من كونه عبئًا إلى كونه إمكانية، ومن كونه حنينًا معطِّلًا إلى طاقة تأويلية ترافق الذات في سعيها نحو المستقبل.

من الوهلة الأولى يظهر الحظ السيء لأحمد من خلال تأخره عن موعد الحافلة، أو مرور الحافلة دون أن تتوقف في المحطة، هذا الحدث البسيط يتحول إلى علامة فلسفية كثيفة،الزمن لا يسير دائمًا وفق رغبتنا، الحافلة، رمز الحداثة والحركة، تمر دون أن تعترف بأحمد، أو أن تعيره اهتماما، هنا ينكسر وهم السيطرة، وتظهر هشاشة المشروع الفردي حين ينفصل عن جذوره، قذف الأغراض أرضًا هو فعل احتجاج، لكنه أيضًا لحظة فراغ، لحظة سقوط الذات حين تفشل في الإمساك بالعالم.على كرسي المحطة المتهالك، يدخل أحمد في حالة تأمل قسري. المكان بين القرية والمدينة، بين الانطلاق والعودة، يتحول إلىفضاء عتبة، حيث تُعاد صياغة الوعي. فتح الحقيبة وقراءة كتاب الجد ليس فعلًا بريئًا، وإنما هو دخول فيزمن آخر، زمن الذاكرة الجماعية، حيث تتداخل السيرة الفردية بتاريخ القرية ونضالها.عبر تشخيصه لشخوص الكتاب، لا يستحضر أحمد الماضي بوصفه حنينًا ساذجًا، ولكن بوصفه رأسمالًا رمزيًا،تاريخ كفرقرع، مقاومتها للاستعمار البريطاني، الأرواح التي زهقت دفاعًا عن الكرامة، كلها تتحول إلى مرآة يرى فيها أحمد ذاته من جديد. هنا يحدث التحول الجوهري، يدرك أن البيت الذي أراد الهروب منه ليس مجرد جدران، ولكنهخزان معنى، حمال أوجه، وأن المسرح الذي حلم به موجود أصلًا في ذاكرة المكان، في الحكايات، في الأجساد التي قاومت، وفي الأصوات التي لم تُسجَّل.البيت في المسرحية ليس مكانًا ثابتًا، هو مفهوم فلسفي، هو ما يسميه غاستون باشلار”بيت الذاكرة”، ذلك الفضاء الداخلي الذي تتراكم فيه الصور الأولى، وتتشكل فيه الهوية، أحمد يكتشف أن اغترابه لم يكن عن القرية بقدر ما كان عن فهمه لها، فالكنز لم يكن في حيفا(المدينة)، ولا في الرحيل المجرد، ولكن في القدرة على قراءة الذات داخل سياقها التاريخي.قرار العودة لا يعني الهزيمة، وإنما يمثلنضج الرغبة،أحمد لا يعود ليكرر حياة والده، ولا ليخضع للتقاليد، وإنما ليبدأ من الصفر، مسلحًا بوعي جديد، العلم هنا لا يُطرح بوصفه شهادة فقط، بل كأداة لفهم التاريخ، وتأويل الذاكرة، وصياغة المستقبل، المسرحية بذلك تنتصر لفكرة أن التقدم لا يقوم على القطيعة المطلقة، وإنما علىإعادة تأويل الإرث.

يحتلّ البيت في الذاكرة والمخيال العربي منزلةً تتجاوز كونه فضاءً مادّيًا للإقامة، ليغدو بنيةً رمزية كثيفة المعاني، تتشابك فيها الذاكرة والهوية واللغة والوجود. فالبيت في الثقافة العربية ليس جدرانًا وسقفًا فحسب، وإنما هو حاضن الذاكرة الأولى، ومهد التكوين النفسي والروحي، ومسرح العلاقات الإنسانية الأولى التي تشكّل وعي الفرد بالعالم.لغويًا، يحيل لفظالبيتإلى السكن والطمأنينة والاستقرار، وهو اشتقاق يشي بالفعل الإنساني الأساسي، الإيواء، لكن هذا المعنى البسيط سرعان ما يتسع في المخيال العربي ليشمل معاني الانتماء والأصل والجذور. فالبيت هو “الدار” و”المنزل” و”الأهل” و”المسكن” و”السكن”…، وهو كذلك “بيت الشعر” الذي يؤوي المعنى، في مفارقة دالّة على عمق التداخل بين المادي والرمزي في الثقافة العربية.في الذاكرة الجماعية، يرتبط البيت بالحماية والأمان، لكنه في الآن ذاته قابل لأن يتحول إلى رمز للفقد والحنين، خاصة في سياقات الهجرة والمنفى والاقتلاع. فالبيت الغائب يصبح أكثر حضورًا في الذاكرة من البيت القائم، ويتحوّل إلى صورة مثالية تُستعاد عبر التذكر والسرد والحنين. لذلك، كثيرًا ما يظهر البيت في الأدب العربي بوصفه أثرًا، أو أطلالًا، أو ذكرى متخيّلة، لا بوصفه مكانًا راهنًا فحسب.أما في المخيال العربي، فالبيت هو مرآة للذات؛ فكما يُبنى البيت حجرًا حجرًا، تُبنى الهوية تجربةً تجربة. ولهذا يتخذ البيت بعدًا وجوديًا: هو ما يمنح الإنسان إحساس “الداخل” في مقابل “الخارج”، ويمكّنه من ترتيب العالم عبر حدود واضحة بين الخاص والعام، وبين الألفة والاغتراب. وحين يُهدَّد البيت أو يُدمَّر، لا يُصاب المكان وحده، بل تتصدّع الذاكرة ويختلّ الإحساس بالاستمرارية.وفي السياق المعاصر، حيث تتكاثر أشكال النزوح والهدم والاغتراب، يزداد البيت كثافةً رمزية، ليغدو سؤالًا فلسفيًا: هل البيت مكان نعيش فيه، أم صورة نحملها معنا؟ هكذا يتجلّى البيت في المخيال العربي بوصفه معنىً مفتوحًا، يتأرجح بين الواقع والذاكرة، وبين الحضور والفقد، ليظل في النهاية أحد أكثر الرموز تعبيرًا عن علاقة الإنسان العربي بذاته وتاريخه ومصيره.

في رمزية البيت وتمثّلاته الفلسفية، لا يحضر البيت بوصفه معمارًا مادّيًا فحسب، ولكن ككثافةٍ دلالية تختزن معنى الوجود الإنساني في أكثر تجلّياته حميمية وقلقًا، البيت هو أول صورة للعالم، وأول تأويل للمكان، ومنه تتشكّل علاقة الإنسان بالزمن، وبالآخر، وبذاته. يرى غاستون باشلار في “جماليات المكان” أن البيت “كونٌ مصغّر”، وأن زواياه وسلالمه وغرفه ليست محايدة، بل خزائن للذاكرة والحلم. فالبيت، عنده، ليس ما نسكنه فقط، بل ما يسكننا؛ هو وعاء الطفولة ومرآة اللاوعي، حيث تتحول العلية إلى فضاءٍ للتفكير، والقبو إلى مستودعٍ للخوف المكبوت. من هنا، يغدو البيت بنية شعرية قبل أن يكون بنية هندسية، إذ تتداخل فيه المخيّلة مع التجربة المعاشة. أما مارتن هايدغر، فيربط البيت بفكرة السكن، ويذهب إلى أن السكن ليس فعل امتلاك، وإنما نمط وجود. فالإنسان “يسكن” العالم حين يقيم فيه معنى، وحين يحافظ على علاقة أصيلة مع الأرض والسماء والآخرين. البيت، وفق هذا التصور، هو شرط الانتماء الأنطولوجي، وغيابه أو تهدّمه ليس خسارة مكانية فحسب، ولكن تصدّع في معنى الوجود نفسه. وفي بعدٍ اجتماعي-نقدي، يلتقي مفهوم البيت عند بيير بورديو مع فكرة الحقل والهابيتوس؛ فالبيت يعكس البنية الطبقية والرمزية للمجتمع، ويعيد إنتاجها في تفاصيل العيش اليومي. توزيع الغرف، طقوس الضيافة، وحدود الخاص والعام، كلها تمظهرات لسلطة غير مرئية، تُشكّل الذوق والسلوك وتعيد تشكيل الذات. من زاوية الاغتراب، يقدّم غيورغ زيمل وحنة آرندت تصورًا للبيت بوصفه ملاذًا في عالمٍ يتسارع ويتشيّأ. فالإنسان الحديث، المحاصر بالمدن والأنظمة، يفقد بيته الداخلي حتى وإن امتلك جدرانًا. عند آرندت، يصبح البيت شرطًا للخصوصية، ولإمكان التفكير الحر، في مواجهة الفضاء العمومي الضاغط. هكذا، يتكشّف البيت كرمزٍ مركزي يجمع بين الذاكرة والهوية، بين الأمان والهشاشة، بين الفردي والجماعي، إنه فضاء صراع بين ما كان وما يُراد له أن يكون. وكلما تهدّم البيت- ماديًا أو رمزيًا- نفتح السؤال الفلسفي الأعمق، أين يسكن الإنسان حقًا؟ وهل يمكن للذات أن تجد بيتها في عالمٍ متصدّع المعنى؟
رغم أن مسرحية “البيت” تتخذ من البيت عنوانًا صريحًا لها، فإن حضوره الدرامي لا يتحقق بوصفه فضاءً منظورًا أو موقعًا فعليًا للأحداث، بل يظل معلقًا في الذهن، متحوّلًا إلى أفقٍ رمزي يتوارى خلف الفعل المسرحي ويمنحه توتره الوجودي. فالبيت هنا ليس مكانًا يُدخله المتفرّج، بل فكرة تُطارده؛ صورة مؤجلة، وحنين لا يتحقق. في المقابل، تتقدّم المحطة بوصفها الفضاء المرئي والفاعل، وتغدو العنوان الضمني للاختيار، ومفترق الطرق الذي تتكثف فيه الدراما وتُختبر فيه الذوات. رمزيًا، تمثل المحطة في الواقع فضاء العبور لا الاستقرار، والزمن المعلّق بين وصولٍ لم يتحقق بعد ومغادرة لم تُحسم تمامًا. إنها مكان الانتظار، حيث لا يُقيم الإنسان بقدر ما يُعلّق مصيره. ومن هذا المنظور، تشتغل المحطة بوصفها صورة مكثفة للشرط الإنساني الحديث، كما وصفه زيغمونت باومان، سيولة في الهوية، وارتياب في القرار، وحياة تُعاش في حالة “بين-بين”. فالشخصيات(أحمد) في المحطة ليست في بيتها، لكنها أيضًا لم تغادر نهائيًا؛ إنها كائنات في حالة تعليق وجودي. دراماتورجيًا، تؤدي المحطة وظيفة مركزية، إنها فضاء الصراع والاختيار، حيث تتقاطع المسارات وتتواجه الإرادات. كل دخول إلى المحطة هو احتمال، وكل خروج منها هو قرار لا رجعة فيه. ولذلك تظل ترافق المشاهد حتى نهاية المسرحية، لا بوصفها ديكورًا ثابتًا، وإنما كقوة رمزية تضغط على الشخصيات وتكشف هشاشتها. فالمحطة، بوحدتها المكانية، تتسع دلاليًا لتحتمل مصائر متعددة، وتتحول إلى مرآة لقلق الجماعة لا لخصوصية الفرد فقط. في مقابل ذلك، يظهر البيت في الذهن لا في العين؛ إنه تمثّل داخلي، يختلف من شخصية إلى أخرى، بل من مشاهد إلى آخر. فالبيت واحد في العنوان، لكنه متعدد في التخيل، لكل واحد منا بيته الخاص، أو عليه أن يتخيله كي يحتمل الانتظار. هنا يستدعي المعنى تصور باشلار للبيت ككونٍ حميمي تسكنه الذاكرة أكثر مما تسكنه الأجساد. البيت في المسرحية ليس معطى جاهزًا، ولكنه وعدٌ أو حلم، وربما وهم ضروري للاستمرار. هكذا تتأسس المفارقة الدرامية، المحطة واحدة للجميع، أما البيوت فمتعددة ومفردة في آن، المحطة تمثل الواقع المشترك القاسي، حيث تُفرض الخيارات، بينما البيت يمثل الأفق الذاتي، حيث تتشكل الرغبة والمعنى. وبين الاثنين، يتحرك الفعل المسرحي، كاشفًا أن الإنسان لا يعيش في الأمكنة بقدر ما يعيش في توتره بين ما هو كائن وما يتمنى أن يكون. وفي هذا التوتر تحديدًا، تتجلى قوة المسرحية فلسفيًا ودراماتورجيًا.
قد تبدو مسرحية “البيت” سيرة ذاتية لأحمد (عبيدة زيد)، لكنها في جوهرها سيرة جيل كامل، جيل يعيش تمزقًا بين طموح فردي مشروع، وذاكرة جمعية مثقلة بالتضحيات، جيل يريد أن يغير ما هو كائن، لكنه يكتشف أن التغيير الحقيقي لا يبدأ من إنكار الماضي، ولكن من فهمه لذاته ومحيطه، أحمد هو كل شاب يسأل،من أكون خارج ما يريدني الآخرون؟ثم يكتشف أن الجواب لا يُعثر عليه إلا بالعودة إلى السؤال الأول،من نحن؟، بهذا المعنى، تقدم مسرحية “البيت” خطابًا فلسفيًا رصينًا، يرفض الحلول السهلة، ويدعو إلى وعي مركب بالهوية. إنها مسرحية عنالمصالحة بين الحلم والجذور، وعن العلم بوصفه جسرًا لا قيدًا، وعن البيت باعتباره نقطة انطلاق لا سجنًا، وفي ذلك، تتحول كفرقرع من قرية بعينها إلى رمز لأي قرية، لأي مكان، يختزن في صمته إمكانات مستقبل لم يُكتَب بعد.
تقوم القراءة الدراماتورجية لمسرحية “البيت” لعبيدة زيد (تأليفا وتشخيصا) على تفكيك آليات اشتغال النص بوصفه بنية مسرحية تُنتج معناها عبر تفاعل الشخصيات، والفضاءات، والزمن، والرموز، لا عبر الحكاية وحدها، فالنص لا يراهن على تصعيد حدثي تقليدي، بقدر ما يشتغل على تصعيد وعي، حيث تتحول الدراما من صراع خارجي مباشر إلى مسار داخلي يتكشّف تدريجيًا، وتصبح الخشبة فضاءً للتفكير بقدر ما هي فضاء للفعل. دراماتورجيًا، يُبنى النص حول شخصية أحمد باعتبارها مركز الثقل الدرامي، أحمد (هو أنا وأنت وهو وهي) ليس بطلاً بالمعنى الكلاسيكي، ولكنه ذاتًا قلقة في حالة انتقال، كل ما يحيط به، القرية، الأب، الأم، الحافلة، الحقيبة، لا يعمل بوصفه عناصر واقعية فحسب، وإنما بوصفه قوى دلالية تضغط على وعيه وتدفعه نحو التحول. الصراع الأساسي ليس بين أحمد وقرية محددة فقط، ليمتد بين تصورين للمعنى، معنى يُفرض باسم الجماعة، ومعنى يُبحث عنه باسم الذات. القرية، في هذا السياق، تُكتب دراماتورجيًا كـنسق لا كمكان، إنها منظومة قيم مغلقة تعيد إنتاج ذاتها عبر الأجيال، وتختزل المستقبل في مسار واحد، الشهادة الأكاديمية بوصفها رأس مال رمزي يضمن الاعتراف الاجتماعي. الأب يؤدي وظيفة الوسيط السلطوي داخل هذا النسق؛ فهو ليس خصمًا شريرًا، وإنما حاملًا لحلم مؤجل، يسعى إلى تحقيقه عبر الابن. دراميًا، تكمن قوة هذه الشخصية في كونها تمارس الضغط باسم الحب، ما يجعل الصراع أكثر تعقيدًا وأقل مباشرة، ويُدخل النص في منطقة “العنف الرمزي” حيث تُفرض الرغبة بوصفها واجبًا أخلاقيًا، في مقابل ذلك، يتموضع أحمد كتمثيل للذات الحديثة، لكن من دون أن يُقدَّم بوصفه نموذجًا منتصرًا سلفًا. رغبته في المسرح لا تُبنى دراميًا كاختيار مهني، ولكن كضرورة وجودية، المسرح هنا هو أداة كشف، وفضاء يتيح للذات أن ترى نفسها والعالم في آن. وهذا ما يبرر دراماتورجيًا انتقال النص لاحقًا إلى تقنية التشخيص واستحضار الشخوص، حيث يتحول أحمد من شخصية فاعلة داخل الحدث إلى ممثل وراوٍ ومؤول.
تلعب شخصية الأم دورًا محوريًا في التوازن الدرامي للنص. فهي لا تُحرّك الصراع إلى الأمام ولا توقفه، بل تعيد توجيهه. دراماتورجيًا، تمثل الأم منطقة الوسط التي تمنع النص من السقوط في ثنائية حادة بين التقليد والحداثة. فعلها الأساسي، منح أحمد حقيبة الجد، هو فعل رمزي كثيف، يُدخل عنصر الذاكرة إلى قلب الحركة الدرامية. فالحقيبة ليست إكسسوارًا، كما يتخيلها البعض، أو حمالة أغراض ولكنها جهازًا دلاليًا ينقل النص من زمن الحاضر إلى زمن الذاكرة، ومن الصراع الفردي إلى الأفق الجمعي. حادثة الحافلة تُعدّ من أهم المفاصل الدراماتورجية في مسرحية”البيت” فهي حدث صغير ظاهريًا، لكنه يؤدي وظيفة كبرى، كسر خطية الفعل. الحافلة، بوصفها رمزًا للحركة والتقدم، تمرّ دون أن تتوقف، ما يعلّق الزمن الخارجي ويفتح المجال أمام الزمن الداخلي. هنا يدخل النص فيما يمكن تسميته بالزمن التأملي، حيث يتوقف الفعل الفيزيائي لصالح فعل القراءة والاستحضار. كرسي المحطة يصبح فضاءً بينيًّا، أو “فضاء عتبة”، تتقاطع فيه القرية والمدينة، الماضي والمستقبل، الرغبة والذاكرة. ثم إن قراءة كتاب الجد تشكّل القلب الدراماتورجي للنص. فمن خلالها ينتقل العرض إلى مستوى آخر من الاشتغال، حيث يُستدعى تاريخ كفرقرع ونضالها ضد الاستعمار. هذه المشاهد لا تُقدَّم بوصفها فلاش باك تقليديًا، ولكن عبر التشخيص، أي عبر تحويل الذاكرة إلى فعل مسرحي حي. دراماتورجيًا، هذا الاختيار يمنح النص طابعًا ميتامسرحيًا، إذ يصبح المسرح ذاته أداة لاستعادة التاريخ، ويغدو الجسد الممثل وسيطًا بين الأزمنة.
التحول الذي يطرأ على أحمد لا يحدث دفعة واحدة، بل يتشكل تدريجيًا عبر هذا الاحتكاك بالذاكرة. إدراكه أن “البيت” ليس جدرانًا ولا وعاء حميمي، ولكنه خزان معنى، هو ذروة المسار الدرامي،”البيت”، هنا، علامة مفتوحة تتجاوز المكان لتغدو فضاءً داخليًا، مطابقًا لما يسميه غاستون باشلار “بيت الذاكرة”. هذا الاكتشاف لا يُنهي الصراع، لكنه يعيد تعريفه، لم يعد السؤال “أأرحل أم أبقى؟”، لكن “كيف أحمل البيت معي وأنا أتحرك؟”. قرار العودة، دراماتورجيًا، لا يُقرأ بوصفه خاتمة مغلقة أو عودة إلى نقطة البداية، وإنما كتحول في الوعي، أحمد يعود وهو مختلف، وقد أعاد تأويل العلم بوصفه أداة فهم لا وسام شرف. وبهذا، تنتصر المسرحية لبنية درامية تقوم على الدائرة التحويلية، العودة إلى الأصل لا لتكراره، ولكن هذه المرة لإعادة كتابته. في المحصلة، تقدم مسرحية”البيت” نصًا دراماتورجيًا واعيًا، يشتغل على الحد الأدنى من الحدث والحد الأقصى من الدلالة، ويحوّل السيرة الفردية إلى مرآة لجيل كامل. إنها مسرحية تجعل من الخشبة فضاءً لسؤال الهوية، ومن الدراما أداة لفهم العلاقة المعقدة بين الحلم والجذور، بين الذاكرة والمستقبل.
تم اختيار مسرحية “البيت” لتقدم في افتتاح مهرجان المسرح الفلسطيني “طوب” في مدينة نابلس، من 20 إلى 26 ديسمبر/كانون الأول 2025وهي المسرحية الوحيده المشاركة من الداخل الفلسطيني وستشارك بإسم كفرقرع.

