من الداخل الجزائري إلى الأمم المتحدة: هل بدأت حركة “ماك” تدويل قضية القبائل؟

في مشهد إقليمي شديد الحساسية، تستعد حركة تقرير مصير منطقة القبائل (“ماك”MAK) لإعلان ما تسميه “الاستقلال” في خطوة تبدو، في ظاهرها، رمزية ومحدودة الأثر القانوني، لكنها تحمل في عمقها دلالات سياسية واستراتيجية تتجاوز اللحظة، وقد تتحول—إن أُحسن استثمارها—إلى كرة ثلج تتدحرج ببطء، قبل أن تفرض نفسها على الأجندات الدولية، وتطرق أبواب الأمم المتحدة وعواصم القرار. لا يمكن فهم هذه الخطوة بمعزل عن السياق التاريخي والثقافي لمنطقة القبائل، التي تتميز بهوية أمازيغية قوية وشعور متجذر بالخصوصية اللغوية والثقافية. فمنذ الاستقلال، ظلت العلاقة بين المركز الجزائري وهذه المنطقة مشوبة بالتوتر، نتيجة سياسات التمركز الشديد، وضعف الاعتراف بالتعدد الثقافي، وتراكم الاحتجاجات التي انفجرت في محطات مفصلية، أبرزها “الربيع الأمازيغي” سنة 1980 وأحداث “الربيع الأسود” سنة 2001. هذه الذاكرة الجماعية تشكل اليوم رافعة رمزية تستند إليها حركة “ماك” لتبرير خطابها الانفصالي.

إعلان “الاستقلال” المرتقب، وإن كان يفتقر لأي سند قانوني دولي، فإنه يندرج ضمن تكتيك سياسي معروف في أدبيات الحركات الانفصالية: صناعة الحدث الرمزي لإعادة تسليط الضوء على القضية، وتدويل النقاش حولها، ونقلها من المجال الأمني الداخلي إلى ساحة الحقوق والحريات وتقرير المصير. فالقانون الدولي، رغم تشدده في حماية وحدة الدول، يظل فضاءً مفتوحًا للتأويل حين تُربط المطالب بالانتهاكات، أو بالإقصاء الثقافي، أو بحقوق الأقليات. غير أن هذا المسار محفوف بتعقيدات كبيرة. فالدولة الجزائرية تنظر إلى “ماك” بوصفها حركة تهديد للوحدة الوطنية، وقد صنفتها في خانة التنظيمات الإرهابية، ما يجعل أي إعلان انفصالي مبررًا—في نظر السلطة—لتشديد القبضة الأمنية والقانونية. ومن شأن هذا التعاطي أن يفاقم منسوب الاحتقان، ويدفع الحركة إلى مزيد من التصعيد الإعلامي والدبلوماسي في الخارج، مستندة إلى شبكات الشتات القبائلي في أوروبا وأمريكا الشمالية.

الرهان الحقيقي للحركة لا يكمن في إعلان الاستقلال ذاته، بل في ما بعده: القدرة على الاستمرار، وبناء خطاب متماسك، وكسب تعاطف دولي، ولو تدريجيًا. فالتجارب المقارنة—من كاتالونيا إلى كردستان العراق—تُظهر أن الاستقلال لا يولد ببيان، بل بمسار طويل من التراكم السياسي، والقدرة على فرض الأمر الواقع، أو على الأقل جعل كلفة تجاهل المطالب أعلى من كلفة مناقشتها.في المقابل، تواجه «ماك» إشكالات داخلية لا تقل خطورة. فالمجتمع القبائلي نفسه ليس كتلة صماء؛ إذ توجد تيارات واسعة تفضل النضال من أجل الحقوق الثقافية واللغوية ضمن إطار الدولة الجزائرية، وترى في خيار الانفصال مغامرة غير محسوبة العواقب، قد تجر المنطقة إلى عزلة اقتصادية وأمنية، أو إلى صراعات داخلية تستنزف النسيج الاجتماعي.

إقليميًا، يأتي هذا التطور في زمن تتقاطع فيه النزعات الانفصالية مع صراعات النفوذ، وتُستثمر فيه قضايا الهويات أحيانًا كورقة ضغط متبادل بين الدول. وهو ما يجعل السلطات الجزائرية شديدة الحساسية تجاه أي تحرك قد يُقرأ باعتباره اختراقًا خارجيًا، أو محاولة لإضعاف الدولة من أطراف منافسة. إن إعلان “استقلال” منطقة القبائل، حتى وإن بدا اليوم مجرد فعل رمزي بلا أثر قانوني، فإنه يفتح فصلًا جديدًا في علاقة المركز بالأطراف في الجزائر. فصلٌ يعيد طرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الدولة الوطنية، وحدود الاعتراف بالتعدد، وسبل إدارة الاختلاف دون الانزلاق إلى القطيعة. وبين خطاب الانفصال وخطاب الأمن، يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد أفق سياسي يعالج الجذور بدل الاكتفاء بإخماد الأعراض، قبل أن تتحول كرة الثلج الرمزية إلى أزمة دولية يصعب احتواؤها.

وكانت حركة تقرير مصير منطقة القبائل (ماك/MAK) قد أعلنت خلال مؤتمر عُقد في باريس يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2025، عن اعتماد إعلان استقلال منطقة القبائل بالإجماع، بحضور قيادة الحركة والحكومة القبائلية في المنفى (أنفاذ) وأعضاء ما يُسمّى بالبرلمان القبائلي. وحدد المؤتمر يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول 2025 موعداً للإعلان الرسمي عن الاستقلال، وهو تاريخ اختارته الحركة الانفصالية وتقول إنه مرتبط بمبادرات دولية سابقة لاعتبار هذا اليوم “يومًا عالميًا لمناهضة الاستعمار”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى