بين تسجيل القفطان في اليونسكو وتشريد صُنّاعه مفارقة مغربية مؤلمة


في الوقت الذي يحرز فيه المغرب خطوة تاريخية بتقديم ملف القفطان المغربي لتسجيله ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة اليونسكو، تتجه الأنظار نحو هذا اللباس الذي شكّل عبر قرون عنوانًا للأناقة المغربية ورمزًا لهوية نسجتها الأجيال بإبر تركت بصمتها على الذاكرة الجماعية. خطوةٌ تراها وزارة الثقافة دليلًا على وعي رسمي بقيمة الإرث اللامادي وأهمية حمايته من الاندثار، بينما يراها المتابعون اعترافًا دوليًا مستحقًا بموروث غارق في التاريخ، تنطق أقمشته بحكايات مدنٍ وصنّاع وأسر حافظت عليه في الأفراح والطقوس والاحتفالات.
لكنّ ما يبدو على الورق إنجازًا يثير في الواقع سؤالًا مؤلمًا، كيف يمكن لبلد يسعى إلى تكريس رمز من رموزه التراثية في المحافل الدولية أن يُفرغ هذا التراث من روحه؟ وكيف يمكن الاحتفاء بالقفطان في اليونسكو فيما يُنتزع فضاؤه الطبيعي من بين يدي صُنّاعه داخل مدينة فاس، الحاضنة التاريخية لصناعة النسيج والطرز والتطيّرز؟
في قلب فاس العتيقة، تحديدًا داخل الفنادق التاريخية التي كانت عبر عقود القلب النابض للحرف التقليدية، يعيش الصناع هذه الأيام تحت وطأة أوامر إفراغ أثارت استغرابًا وغضبًا في الأوساط الثقافية والحقوقية. فندق للايدونة وفندق جنان القفطان يشكّلان نموذجًا صارخًا لهذه المفارقة: مبانٍ رممتها السلطات في إطار مشاريع تأهيل المدينة العتيقة، لكنها عادت لتطالب الحرفيين بمغادرتها بدعوى “إعادة التنظيم” أو “تهيئة فضاءات جديدة للاستثمار”.
الصناع التقليديون ـ وهم الحلقـة التي بدونها لن يكون للقفطان وجود عملي ولا قيمة ثقافية ـ يجدون أنفسهم اليوم مُشردين من محلات شغلوها لعقود، يدفعون ثمن خيارات عمرانية واقتصادية لا تأخذ بعين الاعتبار هشاشتهم ولا خصوصية مهنتهم. هؤلاء الصناع هم مستودع الذاكرة الحقيقية: أصابعهم تعرف أسرار الخيط والحرير، ووجوههم تحمل آثار السنين التي قضوها وهم يحافظون على موروث يجعل المغرب فخورًا أمام العالم.
المفارقة جلية، تسجيل القفطان في اليونسكو يتطلب من الدولة تقديم دليل على “استمرارية الممارسة” و”ضمان انتقال المهارة بين الأجيال” و”حماية الفضاءات المرتبطة بالعادات الحرفية”. لكن قرارات الإفراغ تضرب هذه الشروط في العمق، لأنها تفصل الحرفة عن فضائها الطبيعي وتشجّع على قطيعة بين الصناع وتلاميذهم. فكيف ستتحقق استمرارية حرفةٍ تُقتلع من جذورها؟
يشبه الأمر الاحتفاء بشجرة الزيتون بينما تُقتلع من التربة نفسها. فالفنادق التاريخية في فاس ليست مجرد بنايات تراثية؛ إنها معامل روحية للابتكار التقليدي، ومتاحف حيّة يتحرك فيها الزمن ببطء، حيث يتعلم المتدرّبون فنون “الطرز الفاسي”، و“السفيفة”، و“القيطان”، و“البرشمان”، وهي تفاصيل دقيقة تُميّز القفطان المغربي عن غيره.
مشاريع الترميم، رغم أهميتها الجمالية والعمرانية، صارت في السنوات الأخيرة تُتهم بأنها تُجمّل الحجر على حساب البشر. يتم ترميم الواجهات وتبليط الأزقة وإضاءة القناطر، بينما يتم إهمال الإنسان الحرفي الذي يُفترض أنه هو محور هذه العمليات. فإحياء فاس العتيقة لا يكتمل بتلميع طرازها المعماري فقط، بل بإحياء الحياة الحرفية التي تشكّل روحها الحقيقية.
عندما يُطرد الحرفي من الفندق، لا يخسر فقط محله، بل يخسر محيطه الاجتماعي، زبناءه الطبيعيين، شبكة العلاقات المهنية التي بُنيت عبر سنوات، وقبل ذلك يخسر الشعور بالانتماء إلى فضاء أثري يعطي لمهنته معناها. والنتيجة: نقل الحرفي إلى أماكن هامشية، أو في كثير من الحالات، تخليه عن الحرفة بالكامل.
“التنمية” التي تُقصي الحرفيين
السلطات تؤكد أن الأمر يدخل في إطار “تأهيل الفضاءات” و”تصحيح وضعيات قانونية”، لكن السؤال المطروح هو: لماذا تتم هذه الخطوات دون إشراك الصناع؟ ولماذا لا تُهيَّأ بدائل واقعية وقانونية تحافظ على استمرارية المهنة؟ ولماذا يتم التعامل مع الحرفي باعتباره عنصرًا لا قيمة له

