قراءة في مسيرة الفنانة فوزية سامري: امرأةكسرتالقيود، وصنعت حضورها في زمن كان فيه الحلم نفسه جريئًا.

ولدت الفنانة المتعددة المواهب فوزية السامري عام 1964، وهي التي ستجمع لاحقًا بين مهارات التمثيل ورشاقة الرقص الكوريغرافي وصلابة الممارسة الرياضية كلاعبة كرة قدم في فريق المغرب الفاسي، منذ بداياتها الأولى، كانت ملامح الشغف المزدوج بالفن والرياضة تتشكل في روحها بوضوح طفل ينصت إلى نداء داخلي لا يهدأ، حيث نشأت فوزية في حي النواول بالملاح بمدينة فاس، ذلك الفضاء الشعبي المزدحم بالحكايات والضحكات، وبالوجوه التي تحمل ذاكرة المكان وتمنح تفاصيله نبضًا خاصًا، في الأزقة الضيقة التي تعبق بروائح الحياة اليومية، كانت الطفلة الحالمة تجد لنفسها عوالم صغيرة تهرب إليها وتحوّلها إلى مسرح داخلي لا يراها فيه أحد، لكنها فيه تتحول إلى كل الشخصيات التي تثير خيالها. وفي سن مبكرة جدًا، بدأت ملامح موهبتها تتفتح حين راحت تلاحق بعينيها العروض التي تقدمها الفرق المسرحية الهاوية في الحي، كانت تقف بين الناس، أحيانًا على أطراف قدميها لتُطلّ فوق الرؤوس، تراقب بدهشة تلك اللحظات التي تتبدل فيها الوجوه على الخشبة، وتتقمص الشخصيات، وتتحول الحركة إلى لغة، والإيماءة إلى جملة كاملة، كان أكثر ما يشدها هو السحر الذي يصنعه الجسد حين يروي قصة دون كلمات كثيرة، وكيف يتغير العالم لحظة رفع الستار، وكأن الزمن يتوقف ليفسح المجال للحلم كي يتجلى.

في تلك الأمسيات، كانت فوزية تلتقط بتلقائية مذهلة الفروق الدقيقة في تعبيرات الممثلين، رعشة اليد التي تفضح خوفًا، انحناءة الظهر حين يثقل الهمّ، بريق العين الذي يشي بالفرح أو الانكسار. وحين تعود إلى البيت، كانت تقلد تلك الحركات أمام مرآة صغيرة، تختبر قدرتها على إعادة خلقها، وتكتشف شيئًا فشيئًا لغة الجسد التي ستغدو لاحقًا واحدة من أقوى أدواتها الفنية. وبينما تتعلم الانضباط والصلابة من كرة القدم، كانت تتعلم من المسرح الخفة والخيال، وكأن حياتها منذ البداية كانت تكتب قصة فنانة تحترف التعدد، وتؤمن بأن الجسد يستطيع أن يكون ملعبًا ومسرحًا في الوقت ذاته، وأن الفن يمكن أن يولد في أبسط الأزقة إذا وجد قلبًا مستعدًا لاحتضانه. عندما نريد الحديث عن المسيرة الفنية لفوزية وعلاقتها بالمسرح والسينما يتبادر إلى الذهن حدث لا يمكن أن تنساه طوال حياتها لأنه كان سببا لولوجها هذا الميدان. كانت في مقتبل العمر كثيرة الحركة، تحب اللعب، وفي يوم من الأيام كانت تقوم بطلاء واجهة منزل أهلها بحي النواول بالملاح فإذا بمجموعة من الشباب يطرقون باب البيت لعرض منتوجاتهم التجارية من مواد تنظيف وغيرها لم ينتبهوا إليها وهي على السلم، فوجئوا بكونها شابة تقوم بصباغة واجهة البيت قل ما تقوم به النساء فتبادلت معهم أطراف الحديث لأنهم حسبوها صباغة علما أنها كانت ترتدي ملابس رجالية فأعجبوا بجرأتها في المناقشة معهم فعرض عليها مصطفى الخواين الإلتحاق بجمعية أصدقاء المسرح الوطني بدار الشباب القدس فقبلت على الفور لأنه سبق لها  أن شاركت في عدة أنشطة مدرسية سواء تمثيليات أو لوحات كوريغرافية وغيرها فكانت تلك هي أول جمعية تتعرف من خلالها عن المعنى الحقيقي للإبداع المسرحي.

قررت فوزية، وهي بعدُ في مطلع شبابها، أن تنصت لذلك النداء الداخلي الذي كان يدفعها نحو المسرح بقوة لا يقوى منطق العائلة على صدّها، كانت أسرتها ترى في التمثيل انشغالًا هامشيًا قد يشتت تركيزها عن الدراسة، ويبعدها عن الطريق الآمن الذي تمنّته لها، ومع ذلك، ظل شغفها بالمسرح يتوهج في داخلها مثل جمرة لا تخبو، وبعد صراع صامت بين الواجب والرغبة، اختارت أن تنضم إلى الفرقة المسرحية سرًا، وكأنها تدخل عالمًا سحريًا لا يليق أن يطلع عليه إلا من يعرف قيمته. كانت تخرج من البيت بحجة المراجعة أو زيارة صديقة، بينما كانت وجهتها الحقيقية فضاءً صغيرًا خلف أحد المباني، حيث تتجمع الفرقة للهواة لتتمرن بجدّ لا يقل عن جدية المحترفين، هناك، وقفت فوزية لأول مرة أمام نصوص غريبة عليها، لكنها سرعان ما جعلتها جزءًا من صوتها، تعلّمت أن تتنفس مع كل جملة، وأن تصنع حضورًا أكبر من جسدها النحيل، وأن تخبئ توترها خلف ابتسامة يعرفها الممثلون جيدًا. وكما كانت تدريباتها سرية، كانت فرحتها كذلك؛ فرحة تُشبه اكتشاف ذات جديدة لم تكن تعرفها، ومع مرور الوقت، صارت تلك الساعات الخفية هي لحظاتها الأكثر صدقًا، تكبر فيها كفنانة، وتتحرر من كل ما حاول أن يحدّ حلمها.

كانت الجمعية التي التحقت بها فوزية فضاءً يعج بطاقات فنية واعدة، أسماء ستصنع لاحقًا مسارات مشرقة في المشهد المسرحي المغربي. كان من بينهم المرحوم عبد السلام مسير، الرجل الذي كان يجعل من كل دور يؤديه درسًا في الصدق الفني، ومحمد خشلة ذو الحضور المسرحي الطاغي، ورشيد أمثول الذي كان يملك قدرة مدهشة على تطويع الجسد في الأداء، وحميد داداس بخفته الخاصة، وفاطمة مسلوك التي كانت تشكل بنبرتها وصوتها حضورًا لا يُنسى، ثم حميد عمور، رحمه الله، الذي كان مدرسة في الانضباط والالتزام، كانوا جميعًا يشكلون عائلة فنية صغيرة، يربط أفرادها حلم واحد: أن يصنعوا مسرحًا حيًا ينبض بما في أعماقهم. وسط هذه الأسماء اللامعة، كانت فوزية تجد مكانها شيئًا فشيئًا، لم تكن مجرد متدربة جديدة؛ كانت عينان تتوهجان فضولًا لا يهدأ، وقلبًا يعشق المغامرة. وفي الوقت نفسه، كانت تحمل معها جانبًا آخر من حياتها، جانبًا لا يقل قوة، بل يُكسبها صلابةً وتناسقًا جسديًا فريدًا، شغفها بالرياضة، وخصوصًا الركض، كانت فوزية تستيقظ باكرًا وتركض حول عرصة الزرب وسط حي الملاح بفاس، مساحة مفتوحة كانت بالنسبة إليها متنفسًا ومختبرًا للقوة الداخلية، كانت تتحدى الهواء، وتتدرب على الإيقاع، وتتقن الانسجام بين النفس والخطوة. كانت تلك الدوائر التي ترسمها حول العرصة أشبه بتمارين على إيقاع المسرح نفسه. وبفضل هذا الانضباط الرياضي، انضمت فوزية إلى فريق الدفاع الفاسي لألعاب القوى، برزت بسرعة بفضل قدرتها على الركض لمسافات مختلفة، وشاركت في سباقات محلية وجهوية، محرزة عدة جوائز، سواء بشكل فردي أو ضمن الفرق. كان تتويجها المتكرر مصدر فخر لها ولجيرانها الذين راحوا يرون في الفتاة الصغيرة مشروع بطلة رياضية.

ومع ذلك، لم تُغْرِها الميداليات بما يكفي لتبتعد عن عشقها الأول، كان المسرح بالنسبة إليها عالمًا آخر، عالمًا لا يُشبه ساحات الجري، لكنه يكملها بطريقة لا يفهمها إلا من يعيش بين الضدين. الرياضة كانت تمنحها القوة والانضباط، لكن المسرح كان يمنحها الحرية والتعبير، في لحظات الركض، كان جسدها يتعلم الدقة؛ وفي لحظات الوقوف على الخشبة، كان يتعلم اللغة. ومع مرور الوقت، بدأ أعضاء الجمعية يلاحظون حضورها المتنامي. كانت فوزية تتدرب بجدية مذهلة، لا تهرب من الملاحظات ولا تخشى النقد، كانت تعيد الحركة عشرات المرات إلى أن تقتنع أنها قالت ما تريد بجسدها قبل صوتها. شيئًا فشيئًا، بدأت تتسلل إلى الأدوار الصغيرة، ثم إلى أدوار أكبر، وكانت كل مرة تقف فيها أمام الجمهور تجربة جديدة تقربها من ذاتها الفنية التي لم تكن بعد قد اكتملت، لكنها كانت تتشكل بثبات. كانت الخشبة بالنسبة إليها فضاءً من السحر: مكانًا تتحرر فيه من كل ما يحيط بها، وتعيد خلق نفسها كما تشاء. وكلما تقدم بها الزمن داخل الجمعية، ازدادت قناعة بأن المسرح ليس مجرد تجربة عابرة، بل قدرٌ يُكتب بخطوات ثابتة، كما تُكتب مسارات العدّائين على المضمار. وهكذا، أصبحت فوزية تجمع بين ميدانين يبدوان متباعدين، لكنهما في حياتها التقيا ليشكّلا شخصية فنانة قوية، تعرف كيف تركض نحو حلمها، وكيف تقف بثبات تحت أضواء الخشبة لتُظهر موهبتها دون تردد.

لم تكن طريق فوزية إلى المسرح مفروشة بالورود، بل كانت ممتلئة بالعقبات الاجتماعية والنظرات المتحفظة التي كانت تلاحق كل امرأة تحاول آنذاك اختراق مجال اعتُبر حكرًا على الرجال. كانت أسرتها، مثل كثير من الأسر المغربية في تلك الفترة، ترى في المسرح مجالًا غير مضمون، مليئًا بالمخاطر والاختلاط، ولا ينسجم مع الصورة التقليدية للفتاة المؤدبة التي يفترض بها أن تركز على دراستها ثم تستقر في حياة هادئة، وسط هذا المناخ المحافظ، كانت فوزية تخوض معركة يومية بين ما يُتوقع منها وما يتفجر داخلها من رغبة في التعبير والتحليق خارج القيود. ورغم هذا الجدل الداخلي والخارجي، كان في حياتها صوتٌ واحد ظل ثابتًا كجبل، والدها، رحمه الله، كان يرى فيها ما لم يره الآخرون، يؤمن بقدرتها على النجاح، ويشجعها على أن تتبع قلبها، لم يكن كثير الكلام، لكنه كان صاحب حضور يمنح الطمأنينة، كان يكفي أن يقول لها: “واصلي… أنا معك”، لتشعر أن العالم كله يمكن أن يُهزم أمام إرادتها. وبفضل هذا السند الصامت، استطاعت أن تُخفّف من حدّة المعارضة داخل البيت، وأن تجد لنفسها مساحة تنفذ منها إلى الخشبة كلما ضاقت بها الجدران. وكانت اللحظة الفاصلة في علاقتها مع المسرح حين قررت فوزية أن تدعو جميع أفراد أسرتها لحضور عرض مسرحي كانت تشارك فيه ضمن عمل مسرحي بعنوان السرساريات، من تأليف المرحوم عبد السلام مسير وإخراج محمد خشلة، وذلك على خشبة مسرح سينما أومبير. كانت تلك الدعوة مغامرة حقيقية؛ فإما أن تكسب ثقة العائلة إلى الأبد، وإما أن يتحول المسرح في نظرهم إلى خصمٍ يُخشى منه. لكنها راهنت على الفن، وعلى قدرتها في أن تُظهر لهم شيئًا مختلفًا، شيئًا يُقنعهم بأن المسرح ليس خطرًا بل حياة. عندما ارتفعت الستارة ذلك المساء، شعرت فوزية بارتباك لم تشعر به من قبل. كانت تعلم أن عيون أسرتها كلها مثبتة عليها، الضيق في أعين بعضهم، الخوف في أعين آخرين، وطمأنينة خفية في عين والدها وحده. لكنها ما إن نطقت جملتها الأولى ودخلت في عوالم الدور، حتى تحوّل التوتر إلى طاقة خفية دفعتها إلى تقديم أحد أفضل عروضها. وحين انتهى العرض، أدركت فوزية أنها ولدت من جديد. فقد خرج أفراد أسرتها من القاعة وقد تبدلت نظرتهم، لا فقط إليها، بل إلى الفن بأكمله. كان ذلك المساء بمثابة شهادة ميلاد حقيقية لفنانة شابة مفعمة بالحيوية والنشاط، استطاعت أن تقنع أقرب الناس إليها بأن المسرح ليس تمرّدًا بل قدرًا يناديها.

ومع مرور الوقت، بدأت مواهب فوزية تتفتح أكثر فأكثر، وأصبحت تظهر في عروض مسرحية محلية، تشارك تارة في التمثيل وتارة في الرقص الكوريغرافي، وتارة أخرى في تنظيم العروض من وراء الستار. كانت تتعلم من كل تجربة، وتضيف إلى رصيدها مهارات جديدة تشكل قوام شخصيتها الفنية المتعددة. وفي موازاة ذلك، لم تتخلَّ عن شغفها الرياضي، بل انضمت إلى فريق المغرب الفاسي وكانت من الرعيل الأول للكرة النسوية في النادي. كانت تجمع بين التدريب والتمثيل، بين الجري في الصباح والبروفات ليلًا، بين الملعب والخشبة، في انسجام نادر لا يجيده إلا أصحاب الطاقات الاستثنائية. إلى جانب هذه الأنشطة، جاءت مشاركتها في إحدى الدورات التكوينية التي كانت تنظمها آنذاك الجامعة الوطنية لمسرح الهواة برئاسة المرحوم بن سينا لتشكل نقطة تحول جوهرية في مسارها. كانت الورشات مؤطرة من طرف أساتذة كبار، كل واحد منهم مدرسة في حد ذاته. في ورشة فن الإلقاء التي أطرها الدكتور بدري حسون رحمه الله، تعلّمت كيفية التحكم في الصوت، وكيف يمكن للجملة الواحدة أن تأخذ روحًا مختلفة بحسب الإيقاع والتنفس والنبرة. وفي ورشة التأليف التي أطرها المرحوم محمد الكغاط، اكتشفت بنية النص المسرحي، وكيف تتشكل الفكرة لتصبح مشهدًا متكاملًا. أما ورشة السينوغرافيا التي أطرها المرحوم محمد الريحاني، ففتحت أمامها عالَمًا جديدًا لم تكن تتخيله، عالم الضوء والفضاء والديكور، وكيف يُصبح لكل عنصر على الخشبة دورٌ في صناعة المعنى. كانت تلك الورشات بمنزلة جامعة مسرحية حقيقية، لأول مرة، فهمت فوزية التخصصات الدقيقة التي تشكل العرض المسرحي، وتعرفت على ما كان يبدو لها غامضًا في البداية. وشيئًا فشيئًا، أصبحت قادرة على رؤية الخشبة بعين جديدة؛ عين تعرف ما يحصل أمام الستارة وما يقع خلفها، وما يجري داخل ممثل يبحث عن صوته .وبفضل هذا التكوين، بدأت مشاركاتها تتنوع، حيث مثّلت في مجموعة من المسرحيات، اشتغلت محافظة، وساهمت أحيانًا كتقنية، تتنقل بين الأدوار بثقة ورغبة في التعلم، لم تعد فقط تلك الشابة التي تعشق المسرح، وإنما أصبحت جزءًا من نسيجه، من عائلته، من روحه، وبهذا كتبت فوزية قصتها الأولى في عالم الفن بالعزيمة نفسها التي كانت تركض بها حول “عرصة الزرب”، وبالإصرار نفسه الذي حملته فوق خشبة سينما أومبير أمام أسرتها، بين المسرح والرياضة والرقص، صنعت شخصية فنية نادرة، امرأة كسرت القيود دون صخب، ومهدت طريقًا سيذكره كل من عرفها: طريق فنانة واثقة، جريئة، وصاحبة شغف لا ينطفئ.

تتذكر فوزية تلك السنوات الأولى من مسيرتها الفنية كما لو كانت أحداثًا ما زالت تتوهج أمامها على الخشبة. كانت ما تزال في بداياتها حين شاركت في العرض المسرحي “الرشوة نشوة”، من تأليف الراحل أحمد الطيب لعلج وإخراج الفنان محمد خشلة، ورغم أن التجربة كانت جديدة عليها، فإنها أدركت سريعًا أنها عنصر أساسي في نجاح العرض، ليس فقط لأنها كانت ممثلة مجتهدة، بل لأن حضورها الطاغي على الخشبة كان يضيف نبضًا خاصًا للعمل. كانت تتحرك بثقة أكبر مما يفترضه عمرها المسرحي، وتتقن الانتقال من لحظة إلى أخرى بكامل الوعي بالجمهور وبالإيقاع الداخلي للمشهد، بعد هذا النجاح، بدأت تشعر أن قدميها أصبحتا أكثر ثباتًا على أرض المسرح، وأنها لم تعد مجرد هاوية، بل فنانة تتشكل وتكبر. بعدها مباشرة، شاركت في مسرحية “أسطورة السعادة” سنة 1984، من تأليف عبد الحميد داداس وإخراج محمد خشلة، كانت هذه التجربة بمثابة خطوة ثانية نحو اكتشاف قدرة فوزية على تنويع الأداء وتطوير أدواتها، ففي هذا العمل، احتاج الدور إلى انفعالات معقدة، تجمع بين الطفولة والحكمة، بين السخرية والدفء الإنساني، وكان المخرج محمد خشلة يدرك إمكاناتها، فيمنحها توجيهات دقيقة تزيدها وعيًا بحركتها وصوتها وطريقة تفاعلها مع الشريك فوق الخشبة، وحين خرج الجمهور يصفق لذلك العرض، شعرت فوزية بأن مسارها الفني بدأ يأخذ شكله الصحيح، وأن الطريق الذي اختارته، رغم كل العقبات، أصبح أكثر وضوحًا، ومع بروز اسمها على الساحة المسرحية الفاسية، بدأت العروض تنهال عليها من فرق مختلفة، ففي تلك الفترة، كان العنصر النسوي في المجال المسرحي نادرًا جدًا، وكانت فوزية تمتلك ما هو أكثر من مجرد “سدّ خصاص”، كانت تقدم حضورًا فنيًا كاملاً يثري العمل ويمنحه عمقًا خاصًا. وهكذا طُلبت للمشاركة في مسرحية “دور وعكل” سنة 1984، من تأليف وإخراج المرحوم محمد الإدريسي من لا يخافي، كان الإدريسي معروفًا بصرامته الفنية، ولا يمنح دورًا إلا لمن يثق في قدرته على حمله، وقد وجدت فوزية في هذا العرض تحديات جديدة؛ كان عليها أن تتعامل مع إيقاع أسرع، وشخصيات تتحرك في فضاء مسرحي أكثر تعقيدًا، وأن تعيد تشكيل حضورها بما يتناسب مع رؤية المخرج. لكنها، كما دائمًا، أثبتت قدرتها على التأقلم والتألق.

ومع توالي التجارب، جاء العمل الذي سيظل محفورًا في ذاكرتها كإحدى المحطات الكبرى: ملحمة “التحدي” سنة 1988، من تأليف المرحوم محمد عزيز الجعفري وإخراج محمد خشلة. كانت الملحمة مشروعًا ضخمًا بكل المقاييس، عملًا جماعيًا يجمع عشرات الممثلين، ويحتفي بقيم الصمود والنهضة، وقد قُدم على خشبة مسرح وسينما أومبير، المكان الذي أصبح بالنسبة إلى فوزية فضاء ولادتها الفنية الأولى. في هذا العرض، لم يكن المطلوب مجرد أداء دور، وإنما كان المطلوب أن تصبح جزءًا من روح جماعية تتحرك بإيقاع واحد، وتعبر عن رسالة واحدة. كان التحدي الحقيقي في كيفية امتلاك الخشبة دون أن تطغى على غيرها، وفي الوقت نفسه دون أن يبتلعها الزخم الكبير للمشهد. كانت فوزية تقف في الكواليس قبل بداية كل عرض، تسمع همسات الممثلين، وتبتسم بخجل كلما تذكرت كيف كانت تقف في المكان نفسه قبل سنوات قليلة، خائفة ومترددة. اليوم، كانت تدخل الخشبة بثقة، مدفوعة بتجربة تراكمت سنة بعد أخرى، وبوعي جديد جعلها ترى المسرح ليس فقط كمجال للتعبير، بل كمساحة للحياة نفسها. وهكذا، بين مسرحيات “الرشوة نشوة” و”أسطورة السعادة”، وبين “دور وعكل” و”التحدي”، نسجت فوزية خيوط بداياتها الذهبية، لتصبح واحدة من الوجوه النسائية النادرة والمضيئة على خشبات فاس. كانت كل تجربة تمنحها درسًا، وكل دور يضيف طبقة جديدة إلى شخصيتها الفنية، حتى أصبحت تلك الطفلة الحالمة التي بدأت في حي الملاح فنانة ناضجة تمتلك صوتًا وحضورًا وموهبة لا تخطئها العين.

تستحضر فوزية تلك المرحلة من مسيرتها الفنية كما لو كانت فسيفساء متعددة الألوان، كل قطعة فيها تحمل ذكرى عمل، أو لقاء، أو لحظة استثنائية على الخشبة. فبعد نجاحاتها الأولى، انفتحت أمامها أبواب تجارب جديدة مع مخرجين وفرق مختلفة، الأمر الذي عمّق رؤيتها للمسرح ووسع آفاقها بشكل لم تكن تتخيله في بداياتها. كانت إحدى هذه المحطات عملها مع الراحل محمد المريني في مسرحية “باب المدينة”، وهو مخرج اشتهر بقدرته على استخراج مكامن القوة في الممثل ودفعه إلى تجاوز حدوده، في هذه التجربة، تعلمت فوزية كيف يصبح النص بوابة عبور إلى العالم الداخلي للشخصية، وكيف يمكن للحضور على الخشبة أن يكتسب قوامًا جديدًا حين يكون مدعومًا بفهم عميق لدينامية الدور. كانت “باب المدينة” بالنسبة إليها مدرسة في الانضباط وبناء الإيقاع الجماعي، خصوصًا أنها مسرحية تعتمد على تناغم الممثلين في خلق فضاء حيّ يترجم نبض المدينة نفسها. ثم كان اللقاء مع الكاتب والمخرج محمد الكغاط، في مسرحية “مثل دورك”، تجربة مختلفة تمامًا. الكغاط كان معروفًا بلغته المسرحية الخاصة، حسًّا بصريًا دقيقًا، ونزوعًا نحو المزج بين السخرية العميقة والفكر الفلسفي. وقد وجدت فوزية في هذه المسرحية تحديًا جديدًا؛ إذ كان مطلوبًا منها أن توازن بين الأداء الكوميدي والعمق الدلالي للنص، وأن تتعامل مع إيقاع متغير يستدعي يقظة داخلية وحسًّا في التوقيت. ومع ذلك برزت، كما اعتادت، وأثبتت أن حضورها ليس مجرد ملء فراغ نسائي نادر، بل قيمة فنية حقيقية.

أما المحطة الثالثة فكانت مشاركة في ملحمة “مولاي إدريس” من تأليف عبد السلام البقالي وإخراج محمد خشلة، في هذا العمل التاريخي الضخم، اكتشفت فوزية أبعادًا جديدة للمسرح الملحمي، وكيف يمكن للمشهد الجماعي أن يحمل رسالة وطنية تتجاوز حدود الخشبة. كانت تشارك ضمن مجموعة كبيرة من الممثلين، لكنها كانت تدرك أن لكل حركة، لكل نظرة، لكل وقفة، وزنًا داخل النسيج العام للعرض. كانت الملحمة بالنسبة إليها درسًا في الانضباط الفني، وفي فهم الفكر الإخراجي الذي يربط الماضي بالحاضر عبر صناعة مشهد حيّ يلامس وجدان الجمهور. بعد هذه التجارب، انتقلت فوزية إلى تجربة من نوع مختلف تمامًا مع فرقة المسرح الساحر، في مسرحية “الزواج الناقص” من تأليف محمد صوصي العلوي (بابا عاشور) وإخراج الراحل محمد الداوردي، كانت هذه التجربة مليئة بالطرافة والعمق في آن واحد. فالنص كان يجمع بين النقد الاجتماعي والخيال الشعبي، والداوردي كان مخرجًا يملك حسًا احتفاليًا يجعل الخشبة تتحول إلى فضاء مفتوح على الإبداع، وجدت فوزية نفسها أمام تحدٍّ جديد في الأداء الكوميدي، لكنها سرعان ما أتقنت التوازن بين خفة المشهد وجدّية الرسالة، مضيفة لمستها الخاصة التي كانت تجعل الجمهور يتابع حركتها قبل كلماتها. واستمرت فوزية، مع مرور الزمن، في نضالها من أجل ترسيخ مكانتها في المشهد المسرحي. لم تكن تعتمد فقط على الأدوار التي حصلت عليها، بل على مشاركاتها الواسعة في ملتقيات ومهرجانات وطنية ودولية، كانت خلالها تمثل مدينتها فاس والمرأة المغربية بفخر. كانت تحضر الورشات، تتابع الندوات، تتعرف على مدارس إخراجية مختلفة، وتوسع آفاقها الفكرية والجمالية. وقد ساهم هذا الانفتاح في صقل شخصيتها الفنية وإغناء أدواتها، حتى أصبحت فنانة متعددة القدرات، تجمع بين الأداء، والتقنية، والوعي العميق بالمسرح كفعل ثقافي واجتماعي.

وتُوّج هذا المسار بانضمامها إلى أول نقابة تعنى بشؤون الفنانين، (النقابة المغربية لمحترفي المسرح) اعتقدت في البداية أنها ستشكل إطارًا حقيقيًا للدفاع عن حقوق الفنانين وكرامتهم المهنية، غير أنها اكتشفت لاحقًا، بخبرتها وتجربتها، أن النقابة لم تكن تحمل همّ الفن بقدر ما كانت وسيلة لقضاء مصالح خاصة، ورغم خيبة الأمل، لم تتراجع فوزية عن إيمانها بأن الفنان الحقيقي لا يتوقف عن النضال؛ نضال فوق الخشبة، ونضال خارجها، وعبر كل هذه المحطات، صنعت فوزية لنفسها مسارًا ثريًا، متنوعًا، ومليئًا بالتحديات. لم تكن مجرد ممثلة في عروض متعددة، وإنما كانت صوتًا يتحرك بين الخشبات، امرأة تصنع حضورها في زمن كان فيه الحلم نفسه جريئًا.

كانت تجربة الفنانة فوزية في تلك المرحلة الانتقالية، مرحلة ما اصطلح على تسميته بـ “الاحتراف”، تجربةً لا تخلو من المفارقات. فهي نفسها كانت تقول بسخرية مريرة: “وأيّ احتراف هذا الذي لا يضمن للفنان أبسط مقوّمات العيش؟”، ورغم مرارة العبارة، فإنها لم تكن يومًا حاجزًا يثنيها عن المضيّ في الطريق الذي اختارته بوعي وشغف. فقد كانت فوزية من أولئك الذين يعتقدون أن الفن ليس امتيازًا بل قدرٌ ينبغي حمله مهما ثقل، وأن الخشبة، مهما ضاقت مواردها، تظل وطنًا واسعًا يليق بالقلوب المؤمنة برسالة المسرح. في تلك الأجواء الملتبسة، كانت مشاركتها في مسرحية “العقبة” من تأليف وإخراج عزيز الحاكم، واحدة من العلامات الفارقة في مسيرتها، لم يكن العمل مجرد دور أدّته، بل محطة رسّخت حضورها بين الوجوه الصاعدة في زمن كان المسرح يبحث فيه عن لغة جديدة وهوية أكثر اتساعًا. كانت تدرك أن “العقبة” لم تكن اسمًا لمسرحية فقط، بل توصيفًا صارخًا لواقع فني يحاول جاهداً أن ينهض رغم هشاشة الدعم وقسوة الظروف. ومع ذلك، لم تحصر فوزية نفسها في العروض الموجّهة للكبار، وإنما انخرطت بحماسة لافتة في تكوين الأجيال الناشئة، كانت ترى في الطفل مادة خامًا يمكن للمسرح أن يصنع منها مواطنًا يتذوق الجمال ويُقدّر الخيال ويُصغي للمعنى. لذلك شاركت في سلسلة من الأعمال الموجّهة للصغار، أعمال لم تكن أقل أهمية ولا أقل تعقيدًا من عروض الكبار. فالمسرح، في نظرها، يصبح أصعب عندما تخاطب به البراءة. من بين تلك الأعمال برزت مشاركتها في مسرحية “لو نطق الحيوان ” للراحل محمد أصميد، وهي مسرحية أتاحت لها فرصة توظيف حسّها الكوميدي والدرامي معًا في تقديم رسائل تربوية تُلامس عالم الطفل دون أن تُعلّمه مباشرة. كما شاركت في مسرحية “حكاية تفاحة”، العمل الذي جمع توقيع عمي بسيسو (عبد اللطيف خلاد) وعز الدين الزناكي، وقدّمته فوزية في عدد من الصبحيّات لفائدة الأطفال في العديد من المدارس العامة والخاصة التي كانت تتحول، بفضل أدائها، إلى لحظات احتفالية بالخيال والدهشة، وكانت فوزية في تلك المرحلة، فنانة تقف على تخوم واقع هشّ، لكنها لا تكفّ عن الغرس، تغامر فوق خشبة المسرح، وتغرس في عقول الصغار بذور شغف قد ينبت يومًا مسرحيين جددًا يكملون ما بدأته بروح لا تعرف المستحيل.

حملت فوزية في بداياتها المسرحية شغفًا صافياً لا تحدّه الإمكانات ولا تُربكه العثرات، وقد وجد هذا الشغف فضاءه الطبيعي داخل محترف كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس. هناك، تحت إشراف الراحلة فاطمة شبشوب، اكتشفت فوزية جانبًا آخر من ذاتها، الجانب الذي يلمّع الموهبة بالمعرفة، ويحوّل الحضور الفطري إلى مهارة مدروسة. شاركت في مسرحية “العباسية” التي كانت بالنسبة إليها تجربة أولى في اختبار قدرة الجسد والصوت على تحويل النص إلى حياة نابضة، وتلتها مشاركتها في مسرحية “الترقية” التي أتاحت لها فرصة التمرس على بناء الشخصيات متعددة الطبقات، تلك التي تتجاوز حدود الفكاهة أو الدراما إلى التقاط تفاصيل الإنسان اليومية في لحظات ضعفه وقوته، ولم يكن هذا المحترف بالنسبة لفوزية مجرد محطة تدريبية؛ ولكنه كان معبرًا نحو رؤية جديدة للمسرح باعتباره فعلًا ثقافيًا بقدر ما هو متعة فنية، ومع النضج الذي أخذ يتشكل شيئًا فشيئًا، قررت أن تخطو بثبات نحو فضاء أكثر اتساعًا. هكذا انتقلت إلى العمل مع فرقة الجدار الرابع للمسرح والفنون الجميلة، وهي فرقة كانت آنذاك تُشكّل أحد الوجوه المميزة في مشهد الاحتراف المسرحي، تحت رئاسة الفنان عبد الرحمان الإدريسي من لايخافي، الفنان الذي عُرف بقدرته على احتضان الطاقات الشابة وتوجيهها دون أن يخمد شرارتها الأولى. داخل هذا الإطار الاحترافي، اكتشفت فوزية معنى آخر للاشتغال المسرحي؛ معنى يختلط فيه الإبداع بالتنقل، والاجتهاد بمتطلبات العروض المتتالية. فقد حصلت الفرقة في تلك الفترة على دعم الجولات المسرحية، وهو ما أتاح لها فرصة تقديم أعمالها أمام جمهور متنوع، الأمر الذي شكّل لفوزية مدرسة ثانية لا تقل أهمية عن المحترف الجامعي. كانت البداية مع مسرحية “سلطانة”، وهي عمل حمل بين سطوره خلطة من التراث والحداثة، ثم شاركت في مسرحية “سوارت الرباح”، وفي “المرساوية” للكاتب والمسرحي سعد الله عبد المجيد سنة 2008، من اخراج حميد الرضواني، وكلها أعمال رسخت حضور فوزية كوجه قادر على التشكل وفق متطلبات الدور وخصوصيته. لم تكن هذه المرحلة مجرد تراكم لأدوار، وإنما كانت تراكمًا لتجارب إنسانية وفنية جعلت من فوزية فنانة أكثر وعيًا بحدودها وإمكاناتها في آن واحد. وبعد تلك الجولات، عادت الفرقة لتشتغل على ربرتوار المرحوم أحمد الطيب لعلج، الاسم الذي يشكل جزءًا من ذاكرة المسرح المغربي، شاركت فوزية في مسرحية “التبعبيعة من اخراج الفنان عبد الرحمن الادريس من لايخافي”، ثم في “اليانصيب”من اخراج الفنان محسن مهتدي، وهما عملان يجمعان بين خفة الروح وعمق الرؤية، ويعتمدان على كتابة مسرحية تستخرج المفارقات الساخرة من قلب الواقع المغربي. بهذه التجارب المتعاقبة، نسجت فوزية خيط حضورها داخل المشهد المسرحي، حضور يزاوج بين التكوين والانخراط العملي، بين الوفاء للنص وبين القدرة على الإضافة إليه، وبين الإيمان بأن المسرح، مهما تبدلت ملامحه، سيظل فنًّا لا تمنحه الحياة إلا لمن يعشقونه بصدق ويواصلون السير فيه رغم كل شيء.

واصلت فوزية مسارها المسرحي بثبات عندما التحقت بجمعية المسرح الشعبي والمحافظة على التراث برئاسة الفنان محمد خشلة، حيث وجدت نفسها أمام أعمال الراحل أحمد الطيب لعلج، داخل هذا الإطار الفني المتين، انخرطت فوزية في العمل على مسرحية التياس، وهي مسرحية تتطلب قدرة عالية على تطويع الجسد والصوت لخلق توليفة تجمع بين البساطة الشعبية وعمق الدلالة الرمزية، وقد أتاح لها هذا العمل أن تتلمس تفاصيل جديدة في بناء الشخصية، وأن تتفاعل مع نص يحمل عبق التراث وجرأة النقد في آن واحد. كما شاركت في مسرحية الرحبة تحت الإخراج الدقيق لمحمد خشلة، الذي عرف كيف يحفّز طاقة الممثلين ويمنح كل عنصر مساحته الواجبة على الخشبة، في هذا العمل تحديدًا، اكتشفت فوزية جوهر المسرح الشعبي القائم على التواصل المباشر مع الجمهور، وعلى تحويل اليومي البسيط إلى فرجة لها نبض وحياة. كانت التجربتان مع الجمعية محطة إضافية عززت حضورها على الساحة الفنية، ورسخت قناعتها بأن المسرح، مهما تنوعت أشكاله، يبقى فضاءً لا يفتح أبوابه إلا أمام من يقترب منه بشغف وصدق وعطاء لا ينضب.

لم تكن رحلة الفنانة فوزية في عالم الفن رحلة عابرة أو تجربة هامشية، وإنما مسارًا متجذرًا اتخذ لنفسه شكل المغامرة الدائمة بين المسرح والسينما والتلفزيون، وبين الرياضة والعمل التقني، لتصبح نموذجًا لامرأة مغربية كسرت الحواجز بصبر وإصرار، فعلى امتداد سنوات عطائها، انفتحت أمامها أبواب جديدة جعلتها تخطو بثبات نحو عالم الصورة، حيث شاركت في عدد من الأعمال السينمائية التي تركت بصمتها في الذاكرة الفنية المغربية. بدأ حضورها السينمائي مع الشريط التلفزيوني الدبابة البيضاء للمخرج محمد إسماعيل، الذي كان بالنسبة إليها نافذتها الأولى على تجربة تزاوج بين الضوء والكاميرا والإيقاع الداخلي للشخصية. أتقنت فوزية التحول من خشبة المسرح، حيث التفاعل المباشر، إلى فضاء يتطلب دقة أكبر في ضبط الانفعالات، وقدرتها على التأقلم السريع جعلتها محط إعجاب الفريق التقني والفني. تلا ذلك مشاركتها في فيلم منديل صفية للمخرج محمد عاطفي، وهو عمل درامي يتطلب حسًا إنسانيًا مرهفًا، استطاعت فوزية من خلاله أن تجسد شخصية تحمل توتراتها الصامتة داخل تفاصيل نظراتها وإيماءاتها. ثم جاءت مشاركتها في الفيلم القصير أيوب للمخرج الفنان محسن مهتدي، وهو فيلم يعتمد على الكثافة الدرامية والتركيز على البعد الرمزي للشخصيات، مما جعل من أداء فوزية عنصرًا دافعًا لمنح القصة عمقًا إضافيًا. كما شاركت في الشريط السينمائي المهم القلوب المحترقةللمخرج أحمد المعنوني، وهو عمل ذائع الصيت في السينما المغربية، يجمع بين الذاكرة الفردية والجماعية، وقد منحها فرصة للتعامل مع فريق احترافي، وللظهور في عمل نال اهتمامًا نقديًا واسعًا.

أما على مستوى التلفزيون، فقد شاركت في مسلسل من دار لدارللمخرج عبد الرحمان ملين، ذلك العمل الذي يعكس حياة الأسر المغربية وتحولاتها، فأتاحت لها طبيعة المسلسل القائم على الحلقات المتصلة والمنفصلة أن تعيش تجارب أداء متعددة، وأن تتقن التلوّن حسب طبيعة كل حلقة وشخصية. كما شاركت في فيلم موسم المشاوشة للمخرجة عهد بنسودة، حيث ظهرت من جديد قدرتها على تجسيد أدوار مركّبة تجمع بين القوة والليونة، ثم أطلت في مسلسل خطّ الرجعة للمخرج محمد منقار، مضيفة لبنة أخرى في رصيدها التلفزيوني المتنوع. لكن ما يميز الفنانة فوزية ليس فقط غزارة أعمالها، وإنما قدرتها على الموازنة بين مسارات متعددة في الوقت ذاته، فمن يعرفها عن قرب يدرك أنها ليست مجرد ممثلة أو راقصة كوريغرافية أو رياضية، ولكن امرأة تحمل داخلها طاقة خلاقة تؤمن بأن الفن والرياضة وجهان لعملة الانضباط والإبداع. فقد واصلت ـ بالتوازي مع أعمالها الفنية ـ نشاطها الرياضي، حيث اشتغلت مساعدة مدرب لفريق نسوي لكرة القدم ضمن أكاديمية أقصبي، وظلت تجمع بين التدريبات البدنية الصارمة وبين التمارين الفنية التي تتطلب خفة ودقة في الحركة. هذا المزج بين العالمين أكسبها شخصية متفردة، لا يمكن تصنيفها في خانة واحدة، لأن مسارها نفسه يرفض الحدود. كانت فوزية تُقبل على كل مشروع فني أو رياضي بروح منفتحة وعزيمة صلبة، وهو ما جعل أصدقاءها وزملاءها يشجعونها دائمًا على الاستمرار، مؤمنين بمهارتها، بحضورها القوي، وبقدرتها على تنظيم العمل بطريقة احترافية، وقد اعتاد الجميع على رؤيتها تنتقل بسلاسة بين فضاءات تبدو متباعدة: من ملعب كرة القدم إلى قاعة البروفات، ومن الكواليس إلى مواقع التصوير، وكأنها تمتلك القدرة على تجزئة طاقتها دون أن يختلّ اتزانها الداخلي.

لقد أحبت فوزية الفن بقدر ما أحبت الرياضة، ولم تجعل أي تحدٍّ أو قيود اجتماعية أو توقعات تقليدية توقفها عن أن تكون على طبيعتها، امرأة تصنع ذاتها بنفسها، خارج القوالب المسبقة والأنماط المكررة. منذ صغرها، كانت تؤمن بأن الفن والرياضة وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما يتطلب الانضباط، والإرادة، والقدرة على الصمود أمام الصعوبات، وكلاهما يفتح أفقًا واسعًا أمام الإبداع والتميز، لم تكن مجرد متفرجة على عالمين مختلفين، بل كانت مشاركة فاعلة في كل واحد منهما، تحاول ترك بصمة حقيقية تنسج حكاية حضورها في كل فضاء تخوضه. مع مرور الزمن، بدأت صورة فوزية تتبلور في أذهان من حولها كرمز للمرأة القوية والمثابرة. لم تكن قصتها مجرد مسار شخصي، بل أصبحت مصدر إلهام للعديد من النساء اللواتي يردن أن يخترقن الحواجز التي وضعها المجتمع أو الأعراف التقليدية. فقد رأين فيها نموذجًا لامرأة لا تستسلم أمام التحديات، امرأة تعرف ما تريد، وتعمل دون كلل لتنتزع لنفسها موقعًا في فضاءات كانت تُعتبر سابقًا حكرًا على الرجال، سواء على خشبة المسرح أو في الملاعب الرياضية أو خلف عدسة الكاميرا، هذا المثال لم يكن مجرد أداء خارجي، وإنما كان تعبيرًا حيًا عن قدرة المرأة على الموازنة بين الشغف والطموح، بين الجدية والمرح، وبين الانضباط والحرية. وبهذا الإصرار، وبفضل التعدد في تجاربها بين المسرح والسينما والتلفزيون والرياضة، نجحت فوزية في بناء مسيرة تُدرَّس اليوم كنموذج للجرأة والإبداع والاحترافية، فقد أظهرت أن التميز لا يأتي من مجال واحد فقط، وأن القدرة على الانتقال بين فضاءات مختلفة تتطلب حسًّا فنيًا وبدنيًا متوازنًا، وإدراكًا عميقًا لقيمة الوقت والطاقة، ومهارة في إدارة الذات، لقد علمت الجميع أن الفن ليس رفاهية، وأن الرياضة ليست مجرد منافسة جسدية، وإنما الجمع بينهما يمكن أن يولد شخصية متكاملة، قوية، وملهمة.

كانت فوزية دائمًا تصرّ بعفوية تامة على أن كل تجربة هي فرصة للتعلّم، وأن كل دور على الخشبة أو في العمل السينمائي أو التلفزيوني، وكل مباراة أو تدريب رياضي، تضيف لبنة جديدة إلى بناء شخصيتها. لقد جعلت من حياتها مشهدًا متواصلًا للتحدي والابداع، بحيث يلتقي المسرح والملعب والكاميرا في محور واحد: شخصية متكاملة، واعية، وقادرة على مواجهة كل التحديات، هذا المزج الفريد جعلها ليست مجرد فنانة أو رياضية بفاس، ولكن رمزًا لمن يسعى أن يثبت أن الشغف والعمل الجاد يمكن أن يحول الأحلام إلى حقيقة ملموسة، مهما كانت الصعوبات والتحديات المحيطة.

اليوم، تقف فوزية نموذجًا حيًا للتوازن بين الموهبة والطموح والانضباط، امرأة قادرة على منح العالم أفضل ما لديها، وبصمة تستحق أن تُسجّل في صفحات التاريخ الثقافي والرياضي والفني، لتظل مثالًا حيًا على أن الإيمان بالذات، والمثابرة، والشغف يمكن أن تصنع معجزة في حياة أي إنسان، خصوصًا امرأة تؤمن بقيمتها وبحقها في أن تصنع حاضرها ومستقبلها بيدها.

لقد قاومت الفنانة فوزية السامري كل القوالب التقليدية لتؤكد حضورها كرمز للمرأة المتمردة في فضاءات الفن والرياضة، حيث كان دخولها المبكر إلى عالم المسرح وكرة القدم بمثابة تحدٍ صارخ للمعايير الاجتماعية التي كانت تجعل هذه المجالات حكراً على الرجل. منذ خطواتها الأولى، بدا واضحاً أنها ليست مجرد فتاة تبحث عن الشهرة أو التفرد، بل امرأة عازمة على رسم مسار مختلف، مسار يتخطى الحدود التقليدية ليؤكد أن الإبداع والشغف لا جنس لهما، حيث واجهت فوزية، مثل كثير من النساء الرائدات، صعوبات جمة، بدءاً من النظرات المشككة والاستهجان الاجتماعي، وصولاً إلى نقص الإمكانيات المادية واللوجستية، لكن ذلك لم يثنها عن متابعة حلمها، استطاعت أن تترك بصمة واضحة على المشهد الفني والثقافي، لتصبح واحدة من الأسماء التي شكلت تاريخ المدينة المعاصر، على الرغم من بعدها عن مجاورات الرباط والدار البيضاء، المراكز التي عرف عنها الترويج المسرحي والسينمائي. هنا، في قلب فاس، صنعت فوزية السامري تجربة فريدة، تجربة اتسمت بالإصرار والابتكار، حيث تحولت القيود المادية والاجتماعية إلى قوة دافعة لتطوير قدراتها وإبداعها.

تجربة فوزية السامري لا تقتصر على الإنجاز الفردي، بل هي شهادة حية على قدرة المرأة على تحدي الصعاب وكسر الحواجز، من خلال مشاركاتها المسرحية، وأساليبها التعبيرية المتنوعة، وبصمتها في الرياضة، أظهرت أن الفن لا يمكن اختزاله في مكان واحد، وأن الموهبة الحقيقية تجد طريقها مهما كانت الظروف. خلاصة هذه المسيرة تقول إن التميز ليس مجرد نتيجة لموهبة فطرية، وإنما هو ثمرة إرادة حديدية، صبر مستمر، وإيمان راسخ بأن الإبداع لا يعترف بالحدود الجغرافية أو الاجتماعية. فوزية السامري رمز للمرأة القادرة على تجاوز القيود الاجتماعية، والارتقاء بالواقع الثقافي المحلي إلى مستويات أعلى، مسجلةً بذلك اسمها ضمن لائحة الكبار الذين أثّروا في تاريخ فاس، وتركوا إرثاً يمكن للأجيال القادمة أن تتعلم منه الصمود، الشغف، والحرية في التعبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى