تفكيك دراماتورجي لشخصيات مسرحية”ستوت”: مرايا تعكس اضطراب قرية”يربوب” وقلقها الوجودي، تعيد كتابة الهوية خارج حدود العائلة والقرابة.

تدور أحداث مسرحية “ستوت” في قرية يربوب اللبنانية مع مطلع بداية القرن العشرين حيث كانت الحياة بسيطة، متقاربة بين الناس، تتداخل فيها مشاعر الانتماء إلى الأرض والهوية، ومع الاحترام لتقاليد القرية حياة تسير بإيقاع الزرع والحصاد، البساطة والقناعة، والمجتمع المتراص ومع مرور الزمن، ومع صراعات التغيير، تحوّلت يربوب في الأدب والرواية إلى رمز لسوء التفاهم بين القديم والجديد، بين التوقعات والواقعية، مما جذب إليها زوّارًا من خارج المنطقة بحثًا عن خيراتها ومناظرها الهادئة، مثل المرأة من جذور يربوب والقادمة من أستراليا وهي تحمل معها بعض من رياح التغيير التي قد تعيد تشكيل القرية والتخلي تدريجيا عن الترابط والتكافل المجتمعي، إلى عزلة تنشد الفردانية، وهو ما لم تكشف عنه المسرحية لتترك للمتلقي فرصة استكمال البقية بعد نهاية العرض، هل ستبقى “يربوب” متماسكة، أم أن عواصف التغيير ستفعل فعلها ؟، أمام قلة ذات اليد ونفاذ صبر أهل القرية والأمل المعقود على عودة الأبناء من الخارجة لإنقاذ الأسر من ورطة الحداثة في كل تجلياتها.

تتشابك شخصيات مسرحية “ستوت” كما تتشابك خيوط النول القديم، كلُّ خيطٍ يشدّ الآخر ويدفعه في اتجاهٍ معاكس، فتتكون من مجموعها لوحة شديدة التوتر، نابضة بالصراع والاحتقان، ليس الصراع هنا مجرد مواجهة بين رغبات متعارضة، وإنما هو انعكاس لضغط الحياة القاسية مع بداية القرن التاسع عشر التي أحاطت بالجميع كحبلٍ غليظ يزداد التفافًا مع كل خطوة، الفقر المتجذّر، والجهل الموروث، والعادات المتكلّسة، واعتماد الأسرة على الفلاحة، كلّها تحوّلت إلى عناصر فاعلة لا تقلّ حضورًا عن البشر أنفسهم، كأنها شخصيات خفية تحرّك الخيوط من وراء الستار. تظهر الأم الخائفة على أولادها، لكنها تدفعهم إلى الترامي على أملاك الغير  رغبة منها في السيطرة على خيوط اللعبة، ولا تكفيها الحيل التقليدية في مد سلطتها “المهترئة” على القرية، أو لنقل على الجيران، تتموضع في قلب هذا الكون الدرامي باعتبارها محورًا عاطفيًا لطبيعة الصراع، هي ليست خائفة فقط لأنها أمّ، ولكن لأنها تحمل ذاكرة أليمة من الفقد، وتجارب متراكمة أكّدت لها أنّ الحياة لا تمنح الضعفاء فرصة النجاة، خوفها ليس انكماشًا وإنما مقاومة نفسية، مقاومة ترتجف، هذا التوتر الداخلي بين رغبتها في الحماية وعجزها عن التحكم في مجرى الأحداث يخلق شخصية تهتزّ عند كل طارئ، وتتوتر عند كل همسة، وتختبئ خلف نبرة صارمة تحاول بها إخفاء هشاشتها، في القراءة الدراماتورجية، تنتمي هذه الشخصية إلى “البؤرة العاطفية” التي تقيس بها باقي الشخصيات حرارة الخطر، فهي مرآة حساسة تعكس تغيّر المناخ النفسي في القرية.

ثم تأتي العجوز المتعلّقة بدجاجتها؛ شخصية تبدو للوهلة الأولى هامشية أو عبثية، لكنها في العمق تمثل رمزًا للمقاومة البدائية التي يلجأ إليها الإنسان حين يسلبه الواقع كلّ شيء، الدجاجة ليست مجرد دواجن، هي ما تبقى للمرأة من عالم كانت تملكه أو تتوهم امتلاكه، إنها رفيقة، وذاكرة، ووسادة عزاء، وجزء من هوية مهدّدة بالتلاشي، دراماتورجيًا، تنتمي هذه الشخصية إلى فئة “الحامل الرمزي”، فهي ليست فاعلًا في الصراع بقدر ما تكشف، من خلال ضعفها وتمسّكها الساذج بما تبقّى، حجم الشرخ في البنية الاجتماعية، كلما تمسّكت بدجاجتها، كلما انكشف مقدار ما فقده الآخرون.

أما الشيخ المهووس بإنجاب ولد ذكر (أبو نصيف)، فهو تمثيل صارخ لمنظومة قيمٍ أكثر صلابة من الحجر، تلك المنظومة التي تجعل الرجل يقيس قيمته بما يتركه بعد موته، لا بما يفعله في حياته، يعيش الشيخ صراعًا داخليًا ينهشه بصمت؛ فهو من جهة يعرف أنّ الزمن تجاوز هذه الأحلام الضيقة، ومن جهة أخرى يخشى أن يصبح مجرّد ظلّ لرجل لم يخلّف ذكرًا يحمل اسمه، هذا الهوس يحوّله إلى آلة ضغط على زوجته وعلى محيطه، ويجعله يدخل في صراعات جانبية بلا داعٍ، كأنّ إصراره على الولد الذكر محاولة لتعويض الهزائم الصغيرة التي يتلقّاها كل يوم. دراماتورجيًا، ننظر إليه كشخصية “المسكون بالوهم”، الذي يحرّك الأحداث دون وعي منه، ويُسهم في اختلال توازن العلاقات داخل الحيّ. يمثّل أبو نصيف إحدى أكثر الشخصيات تركيبًا وتناقضًا في البنية الدرامية، فهو المختار، التاجر، الحارس غير المعلن لأسرار القرية، والمرجع الذي تمرّ عبره الوثائق والمعاملات والقرارات الصغيرة التي تنظم حياة الناس، ومع ذلك، لا يحظى الرجل بالطمأنينة ولا بالشعور الحقيقي بالقوة؛ إنه شخصية محاصرة بين صورتها الخارجية المهيبة وداخلها المرتجف الذي ينهشه عجز دفين. فمصيبته الكبرى ليست فقط في افتقاده لولدٍ يحمل اسمه، بل في افتقاده لمعنى ثابت يربطه بالعالم. لم يُنصفه القدر بأن يخلّد ذكراه بابن يرثه ويرث اسمه، وهذه العقدة، التي تبدو في ظاهرها مسألة اجتماعية بسيطة، تنمو داخله كداء يأكل الروح، لا يرى أبو نصيف حياته إلا امتدادًا لاسمٍ لا يجد من يحمله، فيتحول هذا الفراغ إلى هاجس يومي يلاحقه في نومه ويقظته. ورغم مكانته الاجتماعية، ورغم السلطة التي منحتها له وظيفته كتاجر ومختار، فإن إحساسه بالدونية أمام غياب الابن يجعل كل ما بناه يبدو هشًّا مثل بيتٍ على حافة الانهيار. من الناحية السياسية، يعيش أبو نصيف تحت ظلّ العثمانيين (السلطة التي تحتضر)؛ قوة أعلى منه، تراقبه جيدًا وتعرف أنّ سلطته على أهل قريته ليست سوى واجهة. يدرك رجال السلطة أنّه مخادع، وأنّه يتلاعب بالوثائق والحقائق لتحقيق مصالحه الخاصة. لكنّهم يتغاضون عن ذلك لأنهم يعرفون أنّ سقوطه سيُسقط معهم التوازن الهشّ الذي يبقي القرية تحت سيطرتهم، هذا الوضع يضعه في موقع الشاهد على كل ما جرى، ولكنه شاهدٌ خائف، يعلم أن كذبة واحدة يمكن أن تطيح به أمام الجميع. هنا يتأسس الصراع الداخلي للشخصية، رجل يملك سلطة على الآخرين، لكنه لا يملك سلطة على قدره، يسيطر على الوثائق ولا يسيطر على ذكره، يزوّر الأسماء وتزوّره الحياة، يفرض على الناس قوانين ليغطي عجزه عن فرض قانون واحد على مصيره الشخصي، هذه المفارقة تجعل منه شخصية دراماتورجية خصبة؛ رجلًا يفتش عن الخلود عبر الورق بينما يخسر الخلود الحقيقي في دمه.

أما هوسه بإنجاب ولد ذكر، فيجسّد منظومة قيم متكلّسة استوطنت وعيه حتى صارت جزءًا من هويته. فالذكر بالنسبة إليه ليس مجرد ابن، ولكن مرآة وجوده، وامتداد للسلطة التي يعتنقها كدين، هذا الهوس يحوّله إلى آلة ضغط على زوجته وعلى المحيطين به، كأنّ الولادة يجب أن تطيع أمره، وكأنّ الطبيعة مدينة له بشيء، وهذا الوهم يكشف عن فراغ داخلي عميق؛ إذ يحاول أبو نصيف من خلال إصراره على الولد أن يعوّض سلسلة من الهزائم الصغيرة التي تلقّاها عبر مسيرته. إنه يحاول أن يستعيد صوته عبر صوتٍ آخر لم يولد بعد. دراماتورجيًا، أبو نصيف هو نموذج “الشخصية المسكونة بالوهم، الشخصية التي تحرّك الأحداث دون وعي منها، فهي تفجّر الصراعات وتعيد تشكيل العلاقات داخل الحيّ بناءً على رغباتها الخرافية في السيطرة والاستمرار. وتأتي المفاجأة الكبرى عندما تلد زوجته بنتًا. في تلك اللحظة، يتعرّى وهم الرجل بالكامل. فبدل أن يرى في البنت بابًا جديدًا للحياة، يراها صفعة القدر الأخيرة، ويقرر قَتلها بلا رحمة، كأنّه يحاول دفن فشله في حفرة صغيرة.

إنّ فعل الوأد ليس فقط جريمة، وإنما انهيار نفسي شامل، لحظة الوأد هي اللحظة التي يئد فيها الرجل عقله وتاريخه معًا، هي اللحظة التي تتهاوى فيها سنوات من التلاعب والنفوذ والنصب والاحتيال، ليخرج أبو نصيف عاريًا أمام نفسه، إنها نقطة الانفجار التي تُحوّله من مختارٍ يعرف كل الأسرار إلى رجلٍ مجنون فقد كل شيء: زوجته، احترام الناس، والوريث الذي لم يأت ولن يأتي. وهكذا يغدو أبو نصيف شخصية تراجيدية بامتياز؛ رجلًا صعد السلم الخاطئ وظنّ أنه يقترب من السماء، ليكتشف في النهاية أنه كان يتسلق جدارًا خاسرًا. يتداعى أمامنا ببطء، ثم يسقط دفعة واحدة، كمن أدرك متأخرًا أنّ الخلود لا يُشترى بالهيبة، وأنّ السلطة التي لا تنهض على صدق داخلي تتحول إلى ركامٍ ينهار على صاحبها قبل غيره.

وفي زاوية أخرى، يقف الراعي القنوع، الرجل الذي اختار البساطة عن إرهاق، يعيش حياة خالية من التصعيد السلوكي، لكنه غارق في صراع داخلي أشدّ ضراوة من الصراعات الظاهرة، زوجته تعاني من أوهام تُثقِل كاهله وتحوّل يومه إلى سلسلة لا تنتهي من المحاولات الفاشلة لتسكين مخاوفها، أما ابنه الغائب، فظلُّه أطول من غيابه، يخيّم على الدار كجرح لا يندمل، يمثل أبو شاهين إحدى أكثر الشخصيات التراجيدية هدوءًا وعمقًا في النسيج الدرامي للعمل. إنّه الرجل الظلّ؛ ذاك الذي يمضي حياته في هامش الضوء، دون أن يجرؤ على الاقتراب من مركز المشهد، مكتفيًا بأن ترتسم ملامحه عبر حضور الآخرين، زوجته، معزاته، وابنه الغائب، هو رجل يعيش في كنف زوجته، لا لأنّه ضعيف بالضرورة، بل لأنّ الزمن علّمه أن الصراع المباشر يكلّف أكثر ممّا يحتمل، فآثر البقاء في منطقة آمنة، يرعى المعزات، يكدح بصمت، ويحمل على ظهره عبءَ أسرة أرهقتها الأحلام. يتباهى أبو شاهين بشهادة ابنه، لا من باب الفخر الفارغ، وإنما لأنّه يرى في نجاح شاهين خلاصًا مؤجلًا، وربما تعويضًا عن حياته التي لم تثمر إلا تعبًا، يشبه الرجل الفلاح الذي زرع أرضًا عقيمة، ومع ذلك ظلّ يحدّق في قشور البذور منتظرًا أن تثمر معجزة، إنّ شهادة الابن ليست مجرد ورقة، ولكنها جسر يعلّق عليه الرجل أمله بالتوازن، وعودته إلى القرية مكلّلاً بالنصر، ليثبت للجميع أنّ جهده لم يذهب سدى. يعيش أبو شاهين صراعًا داخليًا صامتًا لكنه ضارٍ، فرغم مظهره الهادئ، هو شخص منخور بالقلق، يعيش تناقضًا بين قناع الرضا الذي يرتديه، وبين الشعور الدفين بأنّ السنوات تمضي دون أن يأتي الخلاص. زوجته الغارقة في أوهامها تزيد من هذا الثقل النفسي؛ فبدل أن تكون سندًا، تتحول إلى مصدر استنزاف يومي. إنها تفرض عليه مسارًا ثابتًا من الطمأنة والتخفيف، في حين لا يجد هو من يخفف عنه. هذا الدور المقلوب، الذي يتحمل فيه عبء الجميع بينما لا يحمله أحد، يجعله شخصية تقترب من التلاشي دون أن تنهار. في القراءة الدراماتورجية، ينتمي أبو شاهين إلى شخصية الضحية القلقة؛ ذاك الذي لا يبحث عن العراك، لكنه يجد نفسه دائمًا في فوهة الأحداث، لا يختار الصراع، وإنّما يُفرض عليه، فيكتفي بالمواجهة الهادئة التي تشبه الاستسلام الوجودي.، هذه الطبقة النفسية تمنح الشخصية عمقًا خاصًا، إذ يصبح رجلًا يقف على تخوم العجز، محاولًا قدر الإمكان المحافظة على تماسك عالم يتداعى. أما غياب ابنه شاهين، فيشكّل محورًا أساسيًا في بناء الشخصية، فالغياب، هنا، ليس مجرد بُعدٍ جغرافي، بل حضور طاغٍ أكبر من الحضور نفسه، يصبح ظلًا طويلًا يخيم على البيت، جرحًا مسنونًا لا يندمل، حلمًا متوترًا لا يتحقق، لقد استنزف الابن ميزانية الأسرة بأكملها؛ كل ليرة كان يُنزَع من لحم الرجل، وكل تضحية كانت تُقدم على أمل العودة، ومع ذلك، يغيب الابن في متاهته الأمريكية؛ لا هو نجح، ولا هو عاد، ولا أدرج والده في حساباته اليومية. هذا التعليق المستمر لحياة الأب على قرار الابن يجعل شخصية أبو شاهين تراجيدية بامتياز. إنه رجل ينتظر، والانتظار هنا ليس فعلًا سلبيًا فقط، ولكنه قدَرًا مسطورا، ينتظر على أمل أن يعود الابن بعلم وسيادة وهيبة، ليحقق للعائلة مكانة فقدتها، وحين يتأخر هذا الحلم، يمتلئ الرجل بشعور صامت بالخيبة، لكنه لا يعترف به. فلو اعترف، لانهارت الصورة التي يعيش عليها. وبين المعزة التي يرعاها كل صباح، وزوجته التي تُثقل ليله بالأوهام، وأحاديث القرية التي تُذكّره دائمًا بأنّ ابنه هو المشروع الحلم، يعيش أبو شاهين على حدود عالمين، عالمٌ ينهار ببطء، وعالمٌ يعد بالكثير ولا يمنح شيئًا. إنّه رجل يضع كل ثقله في الابن الغائب، وكأنّ خلاصه محتجز على الطرف الآخر من المحيط. بهذا، يصبح أبو شاهين شخصية دراماتورجية مركزية، ليس رغم صمته بل بسببه، صمته مساحة يتردد فيها صدى الأحداث، ووجوده الأرضية التي تعكس اضطرابات الآخرين، هو المرساة في بحر الفوضى، ورغم هشاشته العاطفية، يحمل عبء المسرحية أكثر مما يبدو، لأن كل الشخصيات تتحدد ملامحها من خلاله، الزوجة عبر ثقلها عليه، الابن عبر غيابه، والقرية عبر نظرتها إلى حلمٍ لم يتحقق.

وتبرز “ستوت” المرأة الفضولية النمّامة، العارفة بكل صغيرة وكبيرة في القرية، لتلعب دور “المحرك الدرامي” الأكثر فعالية. هي ليست شريرة بطبيعتها، لكنها تستمدّ إحساسها بالقوة من اقتحام أسرار الآخرين والتحكّم في مسار الشائعات، تمتلك قدرة على إعادة تشكيل الحقائق بطريقة تُشعل الخلافات وتُذكي نار الشك، دون أن تظهر مباشرة في قلب الصراع، إنها شخصية تعمل من خلف الستار، تُدير القصص كما يُدير اللاعب المحترف أحجار الشطرنج، تحرك الناس دون أن تشعر بوزر ما تفعله، وجودها يكشف هشاشة النسيج الاجتماعي، ويبرز مدى استعداد الناس لتصديق الوهم حين يكون مبنيًا على خوف قديم أو رغبة مكبوتة، تظهر “ستّوت” بوصفها العين التي لا تنام في عالم المسرحية؛ شخصية تجمع بين النباهة والسذاجة، وبين الذكاء الغريزي والخلط العفوي بين الحقيقة والوهم، إنها شخصية تقف على تخومٍ دقيقة، ليست حكيمة تمامًا، وليست جاهلة تمامًا، بل كائن يقف في منطقة رمادية تتداخل فيها البصيرة مع الخرافة، والحدس مع الهلوسة، والتجربة مع الرغبة في اختراع ما لا تملكه. منذ اللحظة الأولى، تتبدّى “ستّوت” باعتبارها حافظة أسرار القرية ومرجعًا غير رسمي لمجرياتها اليومية.، هي الشخص الذي يملك القدرة على مراقبة التفاصيل الصغيرة، حركة باب يفتح ليلًا، آهة تخرج من نافذة، حديثًا مقتطعًا بين زوجين، ظلًّا غريبًا يعبر الزقاق في فجر باهت، هذه التفاصيل، التي يراها الناس عابرة، تمثل عندها شظايا حقائق يمكن البناء عليها، لكن ما يمنحها قوة خاصة ليس قدرتها على تجميع الشظايا، بل تحويلها إلى قصص كاملة تغدو، مع مرور الوقت، أشبه بـ “الحقائق البديلة” التي تحكم وعي القرية. من الجانب الدراماتورجي، تنتمي “ستّوت” إلى فئة الشخصيات المُحرّكة للصراع، فبدلاً من أن تكون عنصرًا ملاحظًا أو حياديًا، تتحوّل إلى محور يغيّر اتجاه التوترات ويرفع حدّتها، ليست شريرة بالمعنى التقليدي، لكنها تستثمر جراحها القديمة بطريقة تجعل الفوضى مصدر شعورٍ بالسيطرة، إنّها تتلاعب بالخيوط لأنها تخشى تمزيق الفراغ الداخلي الهائل الذي يتهددها، فالتوتر الخارجي يمنحها وهمًا بوجودها، وصناعة الحكايات تخلق لها دورًا لم يعد الواقع قادرًا على منحه. تحمل “ستّوت” وعيًا غريبًا بما يحدث وما سيحدث، وهو وعي ليس نابعًا من قدرات خارقة، وإنما من قدرتها الفطرية على قراءة الإشارات المتناثرة في سلوك الآخرين، إنها تُشبه العرّافة الشعبية التي تلحظ تبدّل النبرة، وتغير لحن الخطوة، وتعرّج نظرة العين. وبفضل هذا الحسّ، تستطيع التنبؤ بأنّ خلافًا سينشب، أو أن علاقة ستتفكّك، أو أن سرًّا سينكشف، لكنّ هذا الوعي مشوب دومًا بالخوف والظنون؛ فهي كثيرة الشك، كثيرة التأويل، تستند إلى نصف حكاية لتصنع منها ملحمة، وإلى كلمة مبعثرة لتبني عليها اتهامًا أو نبوءة. تتجلى المفارقة العميقة في شخصيتها حين نلاحظ أنّها تبني القصص ثم تصدّقها، فهي ليست مخادعة كاملة، بل تقع في فخّ ما يصنعه لسانها، هذا يجعلها شخصية مركّبة، لا يتحرك سلوكها بدافع الشرّ المجرد، بل بدافع الجوع إلى المعنى، لقد فاتها قطار الحياة، أدركت أن سنواتها انقضت في العدم، وأنها لم تحقق شيئًا يُذكر، فاختارت أن تكون محورًا خفيًا في حياة الآخرين، ولو على حساب هدوئهم، إنها تمارس الانتقام النفسي على الواقع، عبر صناعة واقع آخر يتماهى مع خيباتها.

وتحمل شخصية ستّوت” جذورًا عميقة في الذاكرة الشعبية؛ فهي أثرٌ من آثار زمنٍ كان للكلمة فيه سلطان، وللإشاعة قدرة على إسقاط بيوت، إنها ليست مجرّد امرأة نمّامة أو ثرثارة، ولكنها تجسيدٌ لقوة “السرد الشفهي” حين يتحول إلى أداة سلطة، فهي تعرف أنّ المعرفة قوة، وأنّ الناس يخشون من يعرف أكثر ممّا ينبغي، ولذلك تتقن لعبة الظهور والاختفاء، تُلقي كلمة ثم تمضي، وتطلق إشارة ثم تذوب، كما لو أنها تريد للآخرين أن يكملوا البناء وحدهم. من الناحية النفسية، تعاني “ستّوت” من شعور دفين بأنّ حياتها مرّت سدى،هذا اليأس القديم هو ما يحوّلها إلى شخصية تخشى الفراغ، وتخشى الصمت، وتخشى ألا يكون لها أثر، لذلك تلجأ إلى تفكيك منظومة العلاقات في القرية ثم إعادة تركيبها بطريقة تجعل الجميع يعيشون قصتها نفسها: الخوف، الشك، الخيبة، والضياع. وكأنها تقول، دون أن تفصح، إنّ الألم الوحيد الذي يمكن احتماله هو ألم مشترك؛ أما الألم الفردي فهو جرح لا يهدأ. وعلى الرغم من سلوكها التخريبي أحيانًا، فإن ستّوت” تمتلك جانبًا إنسانيًا هشًا يكاد لا يظهر إلا في لحظات الانكسار. فحين تغلق أبواب الليل وتخلو بنفسها، تدرك أنها ليست سيّدة اللعبة كما تعتقد، بل ضحية أخرى من ضحايا الزمن والذكريات والخيبات المتلاحقة، وهذا الوعي العابر لا يدوم، إذ سرعان ما تعود إلى لعبتها المفضّلة، إثارة الغبار على الأسرار، وتحريك المياه الراكدة، وكسر المرايا التي يخاف الناس النظر فيها. من منظور دراماتورجي، تُعدّ ستّوتشخصية “العُقدة”، أي الشخصية التي تُبقي الخيوط مشدودة وتمنع انطفاء التوتر الدرامي. فبوجودها، تصبح القرية مسرحًا مفتوحًا للظنون والقصص والاتهامات، وتغدو العلاقات نُسخًا هشّة من الاستقرار الزائف، إنها جسرٌ بين الماضي والحاضر، بين الوقائع والأوهام، بين الحكاية وما يشبه القدر، يمكن القول إنّ ستّوت” لا تكتفي بمراقبة الواقع أو التعليق عليه، بل تسعى إلى تعريته وكشف هشاشته عبر صناعة بلبلة تُشبه علاجًا قاسيًا لداء غائر. هي تؤمن، في أعماقها، أن الحقيقة لا تُكشف إلا بالصدمات، وأنّ الناس لا يتحرّكون إلا حين تشتعل النار في أطراف بيوتهم. بذلك تتحول شخصيتها إلى قوة درامية تُعيد تشكيل العالم في المسرحية، وتدفعه نحو مساراتٍ لا يمكن التنبؤ بها إلا عبر حدسها الغريب.

يظهر الشاب “صادق” في النسيج الدرامي لمسرحية “ستوت” بوصفه إحدى أكثر الشخصيات تركيبًا وتعقيدًا، لا لأنّ مساره يقدّم صراعًا داخليًا فحسب، وإنما لأنه يجسّد المفارقة الكبرى بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، إنّه حامل الحلم الذي لم يُهزم بعد، واليقين بأنّ الحياة ،رغم عتمتها ، يمكن أن تُصبح أكثر عدلًا وجمالًا لو أنّ الإنسان ظل وفيًّا لقيمه الأولى، غير أنّ هذا اليقين الطري يصطدم منذ ظهوره الأول بزيف العالم المحيط به، مجتمع يتشدّق بالقيم بينما ينتهكها، ويقدّس الحقيقة في الخطب ثم يطارد كل من يجرؤ على النطق بها. هذا الاصطدام، في بعده الدراماتورجي، ليس مجرد حدث خارجي يواجه الشخصية، بل هو لحظة تكوّن جرح وجودي يقلب رؤيتها للعالم ويمزّق توازنها النفسي. من شخصية عاشقة للحياة، مُفعمة بالإيمان الأوّل، يتحوّل الصادق إلى شخصية تشكّ في كل ما ظنّت أنه ثابت: في الناس، في المبادئ، بل في ذاتها أيضًا. وهذا التحوّل ليس انقلابًا انفعاليًا، بل نتيجة طبيعية لمسار درامي يتقصّد الكشف عن هشاشة الفرد حين يُقابَل بإصرار الجماعة على حماية أكاذيبها، في هذا السياق، يغدو الشاب “صادق” ضميرًا جريحًا، يراقب انهيار القيم أمام عينيه من غير أن يمتلك القوة أو السلطة لوقف الانحدار. إنّه شاهد مأزوم: يسمع تهاوي الأخلاق ولا يستطيع الصراخ، يرى الخيانة وهي تُبرَّر، والنفاق وهو يُمنح شرعية اجتماعية، فيتحوّل إلى صرخة مكتومة تتردّد في فراغ خانق. دراماتورجيًا، تمثّل شخصية “صادق” البؤرة الأخلاقية للنص؛ فوجوده ليس وظيفة سردية فقط، ولكن هو ضرورة جمالية وفكرية، من خلاله يتجسّد السؤال الأخلاقي الأكثر إيلامًا، ما الذي يحدث للإنسان حين يكون صادقًا في مجتمع يكافئ الكذب؟ إنّ القرية، بوصفها فضاءً رمزيًا، لا تُنصف صدقه ولا تراه كما هو، بل تضعه في موقع المتّهم الأبدي. تتلبّسه التهم من كل اتجاه، خيانة، تمرّد، جنون، خروج عن الأعراف… لا لشيء إلا لأنّه واجه مرآتهم بحقيقتها، هكذا يصبح الصادق “المسامير التي تُعلّق عليها الجماعة هزائمها”، ذلك الشخص الذي يُلقى على كتفيه ثقل ما لا يريد الآخرون الاعتراف به. إنّه كبش الفداء الذي يحتاجه المجتمع كي يحافظ على وهم البراءة. ومع تراكم الخيبات، يتحوّل الجرح الأخلاقي إلى صرع داخلي، اهتزاز نفسي عنيف يجعله ممزقًا بين صوت ذاته وصوت الجماعة، هل يصدّق حدسه الفطري، تلك الومضة التي تقول له إنه على حق؟، أم يستسلم للخطاب الجمعي الذي يشيطنه ويشكّك في كل قناعاته؟ هذا السجال العميق يمنح الشخصية بعدًا تراجيديًا أصيلًا؛ فهي لا تسقط لأنّها خاطئة، بل لأنّها شديدة الصواب في عالم يحتمل كل شيء إلا الحقيقة.

إنّ “صادق”، في نهاية المطاف، هو سؤال النص ورحمُ تراجيديته، سؤال الإنسان الذي يُعاقَب لأنّه لم يعرف كيف يكذب، أو لأنّه لم يُجِد فنّ المواربة الذي يتقنه الآخرون، وجوده يكشف عورات القرية أكثر مما يكشف محدوديته هو. ولذلك فإنّ سقوطه ليس سقوط فرد، وإنما انهيار منظومة، وانكشاف الفراغ الأخلاقي الذي يختبئ خلف الأقنعة. هكذا يغدو الشاب الصادق مرآةً مضاءة، يرفض المجتمع النظر فيها، لأنها تُظهر قبحه بلا مساحيق. وفي عمق هذا الرفض تتحدد مأساة الشخصية، أن تكون صادقًا، في زمن لا يريد أن يسمع الحقيقة.

وأخير تدخل قرية يربوب فتاة قادمة من أستراليا إلى بوصفها “الوريثة الشرعية” للمرحومة، غير أنّ حضورها لا يندرج ضمن منطق السرد الاعتيادي، بل يتجاوز ذلك ليصبح عنصرًا بنائيًا يحرّك الأسئلة أكثر مما يقدّم الإجابات. فهي شابة متعلّمة، حاملة لوعي مختلف، تنتمي جذورها إلى قرية يربوب لكنها تحمل معها أثر الهجرة، والعيش في مجتمع آخر، وخبرة ثقافية لا تنتمي إلى مزاج القرية ولا إلى بنياتها التقليدية، عند مستوى التلقي، يغدو هذا الحضور الغامض نقطة توتر؛ إذ يدخل المشاهد معها في مساحة مُعلّقة بين الانكشاف والإرجاء، بين ما تعلنه الوثائق وما يخفيه سلوكها. الوثيقة التي تقدّمها للمختار، والتي تُثبت أحقيتها في الإرث، تمثّل من الناحية الدراماتورجية “”دليلًا صادمًا” يقلب المعادلات ويضع السلطة التقليدية في موقف دفاعي. فالمختار، بوصفه رمزًا للشرعية المحلية، يجد نفسه أمام شرعية مضادّة آتية من خارج حدود القرية، تحمل ختمًا رسميًا لا يمكن الطعن فيه، هنا يبرز سؤال درامي جوهري، هل الشرعية هي ما تعترف به الجماعة؟ أم ما تأتي به الوثيقة؟ هذا السؤال، وإن بدا قانونيًا، يكشف في العمق عن صراع بين البنية التقليدية والحداثة الوافدة، بين العالم المغلق الذي تديره الأعراف، والعالم المفتوح الذي تتحكم فيه المؤسسات. تقول الفتاة إنها متزوجة، غير أن زوجها لم يظهر، وتقول إن الصوت الذكوري الذي سُمع في بيتها يعود إلى أخيها، لكنها لا تقدّم برهانًا حاسمًا، هذه المساحة الرمادية تجعل الشخصية تتحرك بين الشك واليقين، بين الهوية المعلَنة والهوية المحتجبة. إنها شخصية تُفصح بقدر ما تُخفي، وتفتح الباب أمام التأويلات المتناقضة دون أن تمنح المتلقي أرضًا صلبة يقف عليها. دراماتورجيًا، يؤدي هذا الغموض وظيفة مثالية، تعليق اليقين بوصفه أداة للتشويق، وامتحانًا لثبات البنية القيمية في القرية. وتأتي “ستّوت” لتضاعف هذا الارتباك، فالشخصية، بما تمثله من حساسية مفرطة اتجاه كل ما يهدد النسق الأخلاقي للجماعة، تتجسّس رمزيًا على الفتاة وتفكّك خطابها، لكنها لا تصل إلى يقين، الأسئلة التي تطرحها ليست أسئلة استيضاح بقدر ما هي أسئلة خوف، من هي هذه الفتاة حقًا؟ لماذا جاءت الآن؟ هل تخفي شيئًا؟ والأهم، ماذا سيحدث لو صحّت مزاعمها؟ إن ارتياب “ستوت” لا يكشف عن حقيقة الفتاة بقدر ما يفضح هشاشة القرية، ذلك المجتمع الذي يخاف كل ما يخرج عن مألوفه، ويقاوم كل ما لا يستطيع تفسيره من خلال قوالبه الجاهزة. على مستوى أعمق، يطرح النص دلالات تاريخية لا يمكن إغفالها، لقد جاءت الفتاة في زمن تتداعى فيه الإمبراطورية العثمانية، وبعد أقل من اثنتي عشرة سنة سينهار النظام القديم ليس فقط سياسيًا بل ثقافيًا واجتماعيًا. هل وصولها إلى القرية مجرد صدفة زمنية؟ أم هو علامة درامية تشير إلى اقتراب التحوّل الجذري؟ إنّ حضورها الآتي من الغرب، من منفى جغرافي وثقافي، يمكن قراءته بوصفه نذيرًا بالتحوّل، واقتحامًا لوعي جديد سيفرض نفسه على البنى الاجتماعية التقليدية. إنّها الحدث الذي لا يستطيع المجتمع دمجه وفق معاييره، لذلك يصبح وجودها ذاته تهديدًا، لا لأنها تريد تغييره، بل لأنها تكشف عجزه عن التعامل مع “الآخر”. هكذا تتحوّل الفتاة من مجرد وريثة تبحث عن حقّها إلى مرايا دراماتورجية تعكس اضطراب القرية وقلقها الوجودي، إنها استعارة للزمن الجديد، زمن تُعاد فيه كتابة الهوية خارج حدود العائلة والقرابة، وتصبح الوثيقة، لا الذاكرة الجماعية، أساس الشرعية. إن اختيار الزمن التاريخي في مسرحية “ستوت” ليس محايدًا؛ فالقادمة من الغرب تبدو وكأنها إعلان مبكر عن انقلاب القيم الذي سيعيد رسم علاقات السلطة ويُسقط البنية القديمة. أما حيرة “ستوت”فهي انعكاس لحيرة المتلقي نفسه، فالنص يتعمّد عدم إغلاق الأسئلة، هل الفتاة صادقة؟ هل هي فعلاً متزوجة؟ هل الصوت الذي سُمع كان لزوجها أم لأخيها؟ أم لشخص آخر؟ هذا الغموض ليس نقصًا، بل استراتيجية درامية تجعل الشخصية مفتوحة على التأويل، وتسمح بقراءة متعددة المستويات، قراءة اجتماعية، سياسية، وربما ميتافيزيقية، وهنا تكمن قوتها، في كونها ليست شخصية تُفهم، بل شخصية تُفكَّر.

في مسرحية ستّوت لا تظهر الإضاءة بوصفها تقنية مساعدة أو عنصرًا تكميليًا للعرض، بوإنما تتحوّل إلى شخصية درامية قائمة بذاتها، تمتلك لغة خاصة، وحضورًا تأثيريًا يعادل حضور الشخصيات البشرية على الخشبة، فالضوء هنا لا يكتفي بإنارة الفضاء، بل يتحوّل إلى أداة نطق صامتة، يعبّر من خلالها العرض عن البُنَى الداخلية للشخصيات، ويكشف خفايا الخطاب الركحي أكثر مما تفعله اللغة المنطوقة. دراماتورجيًا، تعمل الإضاءة في المسرحية وفق منطق “البؤر الضوئية” التي تتعقّب الحالات النفسية، وتقتنص لحظات الانكسار، والانكشاف، والتوتّر. إنها عين ثالثة تتوغّل في دواخل الشخصيات، تقترب حين يتصاعد الصراع، وتنسحب حين تشتدّ العتمة في أرواحهم، بهذا المعنى، تصبح الإضاءة في “ستوت” معالجًا بصريًا، يترجم ما لا يُقال، وينطق بما تعجز الشخصيات عن الإفصاح عنه، فتغدو المسارات الضوئية شكلًا من أشكال الاعتراف المسرحي. وبينما يُفترض تقنيًا أن الضوء يخدم الممثل، نجد في “ستّوت” أن الممثل هو الذي يتجاوب مع الضوء، يبحر في مساراته، ويتكئ على إيقاعه، فكل انتقال ضوئي هو حدث درامي، وكل تعتيم هو وقفة للتأمل أو الانقطاع، وكل انفجار ضوئي هو كشف مفاجئ يربك المتلقي ويعيد توجيه نظره. بهذا التوظيف، تصبح الإضاءة محورًا بنائيًا لا يقلّ أهمية عن الحوار أو حركة الجسد أو السينوغرافيا. إن قدرة الضوء على التعرية تمثّل أحد أبرز وظائفه؛ فهو يفضح تناقضات الشخصيات، يسلّط على وجوههم لحظات الشكّ والخوف، ويبرز طبقاتهم العميقة التي تتوارى خلف الأقنعة الاجتماعية. وكلما تحرك الضوء بذكاء، كلما دفع المتلقي إلى إعادة التفكير في ما يراه، وكسر يقيناته حول طبيعة كل شخصية وما تخفيه من دوافع. وللمتلقي الحصيف الواعي بالعملية الركحية، تتحوّل الإضاءة إلى خطاب فلسفي داخل العرض؛ خطاب يربك المفاهيم ويعيد ترتيب العلاقة بين الظاهر والباطن، فالضوء ليس مجرد شفافية أو تحريك زر، وإنما قوّة تزعزع استقرار المشهد، وتدفعه نحو مستويات أعلى من الدلالة، الضوء يتحول إلى محرك للوعي، يفتح النص على احتمالات متعددة للقراءة. وهكذا، تتجاوز الإضاءة في “ستّوت” حدود التقنية، لتصبح بنية دراماتورجية مركزيّة، تنحت الفضاء، وتكشف الشخصيات، وتوجّه المتلقي نحو فهم أكثر عمقًا ونضجًا لما يدور في العالم الركحي.

بهذه الشخصيات المتباينة، يتشكل عالم “ستوت” الدرامي المكتظّ بالتوترات الصغيرة التي تكبر شيئًا فشيئًا حتى تبدو كأنها على وشك الانفجار، كلّ شخصية تتحرك بدافع عميق يسبق الحدث ذاته؛ بعضها يريد النجاة، بعضها يسعى للسيطرة، بعضها يتمسّك بآخر ما تبقّى له، وبعضها يبحث عن معنى في عالم فقد بوصلته، ورغم اختلاف دوافعهم، فإنّ خيطًا مشتركًا يجمعهم جميعًا، الصراع مع الحياة ذاتها، تلك الحياة التي تزداد قسوة كلما حاولوا فهمها.

يتكئ نصّ مسرحية ستّوت على الروح النقدية التي طبعت كتابات ميخائيل نعيمة، خصوصًا في عمله المرجعي الغربال، حيث يتحوّل النقد إلى أداة تفكيك للبنى العميقة، وإعادة صياغة للرؤية الإنسانية قبل أن يكون أحكامًا على النصوص. إنّ حضور نعيمة في خلفية النص ليس حضورًا اقتباسيًا، وإنما حضور منهجي، نجح معد النصوص نبيل عازر، في غربلة الشخصيات، ونخلِ وجودها، وكشف الزيف الذي يختبئ تحت طبقات العادات والتقاليد والخطابات المستقرة ظاهريًا. في “ستّوت”، كما في “الغربال”، تصبح اللغة النقدية أداة اشتغال دراماتورجية، فالشخصيات لا تُعرَّف من الخارج، بل تُقلب على وجوهها، تُهزّ مثل حبّات القمح في غربال، ليظهر الطيب من الرديء، الحقيقي من المزيّف. كل شخصية تبدو، منذ اللحظة الأولى، مشروعًا لهدم داخلي؛ فالكاتب لا يترك أي بنية نفسية أو اجتماعية دون أن يطرقها بأسئلته الحادّة، ما الذي يجعل الإنسان يتستّر خلف وهم؟ ما الذي يدفعه لخلق صورة مزيفة عن ذاته؟ ما الذي يصنعه الضعف حين يتحوّل إلى قناع اجتماعي؟ دراماتورجيًا، يعمل النص الذي أعد بعناية فائقة على غربلة الشخصيات قبل ترتيبها؛ يكسر بنياتها، يفضح هشاشتها، ثم يعيد بناءها مؤقتًا، لا لتستقر، بل لتُدفع نحو مواجهة مصيرها. هذه العملية المستمرة من التفكيك والترميم تجعل “ستّوت” مسرحية لا تهتم بالحدث فقط، بوإنما بتعرية البنية النفسية للشخصيات (لقرية يربوب، وللزمن والسلطة والمجتمع)، تمامًا كما يفعل نعيمة في قراءته للنصوص حين يزيل عنها الزينة البلاغية ليصل إلى جوهر التجربة الإنسانية. إنّ الشخصيات، في هذا السياق، تبدو وكأنّها تمرّ عبر غربال الوعي، غربال يجرّدها من أكاذيبها، ويحشرها في مواجهة حقيقتها العارية. وهنا يبرز البعد التراجيدي للنص: الكاتب يمنح شخصياته فرصة للفهم، لكنه لا يمنحها الخلاص. إنّها تُترك لمصيرها بعد أن تُكشف عوراتها، كأنّ وظيفة العرض ليست إصلاحها وإنما إظهار آليات سقوطها. وتتجلّى براعة الاعداد في أنّ النقد لا يأتي عبر خطاب مباشر، ولكن عبر تفجير التناقضات الداخلية، خوف الأم، هوس الشيخ، هلوسات الراعي، شكوكية “ستّوت”، نزاهة الشاب “صادق”، وظهور الفتاة الغامضة… كل هؤلاء يُخضعهم النص للغربلة ذاتها التي دعا إليها نعيمة: غربلة الأفكار، والنوايا، والضمائر، حيث لا يبقى سوى “ما ينفع الناس”، وهكذا تتشكّل “ستّوت” كمسرحية تنهل من روح “الغربال”، لتُعيد صياغتها في بنية جديدة، تجعل النقد آلية درامية تكشف ما يخفيه المجتمع من هشاشة، وتكشف، قبل ذلك، ما يخفيه الإنسان من ذاته.

لقد كان أداء الممثلين في مسرحية ستّوت  حجر الزاوية في نجاح البناء الدرامي، إذ يتجاوز مجرد التمثيل ليصبح آلية تحويل النص من سرد قصصي إلى فضاء مسرحي حيّ، غني بالحبكة والتشخيص الدقيق، كل ممثل في هذه المسرحية لم يكتفِ بنطق الحوار، وإنما استثمر لغة الجسد، الإيماءات، النبرة، وسرعة الإيقاع الصوتي ليخلق صورة متكاملة للشخصية، متفاعلة مع فضاء المسرح ومع الشخصيات الأخرى.

قدمت أميمة سرحان أداءً مكثفًا في تجسيد الشخصيات النسائية المركبة، وخصوصًا الأم أو المرأة المثقلة بالمسؤوليات الاجتماعية والعاطفية، في مشهدها مع زوجة الشيخ المهووس، استطاعت أن توازن بين الخوف الصامت والغضب المكبوت، مستخدمة حركة الجسد الدقيقة وتعبيرات الوجه الصامتة لتجسيد الصراع الداخلي، وتجسيد الأبعاد النفسية لشخصيتها، حيث دمجت بين الصمت والتوتر والانفجار العاطفي، مما جعل اللحظات الهامة في النص تتوهج بالحقيقة الإنسانية، ويشعر المتلقي بثقل الصراع الداخلي الذي تحمله الشخصية، دراماتورجيًا، جسدها يجعل المتلقي يدرك أن الصمت أحيانًا أقوى من الحوار، وأن الانفعال الداخلي للشخصية هو المحرك الأساسي للأحداث.

فيما قدمت عبير عثمان شخصية متذبذبة بين الفضول والوعي الاجتماعي، كما تجلت في مشهد مواجهة الفتاة القادمة من أستراليا، استخدام عبير للنبرة المتغيرة والانتقال السلس بين الغموض والشك أظهر الطبقات الداخلية للشخصية، وجعل المتلقي يشعر بالشك والحيرة مثل “ستّوت” نفسها، دراماتورجيًا، أداؤها أضاف أبعادًا للتوتر النفسي الذي يسيطر على القرية، ويبرز تأثير الشخصيات الغامضة على المجتمع.

من جهته تمكن قرمان قرمان من خلق حضور مركزي على المسرح، ليس فقط من خلال الإيماءات والحركة، وإنما عبر ضبط التوتر اللحظي والحوار، مما أعطى للمشاهد إحساسًا بأن كل كلمة وحركة تتدفق من نسيج شخصيته الداخلية، خصوصًا في مشاهد التوتر الاجتماعي بين الشيخ وأبو نصيف، اعتماده على، أتاح للمتلقي متابعة التفاعلات بطريقة طبيعية، دون الحاجة للتوضيح النصي. دراماتورجيًا، يعكس أداء قرمان أهمية التوازن بين الحركة والحوار في نقل الحبكة.

كما أضاف عبيدة زيد بعدًا ديناميكيًا في الأداء، حيث كانت اللحظات الصامتة أكثر وضوحًا وصدقية من اللحظات الكلامية، وهو ما أكسب المشهد قوة مضاعفة، مثل مشهد مراقبته للأحداث من خلف النافذة، كل نظرة أو حركة له كانت محملة بالمعنى، تنقل القلق أو الشك أو التردد، هذا الأداء أضفى على المسرحية طبقة إضافية من التشويق، ويجعل الصمت عنصرًا فعالًا في حبكة النص، دراماتورجيًا، أصبح حضور عبيدة في هذه اللحظات الصامتة بمثابة خطاب بصري داخلي، يتيح للمتلقي قراءة ما تخفيه الشخصيات من دواخل، ويحوّل الصمت إلى أداة كشف نفسية توازن بين الفعل والكلام. مراقبته للأحداث من خلف النافذة إشارة رمزية للتوتر الداخلي للمجتمع بأكمله، حيث ينعكس خوفه وتردده على المشهد، ويصبح الصمت حيزًا من التأويل، يسمح للمتلقي بالانغماس في قراءة الانفعالات والمشاعر دون حاجة للحوار المباشر، مؤكدًا أن المعنى المسرحي يتولد من الانفعال البصري قبل الصوتي، وأن التوتر النفسي يُترجم بشكل أقوى عبر التفاصيل الصغيرة للحركة والنظرة.

من جانب آخر، قدمت آلاء محمد أداءً متقنًا يوازن بين العاطفة والتوتر، وبين الخوف والرغبة في الفعل، مما جعل شخصيتها تتفاعل مع النص بشكل عضوي، ويشعر المتلقي بأنها ليست مجرد شخصية مكتوبة، وإنما كيان حيّ يتنفس على الخشبة، خصوصًا مع الشخصيات النسائية الأخرى، قدرتها على مزج الانفعال بالهدوء الظاهر جعلت شخصيتها تتنفس في النص، وظهرت ككيان حيّ. دراماتورجيًا، أداء آلاء يعزز واقعية العالم المسرحي ويجعل التوترات الاجتماعية ملموسة أمام المتلقي.

أما وائل حمدون، فقد أضاف مستوى من الواقعية التجريبية، حيث دمج التعبيرات الصوتية مع الحركة الدقيقة، ليجعل كل فعل على المسرح يبدو نتيجة منطقية لشخصيته الداخلية، وليس مجرد حركة لتسديد الوقت الدرامي، ونجح في نقل العمق النفسي للشخصيات الذكورية، خاصة الشاب ا”صادق” في مشاهد المواجهة مع “ستّوت” أو مع الشيخ، دمج التعبيرات الصوتية مع إيقاع الحركة البطيء والدقيق، ليظهر الصراع الداخلي دون الحاجة للمبالغة. دراماتورجيًا، أداء وائل يوضح أن قوة النص تكمن في قدرة الممثل على جعل الصراع النفسي ملموسًا ومرئيًا، وليس مقتصرًا على الحوار.

دراماتورجيًا، يمكن القول إن نجاح الممثلين في “ستّوت” لم يكن فرديًا فحسب، وإنما تكامليًا؛ فكل أداء متداخل مع الآخر، وكل شخصية تتحرك في فضاء النص كجزء من نظام متكامل، القدرة على تحويل الخطاب القصصي إلى لحظة مسرحية حية، والإحاطة بكل التفاصيل النفسية والاجتماعية للشخصيات، جعل النص يُقرأ ويُفهم من خلال التفاعل العضوي بين الأداء والمشهد، وليس مجرد الحوار المكتوب. بهذا، يصبح المشخص في “ستّوت” أكثر من منفذ للحوار؛ إنه محرك للحبكة ومفسّر للشخصيات، ومُحوّل للعالم القصصي إلى تجربة حسية متكاملة، تجعل المتلقي يعيش النص في أعماقه النفسية والاجتماعية.

قدمت مسرحية”ستوت” بالمسرح العربي أم الفحم مساء يوم الأربعاء 26 نوفمر/تشرين الثاني 2025، إعداد وإخراج، نبيل عازر، مساعدة المخرج، اليان فرانش، تشخيص: أميمة سرحان، عبير عثمان، قرمان قرمان، عبيدة زيد، آلاء محمد، وائل حمدون، تسجيل موسيقى: معين شعيب، تصميم وتنفيذ ديكور: مروان صباح، تصميم وتنفيذ ملابس: صابرين حسون طافش، تصميم إضاءة صدى للإنتاج، مديرة الإنتاج، ماكياج وملابس: مرح خليفة، تقنيات: صدى PRO، تقنيات: محمد هاني عسلية، تصوير فيديو: موفق عودة، تصوير فوتوغرافي: وليد حمدان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى