إمارة المؤمنين والاستشهاد القرآني في الخطابات الملكية: قراءة تحليلية لذكاء الملك محمد السادس وفلسفة الحكم

قراءة تحليلية للكاتب ميلود الياسمني في فلسفة الحكم وذكاء توظيف النص الديني.

يتابع الجميع خطابات الملك محمد السادس باهتمام بالغ، متتبعين مضامينها، ومحللين لتوجيهاتها، ومثمنين لبلاغتها، كل بحسب قدرته على الفهم والاستيعاب. يصف البعض هذه الخطابات بالتاريخية، بينما يراها آخرون نابضة بالحكمة، حاملة للتوجيهات السامية، ولا سيما فيما يتعلق بالآيات القرآنية التي يحرص الملك على تضمينها، فمنهم من يصف هذه الخطابات بالتاريخية، ومنهم من يصفها بكونها رائعة وفي الصميم، وبأن مضامينها جاءت حاملة للعديد من التوجيهات والتعليمات السامية، وهناك من أولى اهتماما كبيرا لبعض الآيات القرآنية التي يتضمنها الملك في هذه النصوص. لكن السؤال المركزي الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الإطار مرفوقا بأسئلة جانبية، كالتالي:

هل توصلوا إلى إجابات مقنعة ودامغة لتساؤلات العديد من المتتبعين حول الحقيقة الكامنة وراء اختيار الملك لآيات معينة من القرآن الكريم؟ ولماذا يلجأ الملك إلى استهلال وختم خطاباته بآيات بينات منتقاة بدقة وعناية بالغة؟ وما الهدف من وراء ذلك؟ وهل قيامه بذلك يبقى مجرد تقليد أو سلوك تم الاعتياد عليه منذ بعيد باعتباره أميرا للمؤمنين؟ أم هو استحضار لطقوس تعبدية معينة؟  أم هو اقتباس من القرآن لإضفاء نوع من القداسة على خطاباته؟ أم هو مجرد استشهاد تم اعتماده لتعزيز وتقوية رؤية الملك لموضوع معين كان محورا اساسيا لهذا الخطاب او ذاك؟ أم هو بمثابة قفلة او استهلال تم استخدامه لشد انتباه المستمع وترك انطباع قوي لديه، ودعم وتعزيز ما تم قوله في مضمون الخطاب وتثبيت البرهان؟ أم جاء بها فقط لتأثيت فضاء الخطاب؟ وما هو عمق هذا الاختيار الذي يريد الملك إبلاغه للمتلقي؟ وهل هو مجرد لجوء بلاغي تم شحنه بعاطفة إيمانية معينة بغية استرعاء انتباه المتلقي واستمالة تعاطفه من خلال خاصيتي التأثير والإقناع؟ وإلى أي حد يمكن القول بأن هذا الاستدلال بالقرآن هو من زاوية المقاصد الكبرى للدين ولا سيما ما يتعلق بحفظ النفس (من خلال الاهتمام الملكي بمجال التنمية البشرية) وحفظ المال (من خلال محاربة كل أشكال الفساد والاستيلاء على المال العام والاهتمام بالمشاريع الكبرى)؟

هذه مجموعة من التساؤلات التي تم استخلاصها واستنتاحها من تلك الخطابات الملكية ومن خلال ما تمت مناقشته من طرف بعض المحللين، للإحابة عن هذه الأسئلة/التساؤلات، ارتأيت التركيز فقط على ثلاثة خطابات كانت مميزة لسنة 2025 (خطاب العرش، خطاب البرلمان ثم خطاب الوحدة) كما يلي :

  • خطاب العرش (30 يوليوز 2025)
  • خطاب افتتاح البرلمان ( 10 أكتوبر 2025)
  • خطاب الفتح أو النصر المبين (31 اكتوبر 2025) عنها

 سنقوم خلالهما بتسليط الضوء على ما يمكن تسميته بإعجاز الملك في استحضار القرآن الكريم ضمن خطاباته، وكذلك على ما يتسم به الملك من ذكاء وعبقرية وفطنة وحسن بديهة ودقة بالغة في انتقاء واختيار ما يعزز به حجته ويقوي به مواقفه.

بعيدا عن لغة الخشب وتلك التوصيفات العادية السطحية للخطابات الملكية كمتون ذات مضامين عميقة وبليغة تحتاج قراءتها وتفكيكها إلى نوع من الغوص والعقلانية في التعامل معها. إنها تحتاج إلى قراءة واعية ومتبصرة ومتدبرة، بدون غلو ومغالاة أو تحميلها ما لا تحتمل من التأويلات الخارجة عن باب المنطق والصواب

سأشرع أولا بدراسة الخطاب الملكي الأخير ليوم 31 أكتوبر 2025, نظرا لأهميته القصوى وقيمته المثلى في سلسلة جميع الخطابات الملكية التي دامت لأمثر من خمسين سنة، لكونه يشكل منعطفا فريدا ليس فقط على مستوى المغرب وإنما على مستوى العالم لأن سببه وما تمخض عنه نتائج، سيغير أشياء كثيرة على خريطة العالم الاقتصادية والسياسية وغيرها.

ثم سأختتم بقراءة لخطابي عبد العرش وافتتاح البرلمان

إمارة المؤمنين وتحقيق بعض مقاصد الدين الكبرى

العبقرية الفذة للمغفور له الحسن الثاني، لعبت دورا استراتيجيا في تحرير الصحراء المغربية بطريقة سلمية، عبر تنظيم مسيرة خضراء مسلحة بالقرآن الكريم وإيمانها الوثيق بأن الجنوح للسلم هو الأصل الأصيل في الدين الإسلامي، هذا ما سيدفعنا إلى طرح سؤالين جوهريين هما كالتالي:

  • السؤال الاول هو: لماذا لجأ الحسن الثاني إلى هذه الوسيلة الفذة لتحرير الصحراء دون اللجوء إلى القوة والعنف ودون إراقة دم, بمعنى آخر دون اللجوء إلى الحرب؟
  • والسؤال الثاني هو: لماذا لجأ الملك محمد السادس إلى لغة التفاوض وتعزيز الدبلوماسية المغربية بجميع تجلياتها وتمظهراتها لأجل إتمام عملية التحرير وفرض السيادة المغربية على ذات الأقاليم، دون اللجوء إلى القوة والعنف ودون إراقة دم، بمعنى آخر دون اللجوء إلى الحرب؟

هنا يكمن سر قوة إمارة المؤمنين التي يتمتع بها الملكين والمتوارثة ديمقراطيا ودستوريا وكذلك عن طريق البيعة، لأنه من المسؤوليات الجسام، أحب من أحب وكره من كره,  الملقاة على عاتق أمير المؤمنين هو العمل على تحقيق الكليات الخمس أو المقاصد الخمس للدين، واللجوء إلى الطرق السلمية في التفاوض،  وعدم سلوك طريق الحرب هو تفكير سليم و منطقي ومن موقع قوة ، تدخل في هذا الإطار ، فهي تحافظ على النسل وتحافظ على الروح وتحافظ على المال وتحافظ على الدين، لأن الحرب من نتائجها المصاحبة والنهائية خلق فتن بجميع انواعها عقدية وتشكيك في الإيمان وغيرها كما أنها تسهم بشكل مأساوي في إزهاق الأرواح وتدمير النسل وتبدير المال من خلال تدمير الاقتصاد وتخريب المجتمعات

وبالتالي فإن استرجاع الأقاليم الصحراوية الجنوبية وصدور قرار مجلس الأمن باعتماد مقترح الحكم الذاتي كحل واقعي وفعلي للنزاع المفتعل، هو انتصار دبلوماسي وبصيرة استراتيجية جمعت بين فكر الملك كأمير للمؤمنين وكرئيس للدولة، رغم تشكيك بعض المرجفين في ذلك الانتصار الهادئ والناعم رغم طول معانات ورغم بعض المناوشات اليائسة من طرف الاتفصاليين، وكانت ردة فعل المغرب عليها، عادية مصنفة في إطار الدفاع عن الشرعية، عن حوزة الوطن وعن السيادة الوطنية، وهذا أمر طبيعي وهذا الانتصار أو الفتح المبين سيكون بمثابة نقطة تحول إيجابي كبرى في المغرب وفي المنطقة برمتها.

وهنا يمكننا فتح قوسين لطرح السؤال العريض التالي:

  •  ما علاقة خطاب جلالة الملك محمد السادس ليوم 31 أكتوبر 2025 بخطاب المغفور له الحسن الثاني لانطلاق المسيرة الخضراء بتاريخ 05 نونبر 1975، من حيث الاستشهاد القرآني؟

فهل هي علاقة مقصودة مخطط لها من قبل؟ أم أنها علاقة عفوية نسجتها المراحل التاريخية التي مرت منها قضية الصحراء المغربية؟ أم هي علاقة سبب ونتيجة يتحكم فيها العزم والتوكل على الله من جهة ومن جهة أخرى نتيجة قرار مجلس الأمن القاضي باعتماد مخطط الحكم الذاتي بالصحراء المغربية كحل واقعي لنزاع مفتعل؟

وهنا كذلك تبدو لنا قوة استمرارية النضال والدفاع عن شرعية قضايا الوطن المتوارثين أبا عن جد لحفظ حقوق البلاد والعباد من خلال تحقيق الكليات الخمس للدين.

إذا، ومن خلال ما سبق ذكره في هذا السياق، فإن الاستشهاد بالآيات القرآنية في الخطابات الملكية تستخدم لتأكيد مدى تمكن الملك من الخاصيات التي يتميز بها أمير المؤمنين، وذلك عبر مجموعة من الدعامات الأساسية كتقوية وتعزيز  الخطاب من خلال إضفاء شحنة معنوية وروحية على ما تم تضمينه باعتبار أن القرآن مصدر قداسة وثقة ما يجعل خطاب الملك أكثر مصداقية وتأثيرا في النفوس بشكل لا يمكن لأي كان أن ينتقده أو يدحضه، علاوة على ربط مضامين الخطابات بالوحي الإلهي لكونها تمتح من القرآن كامتداد ديني روحي، وهذا كله يعمل على ترسيخ البرهان وتثبيت الحجة على شرعية إمارة المؤمنين التي يتمتع بها الملك ويزكي بقوة مرجعيته الدينية الصرفة.

إن استرجاع الصحراء المغربية كان سلميا عن طريق تنظيم المسيرة الخضراء وكان في ذلك ذكاء فريد وعبقرية فذة من الملك الراحل الحسن الثاني الذي جنح إلى السلم متفاديا الدخول في حرب مع قوات المحتل الإسباني، وبذلك تم تحقيق جميع المقاصد الخمسة للدين من خلال حفظ الروح والنسل والمال والصحة والدين.

كما أن خطاب الملك محمد السادس ليوم 31 اكتوبر 2025, جاء ليؤكد لنا ذلك من خلال استشهاده بالآية رقم واحد من سورة الفتح “إنا فتحنا لك فتحا مبينا” . حقيقة أن الاسترجاع النهائي للصحراء المغربية لم يكن سهلا هينا. وكذلك فتح مكة التي لم يتم فتحها إلا بعد معاناة جسام وتضحيات، وعقد صلح مع المشركين “صلح الحديبية” حقنا للدماء وحفاظا على الدين، حيث بين الله تعالى تلك المعاناة في السورة السابقة لسورة الفتح وهي سورة “محمد”

يقول جلالة الملك في هذا الخطاب:

 من بعد خمسين سنة من التضحيات، ها نحن نبدأ بعون الله وتوفيقه، فتحا جديدا في مسار ترسيخ مغربية الصحراء، والطي النهائي لهذا النزاع المفتعل، في إطار حل توافقي على أساس مبادرة الحكم الذاتي

وهنا يمكننا جميعنا تخيل حجم هذه التضحيات وتصور مقدار المعاناة، وكذلك تصور النجاحات التي تم تحقيقها من قبل:

  • سحب مجموعة كبيرة من دول العالم اعترافها بالكيان الوهمي
  • تراجع وتلاشي الأطروحة الوهمية
  • واعترافها بسيادة المغرب على الصحراء
  • تقوية الموقع التفاوضي للمغرب
  • نجاحات على مستوى الشق السياسي
  • نجاحات على مستوى الشق الدبلوماسي
  • نجاحات في الشق الاقتصادي والاجتماعي
  • وأخيرا جعل الصحراء ورشا مفتوحا للتنمية

كما أن الملك محمد السادس لم يستحضر هذه الآية للتوثيق لحدث تاريخي متجسد في تأكيد مقترح المغرب المتعلق بالحكم الذاتي في الصحراء المغربية تحت السيادة المغربية، وإنما ليقول لسائر المغاربة أن استرداد الحق المشروع المستلب والإحساس بالأمن والطمأنينة لا يأتيان إلا بعد مشقة طويلة من الحروب الدبلوماسية ومناورات أعداء الوحدة الترابية من الداخل والخارج،وهذا شبيه إلى حد ما بمعاناة المسلمين قبل فتح مكة

وهو شبه أو تشبيه ضمني مسكوت عنه او غير مقصود بتاتا من طرف الملك ويمكن استنباطه واستنتاحه من خلال ربط سورة الفتح في سياقها مع سورة محمد، حتى وإن كان صريحا، فهو تشبيه في المغزى وليس في الواقع.

كما أن هذا الخطاب يبين مدى ذكاء الملك في العمل على تأطير وإدراج هذا الحدث المميز ضمن سنن الله في النصر والتمكين، بغية تذكير الأمة المغربية أن تحقيق النصر لا يأتي سهلا وبشكل فجائي، وإنما بعد صبر ومكابدة، وهذا الخطاب موجه كذلك إلى الأجيال الصاعدة.

ثم ان هذا الاستحضار القرآني في الخطابات الملكية لا يمكن أبدا المرور عليه مرور الكرام وليس أمرا عاديا. هناك رسائل مسكوت عنها يريد جلالة الملك إيصالها إلى من يهمهم الأمر دون أن يفصح عنها فلجأ إلى القرآن لأجل تضمين بعض آياته في هذه الخطابات. قد يقول قائل بأن ذلك أمر عادي جداً وقد لجأ الملك لذلك لتعزيز موقفه وتقوية حجته. أقول له بأن ما قلته صحيح، لكن ما ليس عاديا هو لماذا بالضبط اختيار آيات بينات محددة علما أن القرآن الكريم كل آياته تحمل عبرا ودروسا، كفيلة بأن تعزز الموقف وتقوي الحجة؟ وهنا يكمن بيت القصيد، وهذا ما يريده جلالة الملك، البحث في عمق تلك الآيات وفهمها الفهم الصحيح لاستنباط واستخراج ما لم يفصح عنه، وذلك من خلال ربط الغاية من اللجوء إلى القرآن بإمارة المؤمنين التي تتميز بطابع خاص في الدستور المغربي، حيث ومن خلالها يعمل الملك جاهدا على تحقيق الكليات او المقاصد الخمسة في الإسلام (حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال).

ثم أن هذا الانتصار الهادئ الذي حققه المغرب بخصوص الصحراء المغربية لم يكن دعوة إلى إعلان حرب عن أعداء الوحدة الترابية للمغرب بمختلف أطيافهم، بقدر ما هو جنوح إيجابي نحو السلم والاستقرار وفتح باب الحوار. والتشاور والتعايش والدعوة إلى عودة المغرر بهم إلى أرض الوطن، حيث كان البعض المشككين يرون في أن ما اختاره المغرب من مفاوضات وتحركات دبلوماسية بعيدا عن منطق الحرب، لن يعطي ثماره، لكنه في النهاية كذب كل التكهنات، وكان فتحا مبينا ونصرا خارقا حقيقيا حقق بقوة بعضا من المقاصد الكبرى للدين ولا سيما ما يتعلق بحفظ النسل والروح والمال. ولهذا فإن استسهاد الملك بالقرآن و خاصة بعض الآيات المنتقاة منه بدقة تم توظيفها بعناية مركزة  لتعزيز الموقف وتقوية فلسفة الملك في التعامل والتعاطي مع الأزمات والصراعات الدولية، وليس لمجرد الاستحضار ، وأن كلتي الآيتين القرآنيتين في خطاب المغفور له الملك الحسن الثاني والملك محمد السادس بينهما رابط إيماني واحد هو أن النصر والتمكين من الله بعد العزم والتوكل عليه، مرتبطان بالصدق في حب الوطن والثبات، والإيمان الراسخ بعدالة القضية الوطنية ، مع التحذير من الغدر وخيانة العهد والميثاق القوي الذي يربط بين جميع مكونات هذا الوطن، ألا وهو التلاحم بين العرش والشعب.

وصاحب الجلالة حينما قام باستهلال خطابه السامي، اختار أن يستهله بالآية الكريمة الأولى من سورة الفتح، وهي كالتالي”

“إنا فتحنا لك فتحا مبينا ”

وهنا وكما سبق أن ذكرت تتجلى بشكل واضح نباهة الملك وقوة ذكائه وشدة بصيرته في اختيار ما يناسب خطاباته من آيات بينات.

وحينما نقوم بتفكيك بنيات هذه الآية، يتضح لنا إعجاز الملك في ذلك. وخصوصا كلمة الافتتاح: إنا” دلاليا ونحويا، فهي كلمة متكونة من كلمتين

  • إن: هي أداة توكيد ونصب
  • و”نا”: ضمير متصل يدل على المتكلم الجمع الذي هو الله سبحانه وتعالى، وإنا جاءت لتؤكد على او لتمهد على خبر عظيم سيأتي ذكره من بعد، وهو في القرآن الكريم الفتح المبين، ألا وهو فتح مكة بعد معاناة طويلة

والملك استحضر هذه الآية ليؤكد هو الآخر على خبر عظيم طالما انتظره المغاربة قاطبة بصبر فارغ، ألا وهو خبر تصويت أعضاء مجلس الأمن الدولي على تبني مقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية تحت السيادة المغربية، بعد معاناة طويلة وتضحيات جسام ومعارك دبلوماسية وبعد طول مخاص

وهذه ملكة قلما نجد مثيلا لها عند بعض الناس بغض النظر عن مكانتهم ومركزهم في الحياة

خطاب العرش (30 يوليوز 2025)

خطاب افتتاح البرلمان ( 10 أكتوبر 2025)

  من خلال الاستشهاد بسورتي قريش والزلزلة

في هذا الجانب ارتأيت أن أفكك بنيات هاذين الخطابين وأحللهما في وقت واحد باعتبارهما متقاربين من حيث الموضوع ومن حيث الرسالة الخفية التي يحملها بين طياته ذلك الاستشهاد القرآني.

وقراءة هذه الآيات ينبغي أن تكون باعتبار دلالتها الحقيقية ودلالتها الرمزية، مع اللجوء إلى تفعيل تقنية إسقاط المدلول المستنبط من تلك الآيات على الواقع المغربي كما التقطته لنا رؤية الملك الشديدة في معرض خطاباته السامية.

 إن قراءة تلك الآيات المختارة، من خلال سياقها في الخطاب الملكي، قد تبدو منذ الوهلة الأولى مسألة عادية نابعة مما تم تدريسه لنا من شرح لتلك الآيات القرآنية ومما هو كذلك متعارف عليه، غير أنه ومع قليل من التركيز والغوص في مدلول تلك الآيات، سيتضح أن الأمر ليس عاديا بتاتا. ما سيدفع بنا إلى الخروج شيئا ما عن إطار الفهم العادي إلى معانقة البحث الدقيق في تلك الآيات من خلال ربطها بسياقها الخاص أي دراستها داخل موقعها من السورة التي تنتمي إليها، ومن جهة أخرى من خلال ربطها هذه السورة بسياقها العام أي ربطها بالسورة التي تسبقها، ومن جهة ثالثة محاولة التركيز والتشديد على دراسة او قراءة خاصة لمدلول الحروف التي تستهل بها كل آية من الآيات القرآنية المستشهد بها في الخطابات الملكية، موضوع هذه الدراسة.

إن الملك في هاذين الخطابين، ومن خلال مرجعيته الدستورية كأمير للمؤمنين، يضع كل الفاعلين السياسيين (حكومة وأحزاب سياسية) وكذلك باقي المسؤولين، أمام مسؤوليتهم مع الإشارة إلى ضرورة إعمال ضمائرهم في أداء مهامهم المنوطة بهم، منبها إياهم إلى أن الله هو الرقيب الأول والأخير على نواياهم وأنه هو من سيحاسبهم،

وهنا تظهر لنا بشكل جلي قوة وسرعة ذكاء الملك في محاولة سديدة لإخراج خطابه من إطاره العادي ليضعه في سياق آخر أكثر حكمة وفعالية وأكثر تأثيرا وهو السياق الإيماني المرتبط أساسا بالمحاسبة والجزاء في حالة جحود نعمة الاستقرار ، والأمن والسلم الاجتماعيين، وذلك ليوري للمتلقي بشكل قوي لا يقبل الشك والمراء أن مضامين خطاباته ليست مجرد أفكار أو توجيهات عادية وإنما هي مضامين لها امتداد ماتح من منبع ديني روحي إيماني (القرآن الكريم) باعتبار هذا الأخير هو مصدر مقدس وأنه هو الحق الذي لا جدال فيه، وهو ما يضفي على تلك الخطابات مصداقية ووثوقية عاليتين وحجية بالغة لدى المتلقي باختلاف طبقاته وانتماءاته، وباختلاف درجات تفكيره ووعيه وفهمه.

وهو ما يفهم من خلاله أن ما أراد جلالة الملك إيصاله إلى الجميع هو أن جميع توجيهاته منسجمة مع التوجيه الإلهي، كمحاولة بارعة وذكية من الملك لنقل المتلقي من خطاب وضعي سياسي إلى فضاء إيماني قطعي يؤكد على أن ما جاء به الملك في الخطاب هو حقيقة مؤكدة وأن الاستشهاد القرآني جاء كنتيجة حتمية لشيء مسكوت عنه في الخطاب، فما يهمنا نحن من هذا هو الإفصاح وتبيان ذلك المسكوت عنه عبر تفكيك بنيات النص القرآني المستشهد به من خلال وضعه في سياقه العام،  وهو ما يزكي إمارة المؤمنين بحسن ودقة الاختيار من القرآن الكريم أو سدادة الاستشهاد بالقرآن الكريم ليس أمرا متاحا للجميع خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بشيء مسكوت عنه.

يُبرز أمير المؤمنين أن الدين ليس مجرد طقوس فقط، بل هو مشروع للحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية، وهذا ينعكس في الخطاب القرآني الموظف في السياق الواقعي للمجتمع. كما أن هذه الآيات المستشهد بها في الخطابين أعلاه، تؤكد أن الهدف منها هو توضيح حقيقة الواقع المعيش لجعل الخطابين أكثر إثارة وقوة للتأثير على تفسية المتلقي الحقيقي والمعني بالخطابين، وجعلهم أمام الأمر الواقع، فإما أن يعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، أي أن يتحملوا مسؤوليتهم ويحترموا ويقدروا هذا الوطن، وإما المحاسبة على. كل مثقال ذرة خير أو مثقال ذرة شر، حيث يتعلق الأمر بجميع المسؤولين والفاعلين السياسيين من أعضاء الحكومة وبرلمانيين ورؤساء أحزاب سياسية ونقابات، وغيرهم كذلك من خونة الداخل والخارج والمتربصين بهذا الوطن وملكه وشعبه.

على مستوى الوعي الفكري لدى جلالة الملك من منطلق صفته كأعلى سلطة في البلاد ، فهو يعمل بذكاء خارق لتفادي امتثال مبدأ إسقاط الغايات لتبرير الأفعال لدى الحكومة أو الأحزاب السياسية أوحتى فعاليات المجتمع المدني وحتى بالنسبة لجميع المسؤولين الآخرين، بل إنه، وبكل بساطة ولباقة، يدفع الجميع بمن فيهم المفكرين والمثقفين وأصحاب مراكز التفكير، إلى الحفر في السبب (سورة قريش) والنتيجة (سورة الزلزلة) من خلال التوغل في عمق المتن القرآني عبر الآيات البينات التي اختارها كاستعارة ختاميّة للخطابين السالفي الذكر، لفهم او بالأحرى للكشف عما ارتضى جلالة الملك عدم الكشف عنه مراعاة للعمق النفسي للموجه إليهم الخطاب في تلك اللحظة حيث لا أحد يكون على علم بما يحمله الخطاب الملكي وحيث يكون الجميع في صراع تتم بين ما يعتورهم حينها من أفكار وتكهنات، ليفسح المجال لباب التأويل المنطقي وفهم مقاصد الكلام وربط السبب بالنتيجة.

وكأني بجلالة الملك من خلال هاذين الخطابين يقول بوضوح بالغ صادر عن فكر ناضج ومسؤول جدا

“نحن في المغرب لا نعمل بالشعارات بل نحاسب أنفسنا على الفعل والنتيجة والدافع والثمن، من خلال البحث عن العلاقة بين القرار المتخذ وما أدى إليه من خلال الوضوح عبر التجرء على الكشف عن الدوافع الحقيقية الكامنة في عمقها النفسي، أمام ما تم القيام به وإنجازه، لأنه لكل اختيار ثمن حتى ولو كان ما تم إقراره صائبا

لقد تبين أن هذا الاستحضار القرآني لم يكن استحضارا طقوسيا تعبديا ولكنه استحضار ذو أبعاد رمزية قوية تضرب في عمق مكمن الغلط في برامج السياسة العامة التي تسطرها الحكومة بكل سلاسة ويسر، لكنها تجد صعوبة بالغة في تنفيذها، ما جعل جلالة الملك يعبر عن ذلك بقوة من خلال السرعتين اللتين تسير بها التنمية في المغرب وهما سرعتان متناقضتان.

خطاب العرش كان موجها للفاعل السياسي الرئيسي لتحديد موقعه وموقفه، فالخطاب اختتمه صاحب الجلالة بالآية القرآنية الكريمة:

“فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”،

الآيتان 3 و 4 من سورة قريش في القرآن الكريم

وتفسير هذه الآية الكريمة لا ينبغي فصله عن سياق تفسير سورة قريش المرتبطة أساسا كسبب لنزول سورة الفيل التي تسبقها، والتي جاءت لتبين ضمنيا -وهو ما يمكن تسميته بالمسكوت عنه- مآل الخونة ولا سيما خونة الداخل المتمثلين أساسا في الخائن المسمى أبو رغال الذي دل أبرهة الأشرم على مكان وجود الكعبة المشرفة.

فاستحضار الملك لتلك الآية لم يكن من باب التذكير بواقعة تاريخية معينة، وإنما ليقول للحكومة اتقي الله في هذا البلد الذي مكنهم من خيراته وذلل لهم سبل الثراء والمكانة والسلطة والجاه، ولا تكوني من المتربصين ومن خالقي الفتن.، وكذلك التنبيه إلى خطورة خونة الداخل والخارج والمتربصين بهذا البلد الآمن.

أما خطاب افتتاح الدورة التشريعية ليوم الجمعة 10 أكتوبر 2025, فهو لم يخرج كذلك عن سياق سابقه، ولا يمكن فهمه وتأويله واستنباط الرسائل الخفية التي يتضمنها واستبصار مقاصده، دون ربط مضمونه بمضمون خطاب العرش 2025، فهو كذلك موجه للفاعل السياسي الرئيسي لوضعه أمام حقيقته الملقاة على عاتقه ووضعه بين مطرقة المسؤولية وسندان المحاسبة

ولفهم سياق ختم صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله لخطابه بالآيتين السابعة والثامنة من سورة الزلزلة، لا بد لنا من فهم سياق وأسباب نزول هذه السورة وعلاقتها بالسورة السابقة ألا وهي سورة البينة.

فالملك في خطاب العرش بين للحكومة ولجميع مسؤولي الدولة وحتى الشعب، ما عليهم فعله والقيام به تجاه هذا البلد، بمعنى آخر تحديد الواجبات والمهام التي من أجلها تشكلت الحكومة،

جاء في الخطاب الملكي لعيد العرش ليبين للحكومة والبرلمانيين ما هو واجب عليهم فعله والامتثال له، يقول جلالته

 “حضرات السيدات والسادة البرلمانيين،

لقد دعونا في خطاب العرش الأخير، إلى تسريع مسيرة المغرب الصاعد، وإطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية.

وهي كما تعلمون، من القضايا الكبرى، التي تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني.

وبلادنا والحمد لله، تفتح الباب، من خلال الديناميات التي أطلقناها، أمام تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية أكبر.

كما نعمل على استفادة الجميع، من ثمار النمو، ومن تكافؤ الفرص بين أبناء المغرب الموحد، في مختلف الحقوق، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها.

لذلك، نعتبر أن مستوى التنمية المحلية، هو المرآة التي تعكس بصدق، مدى تقدم المغرب الصاعد والمتضامن، الذي نعمل جميعا على ترسيخ مكانته.

فالعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفوارق المجالية، ليست مجرد شعار فارغ، أو أولوية مرحلية، قد تتراجع أهميتها حسب الظروف؛

وإنما نعتبرها توجها استراتيجيا، يجب على جميع الفاعلين الالتزام به، ورهانا مصيريا، ينبغي أن يحكم مختلف السياسات التنموية”

من خلال ما تضمنه خطاب العرش 2025, عبر توجيهاته بضرورة الاهتمام بقطاع التنمية البشرية وإصلاح التعليم والشغل والصحة من خلال قوله

وينبغي أن تقوم هذه البرامج، على توحيد جهود مختلف الفاعلين، حول أولويات واضحة، ومشاريع ذات تأثير ملموس، تهم على وجه الخصوص:

  • أولا : دعم التشغيل، عبر تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية، وتوفير مناخ ملائم للمبادرة والاستثمار المحلي؛
  • ثانيا: تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصة في مجالي التربية والتعليم، والرعاية الصحية، بما يصون كرامة المواطن، ويكرس العدالة المجالية؛
  • ثالثا: اعتماد تدبیر استباقي ومستدام للموارد المائية، في ظل تزايد حدة الإجهاد المائي وتغير المناخ؛
  • رابعا: إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج، في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى، التي تعرفها البلاد.

  وسؤالنا الجوهري هنا هو هل التقط الفاعل السياسي الرئيسي فعلا الرسائل المخفية داخل هذا المتن الملكي؟ وهل استطاع أن يدرك مدى قوة استبصار وتشوف جلالة الملك للمستقبل أو بالأحرى لما سيأتي؟ وهل تفكير الفاعل السياسي المغربي بشكل عام، يسير فعلا بنفس السرعة التي يسير بها تفكير جلالة الملك؟ للأسف الجواب هو لا. وهنا مكمن أخطاء هذا الفاعل السياسي وغيره، فماذا لو كان هذ الفاعل السياسي الرئيسي على، شكل مركز تفكير فهل سيفقد مصداقيته؟  ليواكب على الأقل بعضا مما يقدمه له الفكر السامي والسديد للملك. أو لنقل ليغوص ولو قليلا في بحر التوجيهات الملكية التي تحملها تلك الخطابات.

فإذا كان جلالة الملك قد أبان في خطاب العرش عما يجب أخذه بعين الاعتبار وإيلائه العناية البالغة في سبيل النهوض بالتنمية البشرية بل التنمية في جميع تجلياتها وتمظهراتها بما يخدم مصالح هذا البلد كما جاء في “خطاب العرش “, فإن تضمين الملك لبعض الآيات القرآنية في خطاباته يسلط بقوة الضوء على تلك الزاوية العميقة والمسكوت عنه من دلالة ثقل ذلك التضمين القرآني وإسقاط دلالاته الرمزية على المغرب ملكا وشعبا وحكومة.

في الختام، وتأسيسا على ما سبق، باعتبارنا مواطنين تهمهم مصلحة الوطن ويتمنون الدعاء للفاعل السياسي الأساسي بالخير والسداد إن هو اجتهد وأصاب وإن هو اجتهد وأخفق، يدفعنا هم التفكير في الوضعية التي يوجد عليها ذلك الفاعل السياسي، إلى طرح التساؤلات التالية:

من الذي جعل هذا الفاعل السياسي يقع في هذه الوضعية؟ هل هو بطء سرعة تفكيره بالمقارنة مع قوة سرعة تفكير الملك؟ أم هو اختياره غير المعلن للهروب من تنفيذ قرارات سياسية سطرها أو بالأحرى الوفاء بوعود بنى عليها برنامجه الانتخابي؟ أم هو ضعفه أمام التزامه تجاه قرارات اتخذها لمصلحته؟ أم هو تضارب مصالح بعض أعضائه مع المصلحة العامة؟ أم هو شعور بنرجيسية فارغة دفعته إلى تبني أفكار سلبية لمواجهة قوة حقيقية تتمثل في التحام الملك والشعب؟

 أم هو فرط الإصابة بمتلازمة دون كيشوت جعله يدخل في تحد مع قوى منافسة متوهمة؟

وأخيرا كيف يمكن لهذا الفاعل السياسي أن يخرج من هذه الوضعية بنفس الطموح الذي دخل به في البداية؟

فالآيات القرآنية الكريمة التي اختتم بها جلالته خطابي العرش والبرلمان، لا يمكن فهمها وتأويلها إلا بكونها عبارة عن تنبيه صريح مغلف بلغة القرآن، وهو تنبيه صريح وصادق صادر عن الملك باعتبار مرجعيته العليا، كحارس أمين الدين وللوطن ومسؤول أول عن رعايا،

“فليعبدوارب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”

الآيتان 3 و 4 من سورة قريش في القرآن الكريم

فهل يفهم من سياق هاتين الآتين الكريمتين أن الملك يوجه إنذارا مبطنا لمن يمكن تسميتهم بخونة الداخل أو لكل المسؤولين وعلى رأسهم الفاعلون السياسيون، على ضرورة احترام هذا الوطن بعدم زرع الفتنة لكونه هو الذي أطعمهم وآمنهم، والمواطنين الذين انتخبوهم وأوصلوهم إلى تلك المكانة، فعليهم أن يردوا الجميل لهم بتنفيذ ما وعدوهم بما يخدم المصلحة العامة للجميع دون تمييز أو تحيز.

“فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”

الآيتان 7 و 8 من سورة الزلزلة في القرآن الكريم

فهل يفهم من سياق هذه الآية الكريمة أن الملك يرسل توبيخا ضمنيا الفاعل السياسي الرئيسي أو تذكيرا لهه بالمحاسبة بعدما سبق له أن بين له ما يجب عليها فعله؟

فهل اختيار جلالة الملك لهاته الآيات البينات هي بمثابة رسالة تذكير وعتاب وتنبيه وتوبيخ لذلك الفاعل السياسي الرئيسي، جاءت بلبوس قرآني مهيب وبصيغة دينية بليغة؟

هي باقة من التساؤلات تنتظر إجابات دامغة ليس من مختص أو خبير، ولكن من أرض الواقع من معسكر مختلف الفاعلين السياسيين

الملك يملك من الذكاء والكياسة والفطنة والرزانة ما لا يخطر على بال أحد، بحيث أنه في خطابيه السابقي الذكر، وكما في سابيقيها، يلجأ إلى أسلوب “وليتلطف” في حل المشاكل وإخماد نار الفتنة التي يعمل بعض المتربصين من الداخل والخارج إشعالها

ومن جهة قوة الربط والتماسك بين خطاببه من خلال الإحالة والمرجعبة حيث يكشف للجميع عن المآل المحتوم للجميع بالرسالة الباطنية الممكن استشرافها واستنباطها مما سبق هي كالتالي بأن هناك زلزلة قادمة يحاسب فيها

حتى على أبسط فعل (مثقال ذرة)، لكل من أكل من خيرات البلاد وهضم حقوق العباد، وهي نفس الرسالة التي يريد الملك بعثها بشكل مشفر إلى أعضاء الفاعل السياسي الرئيسي وغيره.

الملك هنا لا يدعو إلى إسقاط الغايات لتبرير الأفعال، وهنا تكمن نباهة الملك وقوة ذكائه وكياسته في الاختيار، ولكنه يدعونا جميعا إلى الحفر في السبب والنتيجة في عمق المتن الملكي من خلال التأمل في اختيار الآيات القرآنية الكريمة، الذي لم يأت اعتباطا أو مجانا.

فالبحث في العمق يؤدي بنا- شئنا أم أبينا- إلى ضرورة التفكير في وضع تلك الآيات في سياقها العام مع إمكانية التأويل والإسقاط لبلوغ ما لم يشأ جلالته الإفصاح عنه حتى لا تفقد خطاباته السامية سموها من حيث المعنى ومن حيث المبنى ومن حيث كونها متونا تخضع لمبدأ السهل الممتنع.

فتحليلنا لبنيات تلك الآيات من حيث سياقها العام في القرآن الكريم ومن حيث سياقها الخاص في السور التي تنتمي إليها، نجد ما يلي

الآيتان الثالثة والرابعة من سورة قريش تمثل السبب انطلاقا من بحثنا عن حكم حرف الفاء الذي تبتدئ به ” فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” وهي الفاء السببية، بمعنى أنه بسبب إيلاف قريش لرحلتي الشتاء والصيف والتي هي نعمة أنعم الله بها عليهم، عليهم بعبادة الله “

ومن حيث التأويل والإسقاط، فإن صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، يذكر الحكومة وجميع الفاعلين إلى ضرورة الحفاظ على أمن واستقرار هذا البلد الآمن الذي آواهم وأطعمهم ومكنهم من خيراته ويسر لهم سبل الثراء والمكانة والسلطة.

الآيتان السادسة والسابعة من سورة الزلزلة تمثل النتيجة انطلاقا من تحليلنا لحكم حرف الفاء الذي تبتدئ به ” فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره” وهي الفاء الفصيحة، جاءت هنا لتُوضح نتيجة ما قبلها، وتُفصح عما سُكِت عنه، لذلك سُمّيت “فصيحة” وتدل على النتيجة. (أي أنها تفصح عن شيء محذوف أو مسكوت عنه من طرف صاحب الجلالة لم يرد أن يفصح عنه، وكأن المتتبع لهذا الخطاب الملقى في البرلمان، يتساءل: وماذا لو أن هذه الحكومة وباقي الفاعلين امتنعوا أو رفضوا أو أبوا أن يكونوا في مستوى الثقة الموضوعة فيهم، وفي مستوى الأمانة الملقاة على عاتقهم، وما تتطلبه خدمة الوطن، من نزاهة والتزام ونكران ذات؟ فجاءه الجواب الدامغ من الملك من خلال استحضاره لكلام الله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)

ومن حيث التأويل والإسقاط، فإن جلالة الملك يحذر وينبه الحكومة وباقي الفاعلين إلى ضرورة أن يكونوا على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه هذا البلد وتجاه المواطنين، وأن يكونوا في مستوى الثقة الموضوعة فيهم، لأن الوطن مهما كان غفورا رحيما، فإن حسابه عسير حين تفعيله لمبدأ المحاسبة والمسؤولية.

في الختام يمكن القول، وتبعا لما سلف ذكره، فإن لجوء الملك إلى الاستشهاد بالقرآن الكريم في خطاباته نابع من كونه أميرا للمؤمنين ورئيسا للدولة، واعتبارا لرمزيته الجامعة التي تؤسس لتماسك مجتمعي تتجاوز به كل الفاعلين السياسيين وتفوق جميع التوجهات والمشارب، مما يُبرز بأن له فهماً عميقًا ومؤصلاً بامور الدين، وما يؤكد لنا بأن مزجه في الخطاب بين ما هو ديني إيماني وما هو سياسي توجيهي، هو دليل على مرجعيته الدينية باعتباره أميرا للمؤمنين والحريص المؤتمن الفعلي على الحفاظ على الدين والملة.

إن هذه القراءة ليست مجرد تحليل لغوي أو سياسي الخطابات جلالة الملك، لا هي محاولة لفهم عمقها الإنساني والروحي واستلهام بعدها القرآني في بناء الوعي الجماعي المغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى