قراءة في مسيرة الفنان عبد الرحمان الإدريسي من لايخافي: جمع بين الإبداع والتمثيل والإخراج، وبين الإدارة الفنية والتنظيمية

حين همَّ الفنان عبد الرحمن الإدريس من لايخافي باستعادة محطات مسيرته الفنية وعلاقته بعالم المسرح والمسرحيين، برزت أمام ذاكرته مرحلة مبكرة من حياته، شكلت المنبع الأول لعشقه للفن والفرجة، تعود به الذاكرة إلى زمن الطفولة، يوم لم يتجاوز بعدُ السادسة من عمره، وكانت أسرته تقيم في حي المقطع، وهو الحي الذي يشغل اليوم الموقع المحاذي للمحطة الطرقية بمدينة فاس، هناك بدأت أولى البذور التي ستنبت لاحقًا شخصية الفنان الذي سيعانق الخشبة بروحه المتقدة، كان عبد الرحمن، رفقة أخيه المرحوم محمد، يرتاد صباحًا الكتاب القرآني (المسيد) بسيدي بونافع في فاس الجديد، حيث يتعلم مبادئ القراءة وحفظ القرآن، قبل أن يعودا مع غروب الشمس في رحلة يومية محفوفة بمتعة الاكتشاف، غير أن ما كان يميز طريق العودة، ويمنحها سحرها الخاص، هو تلك الوقفة الطفولية الإلزامية أمام الحكواتي في ساحة باب المكينة، المعروفة أيضًا بــ”باب الساكمة”، حيث كان صدى الحكايات يتردد في الفضاء، وجد الطفل عبد الرحمن أول معالم الدهشة ومذاق الحكاية الشعبية الذي سيؤسس لاحقًا لحسّه المسرحي، في تلك الساحة الرحبة، كان يتابع برفقة أخيه عروض الحلايقية، صنّاع الفرجة الأوائل بفاس، الذين كانوا يبثّون في القلوب وهج المتعة ويغذّون الخيال الجمعي بالحكاية والمغامرة. وكان من بين هؤلاء الرواد عمي لحسن مؤنس (حربا)، وعيشة بطيط، وباروق العيار، ولقرع البوكسور، واسمه الحقيقي (إدريس اليتيم)، وغيرهم ممن أسهموا في حفظ الذاكرة الشعبية المغربية وإرساء دعائم فرجة الشارع قبل أن تتشكل ملامح المسرح الحديث، غدت تلك المشاهد الأولى من طفولته بمثابة الشرارة الأولى التي أيقظت في داخله حب الحكاية، وفتحت أمامه أفق الخيال والتمثّل الدرامي. لقد كانت تجربة باب المكينة، بكل ما فيها من حرارة الفرجة الشعبية وصدق الأداء التلقائي، المدرسة الأولى التي صاغت وجدانه الفني، ومهدت لرحلته الطويلة في خدمة المسرح المغربي، حاملًا في قلبه ذاكرة فاس وأصوات روادها الذين علموه أن المسرح حياة تُروى وتُعاش أمام الناسن أكثر منها خشبة في مسرح.

تُمثّل مرحلة المسرح المدرسي محطة أساسية في مسار عبد الرحمن الفني، إذ لم يمر عام واحد دون أن يكون من بين الفاعلين في الأنشطة الثقافية التي كانت تزخر بها المدرسة، خاصة في المناسبات الوطنية كاحتفالات عيد العرش يوم 3 مارس. وقد شكل عام 1972 منعطفًا مهمًا في تجربته، حين صعد لأول مرة خشبة مسرح سينما “أومبير” في سهرة فنية أدارها الفنان الكبير عبد الرؤوف (عبد الرحيم التونسي)، حيث شارك آنذاك ضمن لوحة فلكلورية سوسية قدّمتها المدرسة التي كان ينتسب إليها، ومنذ تلك اللحظة، توطدت علاقته بالمسرح وبالفعل الإبداعي الجماعي، فاستمر حضوره النشيط في مختلف الأنشطة الموازية داخل المؤسسة التعليمية، ومع انتقاله إلى المرحلة الإعدادية، اتسعت دائرة مشاركاته لتشمل التمثيل في عدد من المسرحيات والـ”اسكتشات” التي كان يشارك في تأليفها وتنظيمها رفقة نخبة من الأساتذة، في تجربة صقلت موهبته المبكرة، ورسّخت لديه وعيًا فنيًا قوامه العمل الجماعي، والإبداع المرتبط بالمؤسسة التربوية باعتبارها فضاءً للانفتاح والتكوين الفنين غير أن عام 1978 شكل محطة مفصلية في المسار الفني لعبد الرحمن، إذ شهد انخراطه الأول في إطار جمعوي ينتمي إلى نسيج المجتمع المدني، ويُعنى بالفنون عامة وبفن المسرح على وجه الخصوص، كان ذلك الانخراط ثمرة وعي متنامٍ بأهمية العمل الجماعي في تطوير الحس الإبداعي وتوسيع دائرة الفعل الثقافي، وفي العام الموالي، أسّس بمعية ثلة من الأصدقاء والصديقات فرعًا محليًا للجمعية بدار الشباب بن دباب، وكان من بين هؤلاء الفنان عبد العزيز حسيني، أحد الأسماء التي واصلت مسيرتها المسرحية بإخلاص وإبداع إلى اليوم، هذا المشروع الجمعوي الوليد شكّل بالنسبة لعبد الرحمن فضاءً للتعلم والتجريب والممارسة، ومختبرًا حقيقيًا لبناء الذات الفنية داخل إطار من الالتزام والتعاون.

وبعد فترة قصيرة، وتحديدًا عام 1980، كانت التجربة تتطور نحو مزيد من التنظيم والنضج، إذ أسس بمعية رفاقه جمعية جديدة حملت اسم “جمعية شباب المسيرة”، التي ضمّت نخبة متميزة من الشباب الغيور على الثقافة والفكر والإبداع، وقد تحوّلت هذه الجمعية إلى مدرسة قائمة الذات، ساهمت في الارتقاء بالتكوين الفكري والمعرفي والرياضي لأعضائها، وجعلت من العمل الجمعوي رافعة حقيقية لترسيخ قيم المواطنة والإبداع الفني المسؤول، تعاقبت على رئاسة الجمعية أسماء وازنة تركت بصماتها الواضحة في المشهد الثقافي المحلي، من بينهم الأستاذ محمد المولوع، والأستاذ عبد العزيز قريش رحمه الله، ثم الفنان المؤلف والمخرج محمد الإدريسي من لا يخافي رحمه الله، الذي شكّل حضوره داخل الجمعية منعطفًا نوعيًا في مسارها، فقد منحها زخمًا جديدًا بفضل رؤيته الفنية المتميزة، وإيمانه العميق بقدرة المسرح على التنوير والتغيير، وبفضله، تمكنت الجمعية من إنتاج أعمال مسرحية راقية شاركت بها في إقصائيات مسرح الهواة، مما أتاح لأعضائها فرصة الاحتكاك بالتجارب الوطنية وتطوير أدواتهم المسرحية في مجالات الإخراج، والتمثيل، والسينوغرافيا، ومن بين أبرز الأعمال التي شارك فيها عبد الرحمن كممثل، مسرحية “نداء فلسطين” و”مسرحية السلام”، وهما عملان جسّدا بوضوح التزام الجيل المسرحي آنذاك بقضايا الأمة، واستثماره للفن كمنصة للتعبير عن الوعي الجمعي والهمّ الإنساني، كانت تلك التجارب الغنية مدرسة في الحس الجمالي والفكري، إذ مكنت عبد الرحمن من فهم أعمق لوظيفة المسرح كأداة للتثقيف والتحسيس والتغيير الاجتماعي، وأسهمت في بلورة شخصيته الفنية التي ستتطور لاحقًا ضمن مسارات أكثر نضجًا واحترافًا، حيث مثّلت الفترة الممتدة بين 1978 و1980 مرحلة تأسيس حقيقية، لم تكن مجرد تجربة فنية عابرة، ولكنها  كانت مشروعًا ثقافيًا متكاملًا أرسى دعائم الوعي المسرحي في بيئة محلية كانت آنذاك في حاجة ماسة إلى مبادرات جادة تسهم في بناء مجتمع متذوق للفن ومؤمن برسالته التنويرية.

يُعدّ عام 1983 من الأعوام المفصلية في المسار الفني لعبد الرحمن، إذ شهد وقوفه إلى جانب كبار رواد المسرح الفاسي على خشبة العرض في ملحمة “المولى إدريس”، من إخراج الفنان محمد خشلة، كان هذا العمل الضخم بمثابة حدث فني استثنائي جمع خيرة المسرحيين بمدينة فاس، من بينهم الراحل حميد عمور، والدكتور يونس الوليدي، والمرحوم أحمد البوراشدي، والفنان محمد الشيكي، وغيرهم من الأسماء التي أسهمت في ترسيخ الهوية المسرحية الفاسية، وقد شكّلت هذه التجربة بالنسبة لعبد الرحمن لحظة نضج فني حقيقي، إذ مكنته من الاحتكاك المباشر بجيل من المبدعين الذين حملوا همّ المسرح المغربي وأرسوا أسسه الجمالية والفكرية، وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، قرر عبد الرحمن خوض تجربة جديدة خارج الوطن، فشدّ الرحال إلى بلجيكا لمتابعة دراسته، والانفتاح على تجارب فنية وأكاديمية مختلفة، هناك شارك في دورات تدريبية وورشات تكوينية أشرف عليها خبراء متخصصون في فنون الأداء وتقنيات المسرح الحديث، وقد أتاحت له هذه التجربة الاطلاع على أساليب جديدة في التكوين المسرحي، وعلى مفاهيم معاصرة في الإخراج والتعبير الجسدي، غير أن هذه المرحلة لم تدم طويلًا، إذ واجه عدداً من الإكراهات والعقبات التي حالت دون استمراره، فعاد إلى المغرب عام 1985، محمّلًا بتجربة وإن كانت قصيرة، إلا أنها أغنت رؤيته الفنية وأكسبته بعدًا تأمليًا أعمق، وفي العام ذاته، عاد عبد الرحمن إلى الركح عبر مشاركته في مسرحية “دور واعكل”، من تأليف وإخراج شقيقه المرحوم محمد الإدريسي من لا يخافي، حيث جسّد أحد الأدوار الرئيسة التي أبرزت نضجه الفني وتطوره في الأداء، كانت تلك العودة إلى الخشبة بمثابة استئناف لمسار لم ينقطع، بل تعمق واكتسب أبعادًا إنسانية وفكرية جديدة.

لاحقًا، قادته الظروف الحياتية إلى ليبيا، حيث اشتغل مساعدًا بيطريًا إلى غاية عام 1991، في تجربة مهنية بدت للوهلة الأولى بعيدة عن عالمه الإبداعي، لكنها سرعان ما تحولت إلى محطة تأملية عميقة في مساره الإنساني والفني، فبرغم ابتعاده القسري عن الخشبة والعمل الجمعوي والأنشطة الثقافية والفنية، لم تنطفئ جذوة المسرح في داخله، بل ظل وفيًا لروح الفن، مخلصًا لفكرته الجوهرية حول المسرح باعتباره أفقًا للحياة ومجالًا لتأمل الوجود الإنساني، وفي خضم انشغالاته اليومية، لم يتخل عبد الرحمن عن شغفه بالقراءة، فكان ينهل من المؤلفات المسرحية والنقدية التي تقع بين يديه، ويتابع باهتمام بالغ الحركات الثقافية والمسرحية الليبية، سواء عبر العروض المحلية أو المقالات النقدية التي كانت تنشرها الصحافة آنذاك، كانت تلك المتابعات بمثابة مختبر فكري أعاد من خلاله النظر في كثير من المفاهيم الفنية التي تَشَكَّلت لديه في مراحل سابقة، فاستخلص من التجارب الليبية دروسًا في البساطة والصدق والتجذر الاجتماعي للفعل المسرحي، وقد مثّلت تلك الأعوام نوعًا من الاستراحة التأملية، إذ أتاح له البعد الجغرافي عن فضائه المسرحي الأصلي فرصة نادرة للغوص في عمق الأسئلة الجوهرية للفن والوجود، هناك، في صمت الصحراء الليبية واتساع الأفق، ترسّخ لديه وعي جديد بالمسرح كفعل ثقافي يتجاوز حدود العرض إلى فضاء الفكر والمعرفة والإنسان، وكأداة للارتقاء بالوعي الجمعي وتحرير الروح من رتابة الواقع، لقد كانت تلك المرحلة، رغم بعدها عن الأضواء، زمن نضج داخلي عميق أسّس لعودة أكثر صفاءً وامتلاءً إلى الخشبة فيما بعد.

بعد عودته من ليبيا كانت عودته الفعلية إلى الساحة المسرحية عام 1993، عبر عملٍ ظل محفورًا في وجدانه لما له من رمزية فنية وإنسانية خاصة، وهو مسرحية “الاختيار بين الحركة والسكون”، من تأليف الدكتور فتاح أبطاني، وإخراج عبد العزيز حسيني، وإنتاج المرحوم عبد العزيز الساقوط، كان هذا العمل بمثابة محطة فاصلة في مساري الفني، إذ شكل لحظة استعادة للوهج المسرحي بعد فترة من الركود، وجاء محملًا بروح البحث والتجريب، ورغبة جماعية في تجديد التعبير المسرحي المغربي، في تلك المرحلة، كان شقيقه المرحوم محمد الإدريسي منشغلًا بإعادة هيكلة جمعية الجدار الرابع للمسرح، ساعيًا إلى إحياء دينامية مسرحية جديدة تستند إلى العمل الجماعي والانفتاح على تجارب المسرح الحديث، وكان أول عمل أشارك فيه باسم هذه الجمعية هو مسرحية “الفم المفتوح” من تأليف إدريس مقدار وإخراج محمد الإدريسي، وهو عمل جسّد بعمق هموم الإنسان المغربي وتناقضاته في مرحلة التحول الاجتماعي والثقافي، أعقب ذلك مشاركته في مسرحية “فاندو وليز”، المقتبسة من نص الكاتب الإسباني فرناندو أرابال، وإخراج محمد الإدريسي من لايخافي، غير أن هذا العمل، رغم ما اتسم به من جرأة فكرية وتجريب جمالي، لم يحظ بالاهتمام الإعلامي ولا بالدعم الترويجي المستحق، فطُمس في مهده، وبقي شاهدًا على هشاشة المنظومة الثقافية التي لم تكن تنصف التجارب الطليعية آنذاك، كانت تلك الفترة بمثابة مرحلة انتقالية في تاريخ المسرح المغربي، إذ بدأ المسرحيون ينتقلون تدريجيًا من طور الهواية إلى الاحتراف، سعيًا لتأسيس مشهد مسرحي مؤسساتي قادر على تأمين شروط العمل الفني المستقل، وفي هذا السياق، انخرط عدد كبير من الفنانين في النقابة الوطنية لمحترفي المسرح، على أمل أن تكون إطارًا ديمقراطيًا يضمن حقوقهم ويدافع عن مكانة المسرح في المجتمع، غير أن الواقع سرعان ما خيّب تلك الآمال، إذ تسللت إلى النقابة فئة من سماسرة الثقافة والفنون الذين حوّلوها إلى وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية، واحتكرتها زمرة من الانتهازيين والوصوليين الذين أفرغوا العمل النقابي من جوهره الفني والإنساني، بحسب تعبير الفنان عبد الرحمن، تغيرت المفاهيم والمعايير، فصار المسرح الجاد يُهمّش لصالح العروض السطحية التي تخدم أجندات الدعم والريع الثقافي، وأصبحت الفرق المتمركزة في الرباط والدار البيضاء هي المستفيدة الأكبر من ميزانيات الدعم، فيما ظلت الفرق الجهوية تكافح في صمت من أجل البقاء والإبداع، ليجد المسرح المغربي نفسه أمام مفترق طرق، بين طموح فني أصيل يسعى إلى الارتقاء بالذائقة الجمالية، وبين واقع إداري وثقافي متكلس لا يعترف إلا بالمحسوبية والولاءات، لقد كانت تجربة “الاختيار بين الحركة والسكون” وما تلاها من أعمال مع جمعية الجدار الرابع للمسرح، تعبيرًا صادقًا عن تلك المرحلة المتوترة بين الحلم والخيبة، وبين الإبداع الأصيل والسياقات المؤسسية المعاقة، لكنها رغم كل ذلك شكلت حجر الأساس لمسار فني ظل وفيًا لقيم المسرح الحرّ، وملتزمًا بالدفاع عن جمالياته ومعناه الإنساني العميق.

لم يكن عبد الرحمن يولي اهتمامًا كبيرًا للجانب المادي بقدر ما كان شغله الشاغل هو جودة العمل الفني وصدق التجربة المسرحية، كان يؤمن بأن القيمة الحقيقية للمسرح تكمن في التفاعل الإبداعي الجماعي وفي بناء فرق تجمع بين أفراد يشتركون في الرؤية والطموح ذاته، من هذا المنطلق، جاءت اندماج فرقة الجدار الرابع للمسرح مع فرقة هواة المسرح الوطني، في خطوةٍ عكست رغبة مشتركة في توحيد الجهود والارتقاء بالممارسة المسرحية نحو مستويات أكثر احترافًا ونضجًا، في هذا السياق، اشتغل عبد الرحمن إلى جانب الراحل محمد الكغاط في عمل مسرحي متميز حمل عنوان “المرتجلة الجديدة”، وقد قُدم العرض في نادي هيئة المحامين الشباب بمدينة فاس، ليشكل تجربة فنية فريدة، ولتكون في الوقت ذاته أول عمل يتقاضى عليه عبد الرحمن أجرًا نظير مشاركته المسرحية، مما منح التجربة بعدًا ماديًا ومعنويًا خاصًا، لاحقًا، تقدمت جمعية الجدار الرابع بملف لطلب دعم إنتاج مسرحية بعنوان “حكاية فلان فلان الفلاني فلتان”، لكن الملف قوبل بالرفض بحجة أن مؤلف ومخرج العمل، محمد الكغاط، كان عضوًا في لجنة الدعم المسرحي، وهو ما اعتُبر تضاربًا في المصالح، ورغم ذلك، لم تستسلم الجمعية، فقامت بإنتاج العمل من مواردها الذاتية، وقدّمته ضمن ملف دعم الجولات المسرحية، إلا أن الطلب رُفض مرة ثانية دون تقديم أي مبرر رسمي، وقد شكّل هذا الإقصاء مصدر ألم عميق للراحل محمد الكغاط، الذي ظل يحمل في قلبه حسرة على واقع الدعم المسرحي بالمغرب، لما شهده من تهميشٍ للطاقات الجادة وتغليبٍ لمنطق العلاقات على معايير الإبداع والكفاءة، كانت تلك الحادثة شاهدًا على مرحلة دقيقة من مسار المسرح المغربي، حيث ظل الإبداع يصطدم بجدار البيروقراطية والمحسوبية.

ورغم كل المثبطات استعادت جمعية الجدار الرابع للمسرح نشاطها الفني بإصرار لافت، معتمدة على إمكانياتها الذاتية المحدودة وإرادة أعضائها الصلبة في مواصلة الإبداع رغم الصعوبات، حيث قدمت عملين متميزين هما “برغوت ولكن” و”سلطانة”، وهما نتاجان جسّدا روح المقاومة الفنية والرغبة في إبقاء شعلة المسرح مشتعلة بعيدًا عن دعم المؤسسات الرسمية، وفي عام 2002، خاض عبد الرحمن تجربة فنية نوعية رفقة المخرج الراحل محمد أصميد، حيث جسّد ببراعة دور الأبكم في مسرحية “الأشباح يتمردون”، وهو دور تطلب منه حضورًا جسديًا طاغيًا وتعبيرًا داخليًا دقيقًا عوض اللغة المنطوقة، وقد أظهر عبد الرحمن في هذا العمل نضجًا أدائيًا واضحًا جعله يحظى بتقدير زملائه وجمهوره، تلا ذلك مشاركته في عمل آخر بعنوان “أساطير معاصرة”، من تأليف الراحل محمد الكغاط وإخراج حسن امراني، وقد أنجز ضمن نادي المرآة كعمل مدعوم لموسم 2003-2004 حمل هذا المشروع رؤية فكرية عميقة تمزج بين التراث والأسطورة والواقع الراهن، وأبرز تفاعل عبد الرحمن مع التجارب المسرحية الجادة التي تراهن على المعنى قبل الشكل، وفي العام الموالي، انضم عبد الرحمن إلى جمعية المسرح الضاحك بدعوة من الأستاذ والمخرج حميد تشيش للمشاركة في عمل استثنائي هو “تراجيديا السيف الخشبي”، من تأليف محمد مسكين، وقد قبل الدعوة دون تردد، رغم الظروف الصعبة التي كان يعيشها، إذ كان شقيقه الراحل قد اشتد عليه المرض في تلك الفترة، مما جعله عاجزًا عن مواصلة العمل المسرحي، ومع ذلك، ظل عبد الرحمن وفيًا لرسالته الفنية، متمسكًا بالمسرح كقيمة إنسانية وجمالية تتجاوز حدود المعاناة الشخصية، وتمنح للحياة معناها النبيل.

وفي هذا السياق يحكي عبد الرحمن أن شقيقه محمد اكتفى في سنواته الأخيرة بتأطير بعض المنخرطين في الجمعية، من خلال تنظيم ورشات تكوينية في فنون المسرح، ساعيًا إلى نقل خبرته للأجيال الصاعدة وترسيخ قيم الالتزام والإبداع الجماعي. غير أن الأقدار شاءت أن توافيه المنية سنة 2007، تاركًا وراءه إرثًا فنّيًا وإنسانيًا كبيرًا، ومسؤولية ثقيلة واصلتها يد العطاء والإخلاص، بعد وفاته، بادر عبد الرحمن إلى تجديد مكتب جمعية الجدار الرابع للمسرح، واضعًا نصب عينيه هدف الاستمرار في المسار الذي خطّه الراحل، رغم التحديات المادية والمؤسساتية. تقدمت الجمعية بطلب دعم رسمي من الجهات الوصية، إلا أن المساعي لم تُكلل بالنجاح، ما دفع الفريق إلى اتخاذ قرار جريء بالاعتماد على الذات ومواصلة العطاء بإمكاناتهم المتواضعة، وفي عام 2008، أنتجت الجمعية عملًا جديدًا بعنوان “سلطانة”، من تأليف المسرحي عبد المجيد سعدالله واخراج حميد الرضواني، ليكون خطوة فنية تؤكد قدرة الجمعية على النهوض مجددًا رغم قلة الموارد، أظهر أعضاء الفرقة روحًا عالية من الاجتهاد والانضباط، فكانوا جميعًا شركاء في بعث نفس جديد في جسد الجمعية وإعادة الثقة في قدرتها على العطاء المستقل، وقد نالت المسرحية لاحقًا دعم الجولات المسرحية، اعترافًا بجودتها الفنية وتماسك فريقها، الذي ضم مجموعة متجانسة من الفنانين الذين تكاملت أدوارهم وأبدعوا في الأداء، من بينهم عائشة زيدور، وعلوي إسماعلي حسن، والخمار المريني، وشامة لمراني، إلى جانب عبد الرحمن الإدريسي، الذي ظل رمزًا للتفاني والعمل في صمت، شكّل هذا العمل علامة مضيئة في مسار الجمعية، وفي مسار عبد الرحمن في تدبير شؤون الجمعية، ودليلًا على أن الإرادة الصادقة يمكن أن تصنع الفن حتى في غياب الإمكانات.

واصلت جمعية الجدار الرابع للمسرح مسيرتها الفنية بثبات وإصرار، مستندة إلى رؤية واضحة قوامها الإبداع والالتزام، ففي مرحلة جديدة من مسارها، اختارت الجمعية أن تستمر في إنتاج أعمال من تأليف الفنان عبد المجيد سعد الله، وقد حظيت هذه المرة بدعم من وزارة الثقافة، الأمر الذي منحها دفعة قوية نحو ترسيخ حضورها في الساحة المسرحية الوطنية، تولّى عبد الرحمن مهمة الإشراف العام على إنتاج المسرحيات وإنجازها، حيث أدار العمل بروح احترافية عالية، وبتفانٍ يعكس إيمانه العميق برسالة المسرح ودوره التنويري، توالت عروض الجمعية بأعمال متميزة هي “سوارت الرباح”، و”المرساوية”، و”الرواسي” من تأليف سعد الله عبد المجيد، ثم مسرحية “الواد الحار” من تأليف الفنان عادل بن كرينة، وقد أظهرت هذه الأعمال تنوعًا في المواضيع والأساليب، بين الاجتماعي والسياسي والرمزي، ما أكد نضج التجربة الجماعية واتساع أفقها الفني، ومع ذلك، لم تخلُ الطريق من العثرات، إذ تسللت بعض الخلافات الداخلية في الجمعية بسبب أطماعٍ شخصية ورغبات في السيطرة على مسار الجمعية، ما أدى إلى تفككٍ نسبي في صفوفها، غير أن هذه الأحداث لم تُثنِ عزيمة عبد الرحمن، بل زادته إصرارًا على الدفاع عن وحدة الجمعية وهويتها الأصيلة، وفي لحظة تجديد وعزيمة، أقدم عبد الرحمن على إخراج عمل مسرحي جديد هو “التبعبيعة”، من تأليف الراحل محمد الطيب لعلج، أحد رواد المسرح المغربي، وقد تميز هذا العمل بنجاح باهر، حيث شارك في عدة مهرجانات وملتقيات وطنية ودولية، نال خلالها إشادة النقاد والجمهور على حد سواء، وكان التتويج الأكبر في مهرجان مدينة فجيج الدولي، حيث فازت المسرحية بالجائزة الكبرى، كما نال الفنان جواد نخيلي جائزة أحسن دور رجالي، والفنانة لبنى المستور جائزة أحسن دور نسائي، إلى جانب مشاركة متميزة لكل من الراحل عبد النبي مصواب ويونس لخروف، وبهذا أثبتت الجمعية، بقيادة عبد الرحمن، أن العمل الصادق والمنظم قادر على تجاوز الصعاب، وأن الإبداع الحقيقي يظل دائمًا أقوى من الصراعات الصغيرة، يمكن القول إن هذه المرحلة من تاريخ الجمعية جسدت روح الإصرار والإبداع، حيث نجحت الفرقة في تحويل التحديات إلى فرص للنمو والتألق، محافظة على تماسكها الفني وروح الفريق، ومقدّمة نموذجاً حياً للعمل المسرحي المثابر، فقد أثبتت الجمعية من خلال هذه الأعمال أنها قادرة على إنتاج نصوص مسرحية غنية، تجمع بين العمق الفني وجودة الأداء، وتجعل من المسرح فضاءً للإبداع المستمر، رغم كل الصعاب والتحديات الداخلية والخارجية.

واصل الفنان عبد الرحمن رحلته في عالم المسرح بإصرار وحماسة، فأشرف على إخراج مسرحية “مرتجلة النص المسروق”، لتكون خطوة جديدة في مساره الإبداعي، لكنه لم يكتفِ بالخشبة التقليدية، فخاض تجربة مغايرة في فنون الشارع من خلال العمل المسرحي “الحلقة وشي حاجة”، الذي قُدم في ساحات متعددة في مدن مختلفة، مستحضراً روح الفنان المرحوم الحلايقي لحسن مؤنس، المعروف باسم “حربا”، ليعيد من خلاله التفاعل المباشر مع الجمهور، ويجعل المسرح فضاءً نابضاً بالحياة والمرح، وفي إطار رغبته في توسيع أفق التجربة المسرحية، أسند عبد الرحمن مهمة الإخراج للفنان محسن المهتدي، بالتعاون مع جمعية “أصدقاء المدينة” التي كان يتراسها حميد مسري، هذا التعاون سمح بإنتاج عروض جديدة تميزت بالإبداع والتجريب، منها “تاشياخت” تأليف عمر فلكي، و”البس قدك يواتيك” للمرحوم محمد فرح العوان، كما شارك عبد الرحمن في التشخيص نفسه، إلى جانب فريق من الفنانين الموهوبين، بينهم محمد عزام (بهلول) وفتاح الغرباوي وإلهام بدري وسلمى الراجي، ما أضفى على العروض انسجاماً وتجانساً بين الإخراج والأداء، وعمق تجربة المشاهدة لدى الجمهور، ومن بين هذه الأعمال، برزت مسرحية “اليانصيب” للمرحوم أحمد الطيب العلج، التي شكلت نموذجاً متكاملاً للإبداع المسرحي، حيث جمعت بين النص المتميز والأداء الراقي والإخراج المدروس، مؤكدة قدرة الجمعية على تقديم عروض ذات مستوى فني رفيع. وقد جاء كل هذا الإنتاج بدعم من وزارة الثقافة، التي وفرت الإمكانيات اللازمة لإخراج الأعمال بالشكل الذي يليق بالمستوى الفني للمجموعة.

غير أن عام 2020 وضع مسار الجمعية أمام تحدٍ غير مسبوق، فقد فرضت جائحة كورونا توقفاً إجبارياً على كل الأنشطة المسرحية، مما أدى إلى شلل مؤقت في قطاع المسرح وأجبر الفرق الفنية على إعادة ترتيب أولوياتها، ومع ذلك، تركت هذه المرحلة بصمة واضحة في تاريخ الجمعية، إذ جسدت روح الإبداع والتجربة والتجديد، وبيّنت قدرة المسرح على التنوع بين فنون الشارع والعروض النصية، مع الحفاظ على تماسك الفريق الفني، واستثمار الشراكات المؤسسية، وقد أصبحت هذه الأعمال شهادة على المثابرة والمرونة، ودليلاً على أن المسرح، مهما واجه من صعوبات، يظل فضاءً نابضاً بالحياة، قادرًا على التجدد والارتقاء بالإبداع، يمكن القول إن هذه المرحلة من العمل المسرحي لعبد الرحمن شهدت مزيجاً من التجارب المسرحية المختلفة، بين فنون الشارع والعروض النصية التقليدية، مع الحرص على إشراك فنانين موهوبين واستثمار الشراكات المؤسسية، مما جعل من هذه الأعمال نموذجاً للإبداع والمرونة الفنية في مواجهة التحديات، ومؤشراً على قدرة المسرح على التجدد واستعادة حيويته حتى في أصعب الظروف.

لقد كانت آخر تجربة لعبد الرحمن عام 2025 في مجال الفنون الدرامية مع المخرج والفنان أمين نسور من خلال العمل الملحمي “نوستالجيا” بباب المكينة بفاس، والتي اعتُبرت محطة رائدة في مسيرته الفنية، مثل هذا العمل جسد طموحاً كبيراً في تقديم مشروع مسرحي متكامل، جمع بين الإبداع الفني والبعد الملحمي في النص والإخراج، ليشكل تجربة متميزة على مستوى الأداء والتصميم الفني، وقد أتاحت هذه التجربة لعبد الرحمن الفرصة للتفاعل مع فريق عمل محترف، ما أسهم في صقل مهاراته وتعزيز خبرته في الفنون الدرامية المعاصرة، ومع ذلك، يصر عبد الرحمن بحسه الفني والجمعوي، على أنه لا يمكن الحديث عن هذه الإنجازات دون الإشارة إلى الواقع المسرحي في مدينة فاس، الذي يشهد ركوداً ملحوظاً نتيجة افتقار المدينة إلى قاعات عرض مسرحية مجهزة بمواصفات احترافية، فقد ظل المركب الثقافي الحرية الذي كان بصيص أمل لكل المنشغلين بالحقل الثقافي والفني، مركزاً رئيسياً للأنشطة المسرحية، وهو اليوم في طور الصيانة منذ عام 2019، ولم يكتمل حتى الآن، مما أثر على قدرة الفرق المسرحية على تقديم عروضها بالشكل الذي يليق بمستوى الفنانين والجمهور على حد سواء، هذا الوضع جعل من مشاريع مثل “نوستالجيا” إنجازاً بارزاً، إذ قدمت نموذجاً للعمل المسرحي الراقي في ظروف غير مثالية، ويبقى في نفسية الفنان عبد الرحمن شيء من حتى، وهو يراقب تطور المدن والقرى المغربية على مستوى البنيات المسرحية والثقافية، وفاس التي أحب تعيش اهمالا منقطع النظير، إذ كيف يعقل، يتساءل عبد الرحمن، أن تكون مدينة فاس بحمولاتها التاريخية والحضارية والأدبية والمؤسسة في كل أمر، أن لا تحتضن مسرحا يليق بها وبطموحات ابنائها الذين يواجهون غبنا عميقا، ويسافرون إلى مدن أخر لاستقبال العروض أو عرض أعمالهم فيها.

إلى جانب عمله المسرحي، شارك عبد الرحمن كممثل في عدة أعمال سينمائية وتلفزيونية، ما أتاح له فرصة التنقل بين وسائط الإبداع المختلفة وصقل قدراته الفنية أمام الكاميرا، إلى جانب المسرح. كما كان له حضور بارز في المهرجانات الوطنية والدولية، حيث قدم تجاربه الفنية أمام جمهور متنوع، ونقل تجربة المسرح المغربي إلى فضاءات أوسع، ما ساهم في تعزيز مكانته كفنان متعدد المواهب ومطلع على مختلف أشكال التعبير الفني، لم يقتصر دور عبد الرحمن على الإبداع الفني فقط، بل امتد إلى العمل الإداري والتنظيمي، فقد شغل منصب المدير الفني لمهرجان “الجدار الرابع” للمسرح في ست دورات، حيث أشرف على التخطيط وتنظيم الفعاليات والعروض المسرحية، كما تولى المنصب المالي في عدة دورات للمهرجان الدولي الذي تنظمه النقابة الوطنية للمسرح بفاس، ما عكس قدراته على الجمع بين الجانب الفني والإداري بكفاءة عالية، وضمان سير الفعاليات بشكل منظم واحترافي.

يمكن القول إن هذه المرحلة الأخيرة من مسيرة عبد الرحمن الفنية تمثل نموذجاً شاملاً للفنان المسرحي المعاصر، الذي يجمع بين الإبداع والتمثيل والإخراج، وبين الإدارة الفنية والتنظيمية، في ظل تحديات حقيقية على صعيد البنية التحتية المسرحية، وقد أثبتت هذه التجربة أنه رغم الركود المحلي والصعوبات الميدانية، يمكن للإصرار والاحتراف أن يحققا إنتاجاً فنياً ذا جودة عالية، قادر على الوصول إلى جمهور واسع والمساهمة في تطوير المشهد المسرحي الوطني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى