مسار ملف الصحراء عبر 50 عاما وصولا إلى مبدأ الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية

في سياق النزاعات الإقليمية التي شهدها العالم المعاصر، تظل قضية الصحراء واحدة من أطولها وأكثرها تعقيدًا من حيث تداخل الأبعاد التاريخية والسياسية والقانونية. فمنذ اندلاعها في سبعينيات القرن الماضي، وهي تشكل محورًا دائمًا في أجندة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بين محاولات لإيجاد تسوية نهائية تحفظ الأمن الإقليمي وتراعي في الآن ذاته مبادئ السيادة ووحدة التراب الوطني. لقد انطلق المسار الأممي لتسوية هذا النزاع من منطلق مبدئي قائم على مفهوم تقرير المصير، وهو مبدأ كان يُفترض تطبيقه عبر استفتاء مباشر يتيح لسكان الأقاليم الجنوبية التعبير عن إرادتهم بحرية. غير أن مرور السنوات أثبت أن هذا الخيار يصطدم بعقبات موضوعية ومنهجية متعددة، أهمها صعوبة تحديد من يحق لهم التصويت أصلًا، فضلًا عن التجاذبات السياسية والإقليمية التي جعلت الاستفتاء أداة للصراع بدل أن يكون وسيلة للحل.

بعد تسع سنوات من المراوحة الأممية بين القرارات والمبعوثين واللجان التقنية، بدأ المجتمع الدولي يدرك تدريجيًا استحالة تنظيم الاستفتاء بشروط نزيهة وواقعية. عند هذه النقطة، دخلت القضية منعطفًا جديدًا تميز بظهور مقترحات بديلة تروم الخروج من المأزق القانوني والسياسي الذي فرضه التعثر الأممي. فكان أول هذه المقترحات ما عُرف بـ “الاتفاق الإطار”، وهو تصور حاول التوفيق بين مطلب السيادة المغربية وطموح جبهة البوليساريو في نوع من الإدارة الذاتية الموسعة. إلا أن غياب التوافق حول تفاصيل هذا المقترح جعله بدوره يواجه طريقًا مسدودًا. لم يتوقف المسار عند هذا الحد، إذ عُرض في مرحلة لاحقة مقترح آخر أكثر جرأة، هو مقترح التقسيم، الذي سعى إلى إعادة ترسيم الحدود بين المغرب والكيان الذي تطالب به البوليساريو. لكن هذا الطرح سرعان ما سقط لكونه يتعارض مع المبادئ التي تقوم عليها وحدة الدول وسيادتها، كما أنه أثار رفضًا قاطعًا من المغرب ومن أطراف عديدة داخل المجتمع الدولي، لما يحمله من تهديد للاستقرار في شمال إفريقيا.

أمام هذا الانسداد، جاءت مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب عام 2007 لتشكل منعطفًا حاسمًا في مسار النزاع. فقد اعتمدت هذه المبادرة رؤية واقعية متقدمة، تمنح لسكان الأقاليم الجنوبية صلاحيات واسعة في إدارة شؤونهم المحلية ضمن إطار السيادة المغربية الكاملة. وقد لقيت هذه المبادرة منذ طرحها ترحيبًا واسعًا من قبل القوى الكبرى ومجلس الأمن، الذي اعتبرها جديّة وذات مصداقية. ومنذ ذلك الحين، شرع مجلس الأمن في تبني نهج جديد يقوم على دعم المسار السياسي القائم على الواقعية وروح التوافق، بدل الإصرار على مقاربات ثبت فشلها. فكل القرارات الأممية الصادرة منذ عام 2007 أخذت تميل تدريجيًا نحو تثبيت مقترح الحكم الذاتي كأساس مرجعي للحل النهائي، مع التأكيد على أهمية الحوار المباشر بين الأطراف تحت إشراف الأمم المتحدة.

وقد توّج هذا المسار المتدرج بصدور القرار التاريخي لمجلس الأمن في أكتوبر 2025، الذي مثّل لحظة فارقة في مسار النزاع. إذ نصّ القرار بوضوح على أن الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطار الوحيد الممكن للمفاوضات المستقبلية، مؤكدًا أن الحل الواقعي والعملي يكمن في إطار احترام وحدة التراب المغربي. بهذا القرار، تكون الأمم المتحدة قد وضعت حدًا لمرحلة طويلة من الضبابية والتأجيل، وأرست معالم مقاربة جديدة تتماهى مع التحولات الإقليمية والدولية. إن تبنّي مجلس الأمن لهذا التوجه يعكس تحولًا عميقًا في إدراك المجتمع الدولي لطبيعة النزاع وأبعاده الحقيقية. فالمسألة لم تعد تُرى من منظور “تصفية استعمار” كما كان يُروَّج في العقود الأولى، بل أصبحت تُفهم اليوم كقضية استكمال لوحدة وطنية ضمن سيادة معترف بها دوليًا. كما أن فشل الأطروحة الانفصالية في بناء شرعية سياسية أو مؤسساتية واقعية، إلى جانب التدهور الإنساني في مخيمات تندوف، جعل المجتمع الدولي يميل إلى مقاربة براغماتية تحفظ الاستقرار وتخدم التنمية.

يمكن القول إن قرار أكتوبر 2025 لم يكن وليد لحظة عابرة، بل جاء تتويجًا لمسار طويل من التراكمات السياسية والدبلوماسية المغربية، التي اعتمدت الحنكة والتدرج والواقعية في الدفاع عن قضية الصحراء. فقد استطاع المغرب أن يُقنع المجتمع الدولي بأن الحكم الذاتي ليس تنازلًا بل حلًّا حضاريًا متوازنًا يجمع بين الانتماء الوطني والخصوصية المحلية، ويؤسس لنموذج ديمقراطي متقدّم في المنطقة. إن هذا التحول في الموقف الأممي يعيد رسم ملامح المرحلة المقبلة، حيث يُنتظر أن تُفتح صفحة جديدة من التسوية المستدامة تقوم على التنمية والتعاون الإقليمي، بدل الصراع والتجاذب. لقد أثبتت التجربة أن منطق الانفصال والتصعيد لم يعد يجد صدًى في النظام الدولي الراهن، وأن الواقعية السياسية المغربية أصبحت اليوم مرجعية ملهمة لعدد من التجارب في إفريقيا والعالم العربي، إن القضية التي طال أمدها أضحت اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى حل نهائي عادل، يقوم على مبدأ الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية، وهو الحل الذي ينسجم مع الشرعية الدولية ومع متطلبات الأمن والاستقرار في المنطقة المغاربية برمتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى