قراءة في مسيرة الفنان التشكيلي وسام يوسفي: من شغف الرسم والتشكيل إلى شغف الابتكار وإعادة التدوير

وُلد الفنان التشكيلي وسام يوسفي عام 1978 بمدينة صفرو، المدينة التي تنساب بين جبال الأطلس المتوسط مثل قصيدةٍ من ماء وحجر، حيث تتجاور الحكاية مع الجغرافيا، ويصير الضوء جزءًا من النسيج اليومي، لتشكل نقطة انطلاقٍ هوية بصرية متفردة، يمكن قراءتها في ضوء العلاقة العضوية بين المكان والوجدان، فصفرو، المدينة المتكئة على سفوح الأطلس المتوسط، ليست مجرد فضاء جغرافي، ولكنه نسيج رمزي تتداخل فيه طبقات الضوء والذاكرة والتاريخ، في هذا السياق، يبدو أن نشأة الفنان في بيئةٍ تتنفس الشعر والحكاية والتاريخ كان لها أثر حاسم في بناء وعيه الجمالي المبكر، فصفرو، تمثل فضاءً يتجاور فيه الصلابة بالسيولة، مما يُنتج نسقًا بصريًا يغذي العين ويدربها على التقاط العلاقات الدقيقة بين الضوء والظل، بين الانسياب والتكوّن نشأ يوسفي في حي سيتي مسعودة المحاذي لأسوار المدينة القديمة، وهو حيٌّ يختزن ذاكرة جماعية غنية بالإيقاع اليومي والتفاعل الاجتماعي، حيث تختلط أصوات الباعة بنداءات النساء وضجيج الأسواق ومرح الأطفال، هذا التعدد الصوتي والبصري خلق في وعي الطفل شبكة من العلامات التي ستتحول لاحقًا إلى مكوّنات جوهرية في لغته التشكيلية. إنّ الحي الشعبي، بما يحتويه من فوضى منظّمة وتجاور غير متكافئ للعناصر، يقدّم للفنان الناشئ درسًا مبكرًا في فهم جماليات التناقض؛ فالجمال هنا لا ينبع من الانسجام المسبق، وإنما من القدرة على اكتشاف الإيقاع الكامن في الفوضى، في المقابل، جاء انتقال الأسرة إلى حيٍّ جديدٍ أكثر هدوءًا كتحوّلٍ حادٍّ في التجربة الإدراكية للطفل، هذا الصمت الذي أحاط بالمكان الجديد سيتحول إلى تجربة وجودية أحدثت شرخًا في إحساسه بالعالم، أمام هذا الفراغ المكاني، بدأ يتكوّن داخله وعيٌ جماليٌّ جديد يقوم على الحاجة إلى ملء الصمت بالصور، حيث  سيظهر الفن عند وسام ليس ترفًا أو هواية، ولكنه استجابةً نفسية ومعرفية لمحاولة استعادة التوازن المفقود بين الداخل والخارج، لقد تحوّل الخيال إلى آلية دفاعٍ وإعادة بناءٍ في آن، ومن خلاله بدأ يوسفي يرسم أولى خرائطه نحو الذات، يمكن القول إنّ هذا التحوّل من المكان الصاخب إلى المكان الصامت أطلق في داخله دينامية التحويل الجمالي، أي الانتقال من إدراك العالم في بعده الواقعي إلى إعادة صياغته في بعدٍ تخييلي بصري، فالفراغ الذي أحسّه لم يكن فراغًا ماديًا بقدر ما كان مساحةً خصبة لتوليد المعنى. ومن هنا نشأ الميل الخفي نحو بناء عوالم بديلة تتنفس من خلال اللون والخط، وتجد في اللوحة امتدادًا للذاكرة الأولى التي كانت تصغي إلى ضجيج صفرو وتعيد ترجمته بصريًا.

في ضوء ذلك، يمكن اعتبار الطفولة الأولى للفنان وسام يوسفي مختبرًا لتكوّن الرؤية التشكيلية التي سترافقه لاحقًا. لقد انبثق وعيه الجمالي من تجربة عيشٍ حسّية متناقضة بين الامتلاء والفراغ، وبين الجماعة والعزلة، وهو تناقض سيتحول إلى بنية دلالية في أعماله المستقبلية، حيث تحضر العلاقة بين الضوء والظل، الحركة والسكون، كاستعارةٍ بصريةٍ لرحلته الداخلية بين الذاكرة والخيال، إنّ تأمل هذه المرحلة من حياة يوسفي يكشف أن الفن لم يكن خيارًا واعيًا في بداياته فقط، بل أصبح ضرورةً وجدانية، استجابةً لقلقٍ مكاني ووجودي صاغ رؤيته للعالم، بذلك، يتجلى الفن في تجربته الأولى كفعل مقاومةٍ للصمت، وكبحثٍ عن صوتٍ شخصي داخل ضجيج العالم وخارجه، في هذه مرحلة الطفولة المبكرة، وتحديدًا في سنّ السادسة، بدأت الملامح الأولى للوعي الجمالي لدى وسام يوسفي تتكوّن في فضاءٍ منزلي بسيط، قوامه دفء الأمّ وحنانها الفطري، كانت والدته، دون قصدٍ نظريٍّ أو معرفة مسبقة بأسس التربية الفنية، تمارس نوعًا من التربية الجمالية العفوية، إذ أحاطت عالم الطفل برسوماتٍ تعليميةٍ تزيّن جدران غرفته الصغيرة، تجمع بين الأشكال الملوّنة والحروف والأرقام، هذه المبادرة الأمومية لم تكن مجرّد فعلٍ تزييني، بل لحظة تأسيسٍ لوعيٍ بصريٍّ جديد، حيث تحوّلت الجدران إلى سطحٍ تشكيليٍّ أول يطلّ منه الطفل على إمكانات الصورة، ويدرك عبرها أن اللون قادر على خلق معنى، وأن الخط يمكن أن يتحوّل إلى لغة، كانت تلك الرسومات، رغم بساطتها، بمثابة بوابةٍ رمزية إلى عالمٍ يتجاوز محدودية الواقع، عالمٍ تتعانق فيه الأشكال مع الحلم، من خلالها، بدأ وسام يدرك أن الصورة ليست انعكاسًا لما يُرى، بل بناءٌ لعالمٍ موازٍ تسكنه الذات في لحظات العزلة. في تلك اللحظات الأولى من التأمل الطفولي، تكوّن ما يمكن تسميته بالوعي الحسيّ بالتشكيل، إذ صار اللون بالنسبة إليه أكثر من مادةٍ بصرية وتجربة شعورية تربط الداخل بالخارج، وتحوّل الصمت إلى فضاءٍ للنطق عبر الأثر، في هذا السياق، يمكن النظر إلى فعل الأمّ كمنطلقٍ للنسق البصري الذي سيتبلور لاحقًا في أعماله، فالعلاقة الأولى بين وسام والجدار لم تكن علاقة نظرٍ سلبي، وإنما علاقة تفاعلٍ وتلقٍ واستبطان، رسّخت في ذاكرته أن الجمال ممكن في البساطة، وأن التعبير يمكن أن يُولد من أكثر المواد تواضعًا. هكذا، تشكّلت أولى علاقة حوارٍ بين الشكل والإحساس، ليصبح الفن منذ تلك اللحظة وسيلةً للتواصل مع الذات والعالم، ومتنفّسًا داخليًا لاكتشاف المعنى في التفاصيل الصامتة، لقد كانت تلك الجدران المزيّنة بداية رحلةٍ طويلة نحو بناء رؤيةٍ تشكيليةٍ تؤمن بأن الصورة ليست زينةً، بل فعل وجودٍ ومقاومةٍ للصمت.

في مدرسة سيدي أحمد التادلي بمدينة صفرو، بدأت ملامح الوعي الجمالي لدى وسام يوسفي تأخذ شكلها الأول، حيث تداخل التعلم المعرفي بالتجربة الحسية في بنية واحدة منفتحة على الاكتشاف. في تلك المرحلة، لم يكن إدراكه للفن محصورًا في التلقّي المدرسي أو في محاكاة النماذج الجاهزة، وإنما في محاولة دؤوبة لفهم العالم من خلال الصورة، وللإنصات إلى ما تقوله الأشكال قبل أن تنطق الألوان. كان الطفل الهادئ في مظهره الخارجي يخفي في داخله عالماً نابضاً بالحركة، تتقاطع فيه الصور والأصوات والخيالات في نسقٍ داخلي يعكس طاقته على التأمل والاستبطان. لقد كانت تلك السكينة الظاهرة غطاءً لفيضٍ تخييليٍّ يفيض بالرموز والأسئلة التي تبحث عن منفذ للتعبير، وعندما التحق بـإعدادية وادي الذهب بصفرو، وجد في مادة التربية التشكيلية الفضاء الأمثل لترجمة هذا العالم الداخلي إلى لغة ملموسة، اكتشف أن ما كان يمارسه في طفولته بعفوية يمكن أن يتخذ شكلًا منظمًا له قوانينه وقواعده الخاصة، وأن الرسم ليس مجرد تسلية، بل نظامٌ تعبيريٌّ يقوم على الوعي بالخطّ والظلّ والملمس، وعلى تحويل الإحساس إلى أثرٍ بصريٍّ يستدعي المشاركة والتأمل، كان الدرس الفني بالنسبة إليه تمرينًا على الإصغاء إلى الذات من خلال اللون، وتجربةً في إعادة صياغة الواقع لا تكراره، تحت تأثير تلك التجربة، بدأ وسام يتعامل مع اللوحة بوصفها كائناً حيًّا له ذاكرته الخاصة وطاقته الانفعالية، كأنها مرآة تستقبل ما يعتمل في داخله ثم تعيده إليه في صورةٍ جديدة. أصبحت الألوان لغةً للحوار، والخطوط مسارًا للتفكير، والظلّ مساحةً للتعبير عن ما لا يُقال بالكلمات، في تلك السنوات، أخذت العلاقة بينه وبين الفن شكل الوعي بالجوهر الإنساني للتجربة التشكيلية، فالفن بالنسبة إليه لم يعد محاكاة للعالم الخارجي، وإنما بحثٌ في الأعماق، واستكشافٌ لما تخفيه النظرة العابرة من تفاصيل وذبذبات حسية، كانت هذه المرحلة بمثابة تأسيسٍ مبكرٍ لنسقه البصري، حيث تزاوج الفكر بالحسّ، والعلم بالتجربة، والخيال بالانضباط الجمالي، لتتشكل من خلالها أولى ملامح مشروعه الفني المستقبلي.

من المواقف الطريفة التي ما زالت عالقة في ذاكرة وسام يوسفي منذ مرحلة الإعدادي، تلك الحادثة التي جمعت بين الفخر والمفارقة في آنٍ واحد، فقد شاركتُ آنذاك في مسابقة للرسم نُظمت على مستوى المؤسسة، وكان التحدي كبيرًا بين مجموعة من التلاميذ الموهوبين، بذلت جهدًا كبيرًا في إنجاز عمله، وسهر على ضبط الألوان والبحث عن التوازن بين الفكرة والتعبير الجمالي، وبهذا نال في النهاية الجائزة الأولى، كانت فرحته لا توصف، وشعور الفوز جعلنه يترقب لحظة تسليم الجائزة بفارغ الصبر، غير أن المفاجأة كانت في نوع الجائزة نفسها، إذ حين نودي على اسم “وسام” وصعد إلى المنصة، قدّموا له هدية ملفوفة بعناية، وما إن فتحتها حتى اكتشفت أنها قطعة قماش نسائية أنيقة، وكأنها هدية خصّت فتاة، عمّ المكان همس وضحكات مكتومة، وسرعان ما أدرك المنظمون أنهم وقعوا في لبس بسبب اسم الذي اعتقدوا أنه أنثويّ، لم يتمالك نفسه من الضحك، رغم إحساسه بخيبة أمل خفيفة، خصوصًا حين علم أن جائزة المرتبة الثانية كانت بيانو صغيرًا، والثالثة جهاز “ووكمان” أنيق، وهما جائزتان تمنى وسام لو كانتا من نصيبه، ظل ذلك الموقف محفورًا في ذاكرته، لا لغرابته فحسب، بل لأنه كشف له مبكرًا عن طرافة الالتباس بين الأسماء والهويات، وعن كيف يمكن للحظة انتصار أن تنقلب إلى طرفة تُروى بابتسامة كلما استُعيدت.

كان وسام منذ البداية مشدودًا إلى فكرة تحويل الأشياء البسيطة إلى رموز تحمل معنى أعمق من مادتها، لذلك حين وجد بين يديّ ذلك الثوب الذي لم يجد له استعمالًا واضحًا، أصر على أن يجعل له حياة أخرى تختلف عن التي صنع من أجلها، ومنحه وظيفة تليق بجماله، فكان أن جعل منه غلافًا لوسادته، ربما بدا ذلك تفصيلًا عابرًا، لكنه في جوهره كان فعلًا رمزيًا يُجسّد نظرته إلى الفن، أن يمنح المادة روحًا جديدة، وأن يحول المألوف إلى فضاء للتعبير والجمال، وحين قرر أن يسلك درب الفنون التشكيلية، لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، فرغم مساندة الأم له اصطدم في بداياته بعاصفة من الاعتراضات، خاصة من والدي الذي كان يرى في الرسم مجرّد هواية لا تُطعم خبزًا، ولا تؤمّن مستقبلًا، وكان رغبة الأب أن يلج وسام عالما يؤهله للحصول على وظيفة، كانت رؤيته واقعية من زاوية الحياة، لكنها ضيقة من زاوية الروح، لم يكن يدرك أن في كل خطٍّ يرسمه وسام هو نبض داخلي لا يمكن كبته، وأن الفن بالنسبة إليه لم يكن ترفًا بل ضرورة وجودية، ومع مرور الأيام، حين لمس الوالد صمت ابنه، واصراره الهادئ، بدأ يلين، وشيئًا فشيئًا آمن بأن ما يفعله مسار حياة، وأن الإبداع، وإن بدا طريقًا وعرًا، قد يكون أصدق السبل نحو النور، كانت أولى محطاته المهنية كأستاذ للتربية التشكيلية في منطقة جبلية نائية تابعة لدائرة غفساي بإقليم تاونات، وبالضبط في قرية تافرانت، تلك القرية التي يحتضنها سد الوحدة كذراعين من ماء، يجعل منها شبه جزيرة منعزلة في حضن الطبيعة، كانت القرية محدودة العمران، تغمرها العزلة، وتلفها سكينة ثقيلة لا يقطعها سوى صدى الطيور وخرير الماء، هناك واجه وسام أول امتحانٍ للحياة العملية، لم يجد منزلًا يأويه، ولم يكن أمامه سوى اصطبل للبهائم، حوّله على مضض إلى مسكن مؤقتٍ له، قضى فيه لياليّ بين البرد والرطوبة والحراة، يستيقظ على صياح الديكة، ويغفو على نقيق الضفادع القادمة من السد القريب، أسبوعان من الوحدة والتأمل والبرد، قبل أن تمتد إليه يد العون من أحد أعيان المنطقة الذي تدخّل لدى مؤذن مسجد القرية، واسمه بوشتى الذي منحه غرفة صغيرة داخل بيته المتواضع، وجدت وسام في هذه الغرفة الصغير، عالما كبير بالمقارنة مع الاصطبل، الدفء الإنساني الذي لا تعوّضه جدران فخمة ولا فراش وثير، بقي بوشتى في ذاكرة وسام رمزًا للكرم القروي الأصيلَ بابتسامته الصافية وكرم روحه الطيبة المعطاء.

في القسم، كانت مادة التربية التشكيلية حديثة العهد بالمنطقة، تُدرّس على سبيل الاستئناس لا التقييم، ولعلّ في ذلك خيرًا كثيرًا؛ إذ أقبل التلاميذ على حصص الأستاذ الوافد الجديد وسام يوسفي بشغف طفولي، يرسمون بحرية لا يعكّرها هاجس النقطة ولا رهبة الامتحان، كانت وسام يحول الحصص إلى ورشات صغيرة يتجاور فيها التعبير والفرح، وتنبض فيها الألوان بما لم تستطع الكلمات أن تقوله، حينها أدرك وسام أن الفن يُعلّم دون أن يفرض، ويُربي دون أن يعاقب، ويغرس في النفس حبّ الجمال قبل أن يُلقّن التقنية، علّمتنه تلك التجربة أن الجمال لا يحتاج إلى مدينة كي يولد، ولا لمجال حضري، ولكن يمكن أن يزهر في أكثر الأماكن قسوةً وعزلة، بين الجبال والجفاف وقسوة الطبيعة، ومع انقضاء عامٍ كاملٍ في تافرانت، انتقلت إلى قرية مولاي بوشتى الخمار، ليبدأ فصلًا جديدًا من مسيرته، ثم إلى مدينة تيسة، حيث قضى عامين  غامرين بالعلاقات الإنسانية والتجارب التربوية التي صقلت شخصيته، وبعدها كانت محطة عين الشفاء بجهة فاس – صفرو، حيث أمضى ستة أعوام مثمرة من العطاء والنضج المهني، تعلّم خلالها أن التعليم تربية للذوق وإيقاظ للحسّ الإنساني، وفرصة لتربية الذائقة وتشذيب العقول والنفوس، وشاءت الأقدار أن يعود إلى مدينة صفرو، مسقط الرأس ومأوى الذاكرة، بعد رحلة طويلة بين الجبال والقرى والمدن، كانت رحلةً شكّلته بقدر ما شكّلت لوحاتي وتجاربه في الحياة والغربة، وأيقن من خلالها أن طريق المعلم هو طريق الحياة ذاته؛ كل محطة فيه درس، وكل تلميذ صفحة بيضاء يمكن أن ترسم فيها بعضا من الأمل والعلم والفن والتربية على قيم المواطنة،، وكل تجربة لون جديد يضاف إلى لوحة العمر.

شكّل انتقال الفنان وسام يوسفي إلى ثانوية ابن الهيثم التطبيقية بمدينة فاس(طريق مكناس) خلال الموسم الدراسي 1995/1996 لحظة مفصلية في مسار تشكّله الفني والإنساني، لم يكن هذا الانتقال مجرد انتقالٍ جغرافي أو دراسي، ولكنه كان عبورًا رمزيًا من فضاء التلقّي الغريزي للفن إلى فضاء الوعي الجمالي المنظّم، ومن التجربة الحدسية إلى البحث الواعي في معنى الصورة ودلالتها، فاختياره لشعبة الفنون التشكيلية لم يكن خطوة تعليمية فحسب، وإنما إعلانًا ضمنيًا عن انخراطه في مشروعٍ وجوديٍّ يتخذ من الفن وسيلة لفهم الإنسان والمكان، وتحرير الذات من قوالب الإدراك المألوفة، في هذا الفضاء الجديد، بدأت الرؤية البصرية لوسام يوسفي تتّسع وتتعمّق، صار الفن بالنسبة إليه مختبرًا للتفكير، وتجسيدًا لتلك العلاقة الدقيقة بين الوجدان والذاكرة، بين ما يُرى وما يُتَخَيَّل، حيث تعلّم أن الإحساس لا يكتمل إلا حين يتحوّل إلى أثر، وأن اللون يمكن أن يكون ترجمةً للحلم أو للحنين، وأن الخطّ ليس مجرد حدّ يفصل الأشكال، بل جسرٌ يربط بين الظاهر والمضمر. بهذا المعنى، تحوّلت اللوحة لديه إلى سطحٍ دلاليٍّ مفتوح تُكتب عليه الذات كما تُقرأ، وتتحاور فيه الذاكرة مع الحاضر في حركةٍ مستمرة من الاستعادة والتحوّل، أما مدينة فاس، بما تحمله من تاريخٍ روحيٍّ وثقافيٍّ كثيف، فقد كانت بمثابة محرابٍ بصريٍّ وإنسانيّ صاغ ذائقته ووسّع مداركه. فهندستها العمرانية، ونسيجها الاجتماعي، وروحها الصوفية التي تتسرّب في الأزقة والدروب، كوّنت لديه حسًّا جماليًا مغايرًا يقوم على الانصات إلى الأشياء لا امتلاكها، وعلى البحث عن الإيقاع الخفي الذي يسكن التفاصيل، لقد وجد في فاس مرآةً لهويته، وفرصة للتشبع بثقافات أخرى وحمولات فكرية وفلسفية تعينه في المستقبل على النبش أكثر في تفاصيل اللون والخط والأشياء، وفي الوقت نفسه نافذةً على العالم، فغدت تجربته التشكيلية امتدادًا لتلك المدينة التي تُعلّم السكون كيف يتحوّل إلى موسيقى، وتحوّل اللون إلى ذاكرة، والحنين إلى لغة بصرية قادرة على استيعاب تعقيد الوجود الإنساني.

تواصلت الرحلة التعليمية لوسام حين التحق بمركز تكوين الأساتذة بمدينة العرفان في الرباط، فكانت تلك المرحلة منعطفًا حاسمًا في مساره الفني والفكري، حيث اكتسب أدوات جديدة مكّنته من التعمق في دراسة تقنيات الفن وأساليبه الأكاديمية، فصار ينظر إلى التشكيل لا كمهارةٍ بصرية فحسب، ولكنه كبناءٍ معرفي يزاوج بين الحس والجمال والفكر، انصرف إلى تتبع مسارات الفن عبر عصوره ومدارسه، من الكلاسيكية التي تشدّ إلى الواقعية والدقة، إلى التجريدية التي تفتح المجال للتأمل الحر والتعبير الذاتي، فوجد في كل اتجاه درسًا يُغني تجربته ويغرس فيه الوعي بجوهر الصورة والمعنى، ومن خلال هذا التكوين، أخذ وعيه الجمالي يتسع ليشمل الفلسفة والفكر والرمز، فصار ينظر إلى اللوحة باعتبارها فضاءً للتفكير ومختبرًا لتأمل علاقة الإنسان بالوجود، كان يستكشف عبر الألوان والخطوط ما وراء الشكل الظاهر، محاولًا القبض على الأثر الإنساني العميق الذي يربط الإبداع بالكينونة، هكذا تشكّل وعيه الفني في تفاعلٍ خصب بين النظرية والممارسة، فصارت تجربته تتجاوز حدود الصنعة لتبلغ أفق السؤال، حيث تتحوّل اللوحة إلى نصٍّ بصريٍّ يحمل رؤيا الإنسان للعالم ويستبطن قلقه وأسئلته، بعد تخرّجه عام 2000، انطلق وسام في مسارٍ فنيٍّ اتّسم بالتنوّع والبحث الدؤوب عن لغة تشكيلية تعبّر عن رؤيته للذات والعالم، خاض تجارب فنية متعددة تنقّل فيها بين الواقعية والرمزية، وبين التصوير الأكاديمي والانفتاح على التعبير الحر، في سعيٍ مستمر لتوسيع أفقه الجمالي دون أن ينفصل عن مرجعيته الأصيلة المتجذّرة في الهوية المغربية، كانت هذه الهوية تمثل بالنسبة إليه ينبوعًا حيًّا يُغذّي الإبداع ويمنحه ملامحه الخاصة، فوجد في الفن الأكاديمي أداةً لفهم العمق الثقافي الذي تشكّل فيه، ومجالًا لاستكشاف ذاكرة المكان التي تنبض في تفاصيل الحياة اليومية، انشغل بتصوير المشاهد الشعبية، الأسواق المزدحمة، وجوه الناس، النوافذ المفتوحة على الحارات القديمة، والمنازل التي تختزن دفء العيش وعبق التاريخ، في هذه التفاصيل الصغيرة رأى صورة الوطن في تنوّعه وامتداد جذوره، فكانت الواقعية بالنسبة إليه أكثر من أسلوب، كانت تمرينًا على التقاط روح المكان واستحضار الإنساني الكامن في اليومي والعابر، ومع مرور الوقت، بدأ وسام يشعر بأنّ الظاهر لا يكفي لتجسيد رؤيته، فانتقل تدريجيًا نحو التجريد، حيث أصبح اللون والخط والفراغ أدواتٍ للتعبير عن ما لا يُقال، وما يتجاوز حدود الشكل، التجريد عنده لم يكن انقطاعًا عن الواقع، بل كان استمرارًا له في مستوى أعمق، إذ حاول من خلاله القبض على الإيقاع الداخلي للحياة، وعلى ما يختفي خلف الملموس من إحساس وتأمل وحنين، وبين الواقعية والتجريد، تبلورت لغته الفنية الخاصة التي تمزج بين الحس الشعبي والبعد التأملي، بين الحكاية والصمت، بين المشهد والمجاز، لقد وجد في هذا التوازن طريقه إلى التعبير عن ذاته وعن وطنه في آنٍ واحد، فصار فنه مرآةً لرحلته الروحية والمعرفية، ومجالًا يكشف عن فهمه العميق للجمال بوصفه حوارًا دائمًا بين الذاكرة والرؤيا، بين الإنسان ومكانه الأول.

يشكّل وسام يوسفي نموذجًا للفنان الذي يجمع بين الانضباط الأكاديمي والحرية الإبداعية في توازنٍ دقيق يصعب تحقيقه، فهو يدرك أن الفن الحقيقي لا يقوم على التقنية وحدها، ولا على الانفعال المجرد، ولكنه يستقيم على التناغم بين الصنعة والرؤيا، بين الدقة في الأداء وصدق الإحساس، لذلك يحرص في أعماله على أن تبقى التقنية خادمةً للفكرة، وأن يتخذ الشكل دوره الطبيعي بوصفه امتدادًا للحالة الشعورية التي تولّد العمل وتمنحه حياته الداخلية. ينظر وسام إلى اللوحة باعتبارها أكثر من سطحٍ يُغطّى بالألوان، فهي فضاء للتأمل ومساحة للحوار الصامت بين الفنان وذاته والعالم، في كل لوحةٍ يرسمها، ينفتح على أسئلة الوجود الكبرى، محاولًا عبر اللون والخط والملمس أن يترجم نبضه الداخلي ويكشف عن رؤيته لما هو إنساني وعميق، يستمدّ وسام من التراث المغربي مادته الأولى، ومن السوق اليومي، ومن كل نأمة تصادفه في الطريق، فيستحضر رموزه وألوانه وإيقاعاته البصرية ليعيد تشكيلها ضمن رؤية معاصرة تواكب تحولات الفن العالمي دون أن تفقد جذورها، بذلك يتحوّل عمله إلى جسرٍ يصل بين الأصالة والتجديد، بين الذاكرة والحلم، بين التوثيق والشهادة، في لوحاته نلمس حضورًا خفيًا للمدن العتيقة، الخيل، النقوش، الملابس، والزخارف والطبيعة التي تتحوّل تحت يده إلى علاماتٍ جمالية جديدة، تُحاور الماضي دون أن تستنسخه، وتستنطق الحاضر دون أن تتنكر له،ومن خلال هذه المزاوجة بين التراث والحداثة، يصوغ وسام خطابًا بصريًا يقوم على التوازن بين التأمل الداخلي والانفتاح على العالم، بين النظام الذي تفرضه الأكاديمية والحرية التي يتيحها الخيال، إن تجربة وسام بهذا المعنى تعتبر مشروعا فكريا وجماليا يسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الفنان وبيئته، بين الإبداع والهوية، فلوحته تمثل رحلةً مستمرة نحو اكتشاف الذات والكون في آنٍ واحد، رحلةً يختلط فيها الحسّ بالفكر، واللون بالمعنى، لتغدو الصورة عنده لغةً من لغات الروح، وجسرًا يربط بين ما كان وما يمكن أن يكون.

وبالتوازي مع مساره التشكيلي، اتّسعت تجربة وسام يوسفي لتشمل مجالاتٍ تقنية وإبداعية تعكس شغفه بالابتكار وبالرغبة في اكتشاف الصلات العميقة بين الفن والعلم، فهو يحصر الإبداع في فضاء اللوحة أو في حدود المرسم فقط، ولكنه يبحث له عن سند خارجي ويعتبره ممارسة حياتية شاملة تمتد إلى تفاصيل اليومي، إلى كل ما يمكن تحويله إلى معنى وجمال، هذه النظرة الشمولية جعلته يقترب من التكنولوجيا والأدوات التقنية بروح الفنان الذي لا يكتفي بالاستخدام، بل يسعى إلى الفهم وإعادة التشكيل، فبالنسبة إليه، لا تعارض بين الجمال والدقّة، بين الحسّ الفني والعقل العملي؛ فكلاهما وجهان لعملة واحدة اسمها الخلق الإنساني، في هذا الأساس من أبرز مشاريعه التي تجسد هذا التوجه تصميم آلةٍ للرسم قادرة على تنفيذ حركات دقيقة عبر نظام ميكانيكي صمّمه بنفسه، كانت هذه التجربة بالنسبة إليه أكثر من مجرّد تمرينٍ تقني، إذ مثّلت محاولةً جريئة للتأمل في العلاقة المعقدة بين اليد والآلة، وبين الجسد والتقنية، وبين الإبداع الطبيعي والإبداع الاصطناعي، فالآلة، في تصوره، ليست نقيضًا للإنسان، بل امتدادٌ لطاقته وقدرته على التنظيم والإنتاج، حين ترسم الآلة، فإنها لا تلغي حضور الفنان، بل تكشف عن وعيه العميق بالميكانيزمات التي تحكم الحركة والإيقاع، وعن فهمه للخلق الفني باعتباره فعلًا مشتركًا بين الفكر والطبيعة والمادة، ولم يقف وسام عند هذا الحدّ، إذ قام بتحويل آلة غسيلٍ(غسالة) قديمة إلى منشارٍ كهربائي استعمله في أعمال النحت على الخشب، في تجربةٍ تجمع بين الحيلة التقنية والخيال الإبداعي، هذا التحويل لم يكن مجرد عمليةٍ هندسية، بل فعلًا رمزيًا يعيد تعريف وظيفة الأشياء، فكل أداةٍ مهملة أو منتهية الصلاحية، في نظره، تحمل إمكانية ولادة جديدة حين تُعاد قراءتها بعين الفنان، كذلك طوّر طابعةً ثلاثية الأبعاد مستخدمًا موادَّ معاد تدويرها، مستفيدًا من مبادئ الفيزياء البسيطة والإلكترونيات المنزلية، ليخلق أداةً قادرة على تحويل الفكرة إلى شكلٍ مادي نابضٍ بالحياة، هذه المبادرات التقنية لا تعبّر فقط عن مهارةٍ عمليةٍ عالية، ولكنها تكشف عن رؤية فلسفية متكاملة ترى في الإبداع فعلَ وعيٍ بالوجود، وفي الأشياء المادية كائناتٍ لها ذاكرةٌ وقيمة، إن منح الأشياء “حياةً ثانية” عبر إعادة التدوير هو، في جوهره، فعلُ حبٍّ للطبيعة واحترامٌ للزمن، فالفنان ووسام يوسفي يعيد التفكير في علاقته بالمادة والاستهلاك، ويقترح نمطًا جديدًا من الوعي البيئي والجمالي يقوم على الاقتصاد في الموارد وعلى إعادة الاعتبار لما يُعدّ هامشيًا أو منسيًّا، ليتحوّل الإبداع عند وسام إلى موقفٍ أخلاقي بقدر ما هو تجربة جمالية، وإلى شكلٍ من أشكال المقاومة الصامتة ضدّ ثقافة التبذير والاستهلاك السريع التي تهيمن على العصر، كما تكتسب هذه التجارب بعدًا تربويًا واضحًا، إذ تسعى إلى إلهام الأجيال الجديدة وتشجيعها على التفكير الخلاق، وعلى اكتشاف طاقات الابتكار الكامنة في الأشياء البسيطة، فمن خلال أعماله ومشاريعه، يقدّم وسام نموذجًا للفنان المعلّم، الذي يرى في الفن وسيلة للتعلّم المستمر، وفي التقنية مجالًا لتوسيع الخيال لا لتقييده، إن تحويل الأدوات البسيطة إلى وسائل خلقٍ فني يعبّر عن روح الاكتشاف والاعتماد على الذات، ويؤكد أن الإبداع لا يحتاج دائمًا إلى إمكانات ضخمة، بل إلى نظرة جديدة وقدرة على تحويل العادي إلى استثنائي، بهذا المعنى، يجسّد وسام يوسفي صورة الفنان الباحث، الذي يجمع في شخصه بين الحرفي والمفكّر، بين المهندس والمبدع، بين اليد التي تُنجز والعقل الذي يتأمل، إن تجربته تكشف عن وعيٍ عميق بأن الفن والعلم ليسا مجالين منفصلين، بل طريقين متوازيين نحو فهم العالم وإعادة صياغته. وفي هذا التداخل بين الحسّ الجمالي والفكر التطبيقي، تبرز شخصيته كفنانٍ يؤمن بأن الإبداع الحقيقي هو القدرة على تجاوز الحدود، وتحويل شيء لا قيمة له إلى شيء يستطيع خدمة الإنسان، وعلى ربط ما هو مادي بما هو روحي، وما هو عملي بما هو تخييلي، بين يدي تتحول تجاربه في الابتكار وإعادة التدوير إلى بيانٍ فنيٍّ وفلسفيٍّ في آنٍ واحد، يدعو إلى إعادة النظر في علاقتنا بالأشياء وبالبيئة، وإلى إدراك أن الجمال قد ينبع من أبسط المواد حين تُمسّ بيدٍ ترى وتفكّر وتحب.

لقد ساهمت مشاركات الفنان التشكيلي وسام يوسفي في المعارض والملتقيات الفنية والثقافية، داخل المغرب وخارجه، في صقل تجربته وتوسيع أفقه الإبداعي، إذ شكّلت هذه المحطات لحظات تفاعلٍ حقيقية بينه وبين الجمهور، وبين رؤيته الفنية ومختلف الثقافات التي تلتقي حول العمل التشكيلي بوصفه لغةً كونية، بالنسبة إليه، كل معرض هو مساحة للحوار، ومختبر لقياس قدرة الفن على تجاوز الحواجز اللغوية والجغرافية، وعلى ملامسة الإنسان في جوهره المشترك، كان يرى في هذه اللقاءات الفنية نوعًا من الامتحان الصامت، الذي يُظهر مدى صدق العمل وقدرته على الحياة خارج حدود المرسم، فحين تغادر اللوحة فضاءها الأول لتواجه عيون الآخرين، تتحوّل إلى كائنٍ مستقلٍّ يحمل ذاكرته الخاصة ويكتسب معاني جديدة في كل قراءة، من خلال هذا الانخراط المتواصل في الفضاء الفني العام، اكتسب وسام حسًّا نقديًا رفيعًا، جعله أكثر وعيًا بموقعه داخل المشهد التشكيلي المعاصر، تعلّم أن ينظر إلى أعماله من مسافةٍ ثانية، بعينٍ مزدوجة، عين الفنان الذي يعرف ما أراد قوله، وعين المتلقي الذي يقرأ ما لم يُقَل، هذا التمرين الدائم على إعادة القراءة مكّنه من تطوير أدواته التعبيرية ومن صقل لغته البصرية، كما عمّق وعيه بأن العمل الفني لا يُكتمل لحظة إنجازه دون أن يدخل في تفاعلٍ حيٍّ مع الآخر، فالفن في نظره ليس فعلًا فرديًا منعزلًا، وإنما حالة تواصل إنساني، ورسالة تسعى إلى بناء جسور بين الذات والعالم، بين الثقافات والذاكرات المختلفة، لقد أدرك وسام من خلال هذه التجارب أن الإبداع لا ينفصل عن مسؤوليته الاجتماعية والإنسانية، وأن الفنان، في جوهره، شاهدٌ على عصره ومشاركٌ في صياغة أسئلته الكبرى، فكل معرضٍ شارك فيه كان مناسبة لتبادل الرؤى حول مفهوم الجمال، وحول علاقة الفن بالتاريخ والمجتمع والهوية، وفي كل مرة، كان يعود إلى مرسمه مثقلًا بالتجارب والأسئلة، أكثر وعيًا بحدود الشكل وقدرته، وأكثر إصرارًا على البحث عن لغةٍ جديدة تُعبّر عن الإنسان المغربي في زمنٍ كونيٍّ متحوّل، تتميّز التجربة الفنية عند وسام يوسفي بقدرتها على الجمع بين البعد الجمالي والبعد الفكري في آنٍ واحد، فهو لا يرسم لمجرد الإبهار البصري أو لإرضاء العين من خلال فنه  ولكن يسائل العلاقة بين الإنسان ومحيطه، بين الذاكرة والهوية والحداثة، اللوحة فضاء للتفكير، ونصٌّ بصريٌّ مفتوح على التأويل، يطرح الأسئلة أكثر مما يقدّم الأجوبة، يرصد الملامح والشخصيات ويوثقها بأسلوبه، فحين يقف أمام اللون، يتعامل معه ككائنٍ حيٍّ يحمل ذاكرةً وانفعالًا، فيختاره بوعيٍ تامّ، محمّلًا إياه دلالاتٍ رمزية ووجدانية عميقة، أمّا الخطّ، فيتحوّل في يده إلى أثرٍ لرحلةٍ داخل الذات، إلى بوحٍ تشكيلي يترجم الصمت الداخلي إلى حركةٍ ناطقة، كل مساحةٍ لونيةٍ عنده هي محاولة لاستحضار عالمٍ غائبٍ أو حلمٍ مؤجّل، وكل توازنٍ بصري هو بحث عن انسجامٍ بين الفوضى والنظام، بين الواقع والرؤيا، من هذا المنطلق، يمكن القول إن تجربة وسام ليست مجرد ممارسة فنية، هي تتجاوزها إلى مشروع فكري يطمح إلى إعادة تعريف وظيفة الفن في الزمن المعاصر، فالفن عنده حاجة وجودية للإنسان كي يتأمل ذاته ويعيد اكتشاف علاقته بالعالم، إنه لغةٌ تُبنى من الحسّ والمعرفة معًا، من الانفعال والتفكير، من التجربة والانفتاح على الآخر، ومن خلال هذا الوعي المركّب، استطاع وسام يوسفي أن يرسّخ لنفسه موقعًا متميّزًا في المشهد التشكيلي المغربي والعربي، بوصفه فنانًا يزاوج بين الجمال والمعنى، ويحوّل اللوحة إلى مساحةٍ للحوار الإنساني والبحث الفلسفي، ويحول المادة المتلاشية إلى مادة تنفس من جديد وتأتي بوظائف أخرى أكثر مما كانت عليه أو فيه.

إن التأمل في أعمال وسام يوسفي، سواء كانت تشكيلية أو تركيبية، يكشف ميلًا واضحًا نحو التجريب، دون أن يكون التجريب هدفًا في حد ذاته، فالمادة عنده، سواء كانت قماشًا أو خشبًا أو معدنًا، لا تكتفي بدور الدعم أو الوسيلة، بل تصبح حلقة تواصل بين اليد والفكرة، وساحة لاكتشاف إمكانات جديدة للتعبير، ومن خلال هذا الحوار المستمر بين الحسّ والإدراك، يثبت وسام أن الفن ليس محصورًا في أسلوبٍ واحد أو مدرسة محددة، ويصر على أن الفن يتطوّر بقدر ما يتطوّر الإنسان ذاته، تتجلّى في أعماله رحلة مستمرة بين الفكر والإحساس، بين الشكل والغياب، وبين التراث والتجديد، ما يجعل كل لوحة أو تركيب مساحةً للتجربة والتأمل، تحمل دلالات تتجاوز المظهر الأولي، فكل خطٍّ، وكل مادة، وكل تدرّج لوني هو نتيجة رحلة داخلية متشابكة بين معرفة الفنان وعاطفته، بين وعيه بتاريخ الفن وارتباطه العميق بالهوية المغربية، ومن خلال هذه الرحلة، ينفتح فضاء اللوحة أو التركيبة على تأويلات متعددة، تتيح للجمهور أن يقرأ الإنسان المغربي في تنوّعه الثقافي وعمقه الروحي، في الوقت نفسه، يبرز شغف وسام بالبحث عن لغة بصرية قادرة على التعبير عن الإنسان المعاصر في عالم تتداخل فيه التقنيات بالرموز، ويصبح كل عمل فني بمثابة جسر يربط بين الذاكرة والحداثة، بين الواقع والرؤيا، ومن هنا، تتجاوز تجربته حدود الشكل المادي لتصبح مشروعًا فكريًا وفنيًا متكاملًا، يجمع بين الحس الجمالي والبعد التأملي، ويحوّل الفن إلى وسيلة لفهم الذات والعالم. هكذا يبرهن وسام يوسفي أن التجريب والابتكار ليسا مجرد أدوات للتجديد، بل هما جوهر الرحلة الفنية نفسها، التي لا تنتهي إلا بانتهاء استكشاف الإنسان لقدراته على الإبداع والفهم، وسام يوسفي شخصية فنية دائمة الحركة والبحث والتنقيب، لا يعرف التوقف عن استكشاف إمكانات المادة والفكرة، حين يشعر بالإرهاق، يجد في اللوحة متنفسًا، مسرحًا لتفريغ الإحساس وممارسة التأمل البصري، وعندما يملّ من اللون والسطح، يتحوّل إلى الحفر والتنقيب، كنجارٍ بارع يحفر في العلامة والرمز، يفتش عن العمق الكامن وراء الملموس، ثم لا يكتفي بذلك، بل ينطلق إلى عالم المتلاشيات والنفايات، حيث يبحث عن قطعٍ فقدت معناها الأصلي، ليعيد تركيبها، ويمنحها حياة ثانية من خلال روحه الفنية وابتكاره الخلاق، كل عنصر يجد طريقه إليه يصبح مادةً للتجربة، وكل شكلٍ مستعاد أو معاد تصنيعه يحمل أثرًا لإدراكه الفني وفلسفته الشخصية، في الوقت ذاته، يتعمّق وسام في دراسة مكونات الطبيعة، متأملًا في العناصر والقوى التي تشكل العالم، كفيلسوف يوناني يدرس فعل كل شيء للوصول إلى الحقيقة، ثم يضع مسافة للتأمل قبل أن ينطق بكلمته، ويواصل السير في درب آخر مليء بالبحث والتنقيب، محاولةً فهم العلاقة بين الألوان والأشياء والموجودات، هذه الحركة المستمرة تعكس شغفه بالاكتشاف ورغبته في تجاوز الحدود التقليدية للفن، فلا يقتصر على اللوحة أو المادة، بل يجعل من كل تجربة وسيلة للمعرفة والتجديد، إنه في رحلة دائمة، لا يكلّ ولا يملّ، يتنقل بين الأساليب والتقنيات، بين الفكر والحس، باحثًا عن التعبير عن ذاته وعن العالم من حوله، بأسلوب يوازن بين التأمل والإبداع، بين التجريب والمعرفة.

لقد تحوّلت مسيرة الفنان التشكيلي والمخترع وسام يوسفي إلى مشروعٍ فني متكامل، تتلاقى فيه روح الفن الأكاديمي مع نَفَس الابتكار العلمي في انسجامٍ دقيق يعبّر عن العلاقة العميقة بين الإبداع اليدوي والفكر التجريبي، وبين الفنان والعالم كما يراه ويعيشه، ففي أعماله، لا يقتصر الإبداع على إنتاج صور أو تشكيلات بصرية جميلة، ولكن يمتد ليشمل دراسة الجوهر الإنساني، ومحاولة فهم المعنى الذي تمنحه الأشكال للأشياء، والرسائل التي يمكن للخط واللون والملمس أن ينقلوها، إن هذا المزج بين التقنية الأكاديمية والرؤية التجريبية يجعل من كل عمل له مساحة للحوار، بين الذات والآخر، بين التقليد والحداثة، وبين الواقع والخيال، حيث تتحوّل المادة إلى وسيلة لاستكشاف أبعاد جديدة من الإدراك البصري والفكري، إن قراءة مسيرته الفنية لا تقتصر على تتبّع المحطات الزمنية أو الاطلاع على أعمال منفصلة، فهي رحلة وعي مستمرة تتكشف في كل مرحلة من مراحل حياته، فالطفولة التي عاشها في صفرو، بمناخها الثقافي والاجتماعي الغني، كانت أرضًا خصبة شكلت الحس الجمالي لديه، وزرعت فيه حب الاكتشاف والانفتاح على العالم، تلك التجربة الأولى تحوّلت إلى قاعدة يُبنى عليها مشروع حياته الفني، الذي يمزج بين الأصالة والابتكار، بين الحلم والفعل، وبين اليد التي تخلق والعقل الذي يتأمّل ويحلل، يتجلى في أعماله شغف بالبحث عن لغة بصرية تعبّر عن الإنسان في تنوعه وعمقه، عن العلاقة بين الفرد والمجتمع، وعن الصلة بين الذاكرة والتراث والحداثة، كما أن التجريب والتقنية جزء لا يتجزأ من مشروعه الفني، فهو يرى أن المادة ليست مجرد وسيلة، ولكنها فضاء للحوار والتفكير، سواء كان ذلك من خلال الرسم، أو الحفر، أو تركيب المواد، أو استثمار أدوات معاد تدويرها، أو حتى ابتكار آلات جديدة تخدم الفكرة، إن هذه الرؤية تعكس إدراكه بأن الفن لا يكتمل إلا عندما يكون متجذرًا في المعرفة والوعي، وعندما يتجاوز حدود الشكل البصري ليصبح تجربة حسية وفكرية في الوقت نفسه، يمكن القول إن مسيرة وسام يوسفي تمثل نموذجًا للفنان الباحث الذي يربط بين الإبداع الفني والبحث العلمي، بين الحس الجمالي والفكر النقدي، بين التقنية والروح، فهو يصنع الجمال ويسعى إلى تفسيره وإعادة صياغته باستمرار، ليخلق أعمالًا تحمل أثر التجربة الإنسانية وتطرح أسئلة حول معنى وجود الإنسان وعلاقته بالعالم، ومن خلال هذا المسار، يتضح أن مشروعه الفني ليس فقط مجرد ممارسة شكلية، ولكنه مشروع حياة متكامل، حيث تصبح كل لوحة وكل تركيب، وكل تجربة ابتكارية، محطة في رحلة مستمرة من الاكتشاف والتأمل والتجديد، رحلة تجمع بين الماضي والحاضر، بين الحلم والفعل، بين الصنعة والفلسفة، ليظهر وسام كفنان حقيقي، باحث عن المعنى والحقيقة في كل ما يخلق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى