إقصاء الفنون من مباريات التعليم: قراءة نقدية في أزمة الإبداع بالمدرسة المغربية

محمد حستي: فنان تشكيلي، كاتب

بالاعتماد على المعطيات الرسمية الواردة في الجدول، الذي يبيّن توزيع 19.000 مقعد لمباريات ولوج مراكز تكوين الأطر التعليمية بالمغرب برسم الموسم التكويني 2025-2026، يتّضح بشكل صارخ غياب أي تخصّص مرتبط بالتربية التشكيلية أو التربية الموسيقية، سواء في سلك التعليم الابتدائي أو الثانوي. هذا الغياب لا يمكن أن يُفهم إلا في إطار سياسة إقصاءٍ ممنهجةٍ للفنون الحضرية عامة من الفضاء التربوي، والثقافي المغربي وبما يعكس توجّهًا مؤسّسيا نحو ترشيدٍ نفعيّ للتربية يحصرها في بعدها الأداتي والاقتصادي، على حساب بعدها الإنساني والثقافي والجمالي.

  1.  مؤشرات الإقصاء ودلالاته المؤسسية

إن استبعاد التربية التشكيلية والموسيقية من لوائح التوظيف لا يُعدّ قرارًا إداريًا عابرًا أو اختيارا عشوائي، بل هو نهج يرفع اللبس عن سياسات فاشلة في تدبير الشأن الفني وما يمكن اعتباره مؤشّرا بنيويا واضحا على تراجع مكانة الفنون في السياسات التعليمية المغربية. فبينما تكرّس المرجعيات الوطنية الكبرى – من الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 – مبدأ “تنمية الحسّ الجمالي والذوق الفني لدى المتعلمين”، نلاحظ في المقابل أن الممارسة الفعلية للوزارة تنقض هذا الالتزام.ويبدو جليا أن هذا التناقض يعبّر ويسطر على خلل في التمثّل المؤسسي للوظيفة التربوية للفنون، إذ تُعامَل التربية الفنية  عامة كمادة تربوية ترفيهية  زائدة ، لا كأداة تكوين معرفي ووجداني ضروري للمتعلمين ، وهذا التصور الذي شائع عند العامة  وكما سُوِّق له ، يُفرغ المدرسة العمومية المغربية  من بعدها الثقافي ،الاجتماعي ،و الإنساني ويحوّلها إلى فضاء للامتثال الميكانيكي لا للإبداع والابتكار .

  •  التبعات البيداغوجية والثقافية للإقصاء

إن تغييب وإقصاء الفنون من مباريات التعليم وبالتالي من المنظومة التعليمية المغربية لن تكون له فقط الآثار المهنية التي تخصّ المدرسين والفنانين، بل سيمتد إلى أبعد من ذلك ليهدّد التوازن النفسي والمعرفي للمتعلمين المغاربة. فالتربية الجمالية تُعدّ من أهمّ المداخل التربوية لتشكيل شخصية المتعلم المغربي وبناء توازنه الوجداني والعقلي، لأنها لا تقتصر على تنمية الحس الفني أو الذوق الجمالي فحسب، بل تؤسس لبنية فكرية قادرة على الإدراك، والتمييز، والتأمل، والنقد، والملاحظة، والتحليل. فالمتعلم الذي يتفاعل مع الفنون البصرية والموسيقية والمسرحية، يكتسب قدرة فريدة على قراءة العالم من خلال رموزه وصوره ودلالاته، لا من خلال معطياته التقنية فقط. إنّ التربية الجمالية، كما يرى الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (John Dewey)، ليست ترفًا تربويًا، بل هي تجربة إنسانية أصيلة تُوحّد بين المعرفة والشعور، وبين الفكر والإحساس، وتجعل من الفن وسيلة أساسية وضرورية لبناء الإنسان الاجتماعي السليم القادر على العيش في انسجام وتناغم مع ذاته ومع محيطه والعالم من حوله.

  • تنمية الحس النقدي والخيال والابتكار:
    إنّ اشتغال المتعلم على التعبير التشكيلي أو التعبير الموسيقي أو المسرحي أو الحركي يجعله يكتسب مهارات في الملاحظة، وفي إعادة بناء الواقع وفق رؤى مبتكرة و جديدة، وهو ما يغذّي ويطور قدراته ومهاراته الإبداعية. وهذا ما تؤكده دراسات علم النفس التربوي المعاصر التي تعتبر الخيال قوة إدراكية ضرورية للإبداع والابتكار العلمي والفكري على حد سواء.
  • معالجة الاضطرابات النفسية والتواصلية عبر التعبير الرمزي:
    الفنّ عامة  في المدرسة لا يؤدي وظيفة جمالية فقط، بل يقوم بدورٍ علاجي وتواصلي. فالمتعلم الذي يُمنح فرصة التعبير بالألوان والأشكال والتعامل الخامات المختلفة ومع آلات مختلفة للموسيقى والتعرف على المقامات المتعددة، تضعه في وضعية إدماج حقيقي في فضاء تربوي متوازن وفيه يُفرغ توتراته ويعيد تنظيم عواطفه، ما يجعله أكثر قدرة على الاندماج الاجتماعي والتواصل الإيجابي مع أقرانه ومع المجتمع. وقد أظهرت تجارب “Art-thérapieالعلاج بالفن “   في العديد من الأنظمة التربوية الأوروبية أنّ إدماج الفنون في التعليم يُسهم بشكل واضح في تقليص العنف المدرسي وتحسين المناخ النفسي والتعليمي داخل الأقسام.
  • تعزيز القيم الجمالية والجماعية ومقاومة ثقافة العنف والاغتراب:
    إنّ الانخراط في الممارسات الفنية الجماعية (كالرسم الجماعي، أو الغناء المدرسي، أو المسرح التربوي) يُعزّز بلا شك روح التعاون والانتماء، ويُنمّي كذلك  لدى المتعلمين حسّ المسؤولية والجمال الجماعي، مما يحدّ من الفردانية السلبية ومن نزعات الانغلاق والاغتراب. وبهذا المعنى، فالتربية الفنية الجمالية هي تربية على المواطنة بالخصوص وعلى الجمال في آنٍ واحد.

إن إلغاء هذه المواد من مسارات التكوين هو في الواقع إلغاء لحقّ المتعلم المغربي في التعبير الرمزي، وتجفيفٌ لمعين الخيال في مجتمعٍ يعاني أصلًا من ضعف في التربية الإبداعية. وهكذا تتحول المدرسة العمومية المغربية إلى مؤسسة تنتج المعرفة التقنية فقط، دون أن تنتج الإنسان المبدع، وفي غياب مادة التربية الفنية، تفقد المدرسة المغربية دورها في بناء الذات المفكّرة الحساسة، وتتحول إلى فضاءٍ لتكديس المعارف، لا لتشكيل الوعي. وقد نبّه المفكّر المغربي عبد الكبير الخطيبي إلى خطورة فقدان الحسّ الجمالي في المجتمعات المعاصرة، معتبراً أن الذاكرة الثقافية لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال تمثّلاتها الرمزية والجمالية. ففي كتابه (La Mémoire tatouée ) الذاكرة الموشومة، يربط الخطيبي بين الجمال والهوية والذاكرة الجماعية، مؤكداً أن “العلامة الجمالية ليست مجرد زينة، بل هي أثرٌ في الجسد والذاكرة، ومن دونها يفقد الإنسان انتماءه الرمزي” (الخطيبي، 1971).
إن هذا الوعي الجمالي، بحسب الخطيبي، يشكّل شرطاً ضرورياً لبقاء الإنسان في توازنه الرمزي والثقافي، لأن الفنّ هو المجال الذي تُستعاد فيه الإنسانية بوصفها ذاكرةً حيةً ومشتركة.

إنّ إقصاء الفنون، إذًا، هو إقصاء للإنسان في جوهره، لأنه ينفي عنه أحد أهم مقومات وجوده: القدرة على التعبير الرمزي. ولعلّ أخطر ما في هذا الإقصاء أنه يجري في صمت، تحت غطاء البراغماتية الاقتصادية الميكانيكية الجافة، وكأنّ الجمال لم يعد جزءًا من التنمية البشرية، رغم أنّ التجارب العالمية الحديثة تُبرز أنّ الاقتصادات الإبداعية هي الأكثر ازدهارا واستدامة. فكيف يُمكن لمغربٍ حديث ومعاصر أن يطمح إلى الإقلاع الحضاري وأن يقصي من مدرسته أدوات الوعي الجمالي التي تُحرّك روح الإبداع والابتكار الخلاق في الأجيال القادمة؟

  •  الاقتصاد الإبداعي بين الإهمال والاستشراف

يأتي هذا القرار المجحف في حق مجموعة من الشباب الذين تكبدوا عناء الدراسة العليا بمعاهد الفنون الجميلة والموسيقي والمسرح و في اللحظة التي تتسم بالطابع العالمي حيث أصبحت فيها الصناعات الثقافية والإبداعية من أهمّ ركائز الاقتصاد المعاصر، لأنها تخلق الملايين من فرص الشغل وتُسهم في الناتج الداخلي للدول وتقلل من مؤشرات وأزمة البطالة .ومع ذلك، يبدو أن المنظومة التعليمية المغربية لا تزال سجينة منطقٍ قديمٍ يرى في الفنون “ترفًا” لا “استثمارًا”، وهو ما يُفقد المدرسة المغربية قدرتها على مواكبة التحولات الاقتصادية والثقافية الحديثة التي يؤطرها عصر المعرف والتكنولوجيا . فحين يُقصى الفن من التعليم، تُقصى معه قيم الابتكار والخيال والنقد والتحليل التي تحتاجها كلّ تنمية مجتمعية مستدامة. وهذا يعني أن القرار ليس تربويًا فقط، بل سياسيّ–اقتصادي بامتياز، يكرّس رؤية تقنوية جامدة وضيّقة تختزل الإنسان في وظيفته لا في كينونته.

  • أزمة الرؤية التربوية

إن إبعاد الفنون من سياسات التنمية البشرية للدولة المغربية يكشف بوضوح عن أزمة صارخة في التصوّر التربوي الضيق لمدبري هذه السياسة، حيث يقومون بإعادة إنتاج نموذج مدرسيّ متمركز حول الكفاءة الأداتية والقياس الكمي لا النوعي، متجاهلين في هذا الاختيار البعد الوجداني والجمالي والثقافي. فمدرسة بلا فنون هي، في الجوهر، مدرسة بلا روح، لن تنتج مواطنا ذو أبعاد متعددة لأنها بكل بساطة ستفقد القدرة وكل آلياتها على تربية الذوق الجمالي للناشئة، ولا على صقل الحس الاجتماعي الإنساني، ولا على بناء علاقة المتعلم بالجمال وبالآخر المختلف. وفي هذا الإطار الضيق لهذا القرار، يصبح التعليم المغربي عبر مدرسته العمومية مهددًا بأن يتحوّل إلى تكوين آلي للعاملين بدل أن يكون تربية للإنسان المواطن.

  •  نحو قراءة نقدية للمستقبل

إن استمرار تغييب الفنون من التوظيف والتكوين سيقود المدرسة العمومية والناشئة إلى:

  • تراجع جودة الحياة المدرسية وضعف الاندماج الوجداني للمتعلمين والمتعلمات؛
  • فقدان الأجيال الناشئة لمهارات التعبير البصري والموسيقي والتحليل النقدي؛
  • تكريس الفجوة بين المدرسة العمومية والمجتمع الثقافي المغربي؛
  • إضعاف صورة المدرسة كمجال للتربية على القيم الجالية والانسانية والخيال والابتكار؛

لذلك فإنّ إعادة إدماج الفنون التشكيلية والموسيقية والمسرحية وكل الفنون الحضرية في صلب السياسة التعليمية الرشيدة والواعية بارتقاء المجتمع، لم يعد مطلبًا قطاعيًا للأساتذة والمفتشين ولا للفنانين ولا لمعاهد الفنون الجميلة، بل رهانًا مجتمعيًا وثقافيًا من أجل بناء مدرسة مغربية معاصرة ومتوازنة في بنية برامجها المدرسية الحديثة، وعليها أن تؤمن بأن الإبداع والابتكار ليس ترفًا ممنوحا، بل شرطًا من شروط الوجود الإنساني.

  • خلاصة نقدية

إنّ ما نراه اليوم ليس مجرد حذفٍ إداريٍ لمواد التفتح الفني من لوائح التوظيف، بل هو مؤشر دالّ على أزمة أعمق في الوعي التربوي والثقافي بالمغرب. فإقصاء الفنون لا يُعبّر فقط عن غياب الإرادة في تطوير الذوق الفني أو دعم الممارسات الجمالية، بل يكشف عن رؤية اختزالية للتعليم تحصره في بعده الوظيفي والتقني، وتُقصي أبعاده الإنسانية والإبداعية. وهذا التوجّه، في جوهره، يهدّد بتفريغ المدرسة من دورها الحضاري في تشكيل الإنسان المتوازن القادر على النقد، والإبداع، والتفاعل الجمالي مع العالم. فالفنون التشكيلية والموسيقية والمسرحية ليست مواد ترفيهية كما يُتصور أحياناً، بل هي حقّ تربوي وثقافي يوازي في أهميته حقّ التلميذ في التعلم اللغوي والعلمي. فهي التي تُنمّي في المتعلم قدرته على التأمل والتذوق، وتحرّره من التلقين الميكانيكي، وتمنحه أدوات التعبير عن الذات والآخر بلغة رمزية إنسانية. وقد أثبتت الدراسات الحديثة في علم النفس التربوي (Gardner, 1993؛ Eisner, 2002) أن إدماج الفنون في التعليم يُنمّي الذكاءات المتعددة، ويُعزّز الكفايات العاطفية والاجتماعية والمعرفية. إنّ إعادة الاعتبار للتربية الجمالية ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة استراتيجية لإنقاذ المدرسة المغربية من أزمتها البنيوية، لأن الجمال هو المدخل إلى بناء إنسانٍ متوازنٍ قادرٍ على إنتاج المعنى لا استهلاكه فقط. فالمدرسة بلا فنون حضرية هي مدرسة بلا وجدان، وبلا ذاكرة، وبلا مستقبل. وحين يُقصى الجمال من قاعات الدرس، يذبل الخيال، ويصمت الإبداع، ويغيب الإنسان.

إنّ الرهان الحقيقي اليوم هو تحرير التربية من هيمنة النفعية الضيقة وإعادة الاعتبار لقيم الحسّ الجمالي كركيزة أساسية في بناء وعي اجتماعي نقدي وثقافة مواطنة متضامنة متصالحة مع الذات والكون.

فالمجتمع الذي يُقصي الفنّ من المدرسة، يُقصي المستقبل من تاريخه.

المراجع

  • هربرت ريد، التربية عن طريق الفن، ترجمة مصطفى حجازي، دار النهضة العربية، بيروت، 1972.
  • Benkrrade, S. (2003). السيميائيات والتأويل: من العلامة إلى الخطاب. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
  • Eisner, E. W. (2002). The Arts and the Creation of Mind. New Haven, CT: Yale University Press.
  • Gardner, H. (1993). Multiple Intelligences: The Theory in Practice. New York, NY: Basic Books.
  • Khatibi, A. (1971). La Mémoire tatouée: Autobiographie d’un décolonisé. Paris: Denoël.
  • UNESCO. (2010). The Seoul Agenda: Goals for the Development of Arts Education. Paris: UNESCO.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى