قراءة في مسيرة الفنان التشكيلي الراحل حسن جميل: لم يرسم فاس فحسب، بل أعاد صياغتها في الوعي البصري المعاصر


غادرنا الفنان التشكيلي والمسرحي حسن جميل إلى دار البقاء، يوم الأربعاء 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025،( من مواليد 1958) بعد أن ترك خلفه إرثًا فنيًا وجماليًا يستحق الوقوف عنده بتأملٍ عميق وقراءةٍ واعية، حيث كان الراحل واحدًا من أولئك العصاميين الذين صنعوا مجدهم الفني بجهدهم الخالص، متدرّجًا بخطى ثابتة بين التشكيل والرسم والمسرح والإعلام، دون أن يهادن أو يستسلم لصعوبات الواقع أو تقلّبات الحظ، كانت تجربته شاهدًا على أن الفن يمكن أن يكون مشروعَ حياةٍ كاملة، وأن الجمال لا يولد من اليسر، بل من المعاناة والعمل والحفر في المعنى واللون والحرف والضوء، في التشكيل، كان حسن جميل باحثًا عن المغايرة، يصوغ رؤاه بتأنٍ، ويمنح اللونَ طاقةَ البوح الصامت، اشتغل على المعالم الحضارية والأثرية لفاس والوجوه والذاكرة الشعبية، بعيونٍ معاصرةٍ تمزج الحلم بالواقع، كانت لوحاته أشبه بسير ذاتية مفتوحة، تحكي عن الإنسان، عن البيوت الفاسية، والدروب والسقايات والأمكنة التي تحتفظ بأنفاس الطفولة وملامح الانتماء، أما في المسرح، فكان حضوره دالًّا ومثمرًا، إذ لم يتعامل مع الركح كفضاء للعرض فحسب، بل كحقلٍ للتعبير الإنساني والجمالي، يزاوج بين الصورة البصرية والفعل الدرامي، ويستثمر في طاقة الممثل والإضاءة والسينوغرافيا ليمنح العمل المسرحي بعده الجمالي الكامل، وفي الإعلام، لم يكن حسن جميل مجرد ناقلٍ للخبر أو مُعدٍّ للبرامج، بل كان يسعى إلى ترسيخ حضور الفن في الوعي الجمعي، ويجعل من الكلمة والصورة وسيلة للتنوير، لا للتسلية العابرة، جمع بين الحس الفني والبصيرة الثقافية، فكان صوته صادقًا، وأسلوبه متميزًا، ورؤيته نافذة تستشرف الجمال في كل تفصيل، رحيل حسن جميل لم يكن فقدانًا لفنان فحسب، بل غيابًا لوعيٍ جماليٍّ وتجربةٍ إنسانيةٍ غنيةٍ بالصدق والعطاء.، لقد علّم الأجيال معنى الإصرار على الإبداع رغم ضيق الإمكانات، وكيف يمكن للفن أن يكون رسالة حياة. إن هذه القراءة في مسيرته والتي كنت قد بدأت فيها قبل وفاته بشهرين تقريبا، ليست إلا وقفة أولى في انتظار دراسات أعمق وأشمل، تستنطق تجربته الفنية والإنسانية، وتكشف ما خفي في مساره من رموزٍ وإشراقات، فالفنانون الحقيقيون لا يغيبون بالموت، بل يخلّدهم أثرهم، وحسن جميل سيبقى واحدًا من أولئك الذين جعلوا من الجمال سبيلاً إلى الخلود.

تعدّ مدينة فاس من أبرز الحواضر التاريخية في المغرب والعالم الإسلامي، بما تختزنه من رموز عمرانية وروحية وثقافية شكلت عبر قرون من الزمان هوية فنية ومعمارية فريدة. وقد كانت هذه الخصوصية مصدر إلهام للعديد من الفنانين الذين رأوا في فاس مختبرًا جمالياً لا ينضب، ومن بين هؤلاء برز الفنان التشكيلي حسن جميل ابن فاس( حي المخفية بالمدينة القديمة)، الذي جعل من معمار المدينة ومكوناتها التراثية موضوعًا مركزيًا في تجربته الإبداعية، فحوّل اللون إلى لغة للحفاظ على الذاكرة، والصباغة إلى أداة للبوح الجمالي والتوثيق الرمزي، يمثل الفنان نموذجًا نادرًا للمثقف المتعدد الاشتغال، تشكيليّ، نحات، صحافي، مسرحي، وسينوغرافي، يلتقي في تجربته الحس الجمالي بالوعي الثقافي، والممارسة الفنية بالفعل المدني والثقافي، من خلال أعماله التشكيلية والنحتية والمسرحية، ومن خلال تأسيسه لمؤسسات فنية وإعلامية، نجح في جعل فاس مركز إشعاع ثقافي يربط بين الأصالة والانفتاح، وبين المعمار والإنسان، لم تكن فاس بالنسبة إلى حسن جميل مجرد فضاء جغرافي، بل كانت كيانًا رمزيًا وروحيًا، ومصدرًا أوليًا للإلهام الفني، فمعمارها المغربي الأندلسي، بأقواسه وأبوابه ونوافذه المزخرفة، صار في لوحاته مادة تشكيلية، وأفقًا تأمليًا يعكس علاقة الفنان بالمكان والذاكرة، إنّ استلهام حسن جميل لمعمار مدينة فاس لا يقوم على النقل الحرفي أو التوثيق البارد، بل على إعادة بناء المعمار باللون، أي على تحويل العناصر المادية إلى رموز جمالية حاملة لروح المدينة، وهكذا تتحول الجدران القديمة والزليج والأقواس والصوامع إلى تشكيلات تجريدية تتناوب فيها الألوان الدافئة والباردة لتستحضر عبق الأزقة وروائح الحناء والجلود والأسواق التقليدية، في هذا السياق، يمكن القول إنّ تجربة حسن جميل تنتمي إلى تيار التعبيرية التجريدية المغربية التي توظف التراث البصري المحلي ضمن رؤية معاصرة، متجاوزة الانغلاق التراثي نحو الحداثة اللونية، فاللون عنده ليس زخرفًا أو تكرارًا لما هو موجود، بل أداة تأويلية تكشف البعد الروحي في المادي، والرمز في اليومي، والزمن في المكان، تميّزت أعماله بقدرتها على توظيف اللون والصباغة لتجسيد عمق المكونات التراثية لمدينة فاس، فاللون الأزرق مثلًا يرمز عنده إلى صفاء الروح وإلى عمق السماء الفاسية التي تظلل المدينة، بينما يمثل الأصفر إشراق النور على الجدران الطينية، في حين يحضر الأحمر القاني كعلامة على الدفء الإنساني والعلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان، تتوزع ضربات الفرشاة في لوحاته بطريقة توحي بالحركة والنبض، فتبدو جدران المدينة وكأنها تتنفس، هذا التفاعل بين الصباغة والمعمار يضفي على العمل التشكيلي بعدًا دراميًا، يجعل المتلقي أمام مشهد حيّ أكثر منه لوحة ساكنة. لقد استطاع ابن فاس أن يحوّل الموروث المادي إلى تجربة حسية، وأن يجعل من اللون لغة مقاومة ضد النسيان، فكل لوحة عنده توثيق بصري لذاكرة المدينة، وفي الوقت ذاته بحث فلسفي في معنى الجمال والهوية.

اشتغل حسن جميل خلال مسيرته على طرائق متعددة وأساليب مختلفة، مما جعله فنانًا متجددًا لا يكرر نفسه، فقد مرّت تجربته بمراحل متباينة، من الواقعية التوثيقية إلى التجريد الرمزي، ومن اللوحة الزيتية إلى الأكريليك والمونوتيب والكولاج، مستثمرًا في كل مرة تقنية جديدة لخدمة رؤيته الجمالية، كما لم يحصر نشاطه في التشكيل المسندي (اللوحة)، بل تجاوز إلى فن النحت، حيث أنجز أعمالًا بارزة مثل منحوتته الشهيرة “الحصان والفارس“( موجودة أمام باب أحد الفنادق بفاس) التي جسد فيها العلاقة الجدلية بين القوة والجمال، بين التراث والفروسية المغربية، في شكل فني يزاوج بين الصرامة المادية للبرونز أو الحجر وبين الرهافة التعبيرية للخطوط والمنحنيات، هذا التنوع في الأساليب يعكس فهم الفنان العميق للفن بوصفه تجربة مفتوحة لا تعرف الثبات، بل تستمد مشروعيتها من البحث الدائم. وقد كان يرى أن الفنان الحقيقي هو الذي يجدد أدواته، ويصغي إلى تحولات مجتمعه دون أن يفقد أصالته، من المجالات التي برع فيها حسن جميل فن البورتريه، الذي اشتغل عليه تحت الطلب لتقديمه كهدايا في مناسبات مختلفة، إلا أن البورتريه لديه لم يكن مجرد نقل للملامح، بل محاولة لاختراق الشخصية والتعبير عن بعدها الداخلي، فالعين عنده ليست عضوًا تشريحيًا بل مرآة للروح، والوجه ليس سطحًا ساكنًا بل مشهدًا نفسيًا تتجاور فيه الظلال والنور، وقد ساهم هذا الاشتغال على البورتريه في جعل أعماله حاضرة في العديد من البيوت المغربية والغربية، مؤكدًا بذلك قدرة الفن التشكيلي المغربي على التواصل العابر للثقافات.

انفتح حسنَ جميلٍ على الشعر من خلال تجربة الشاعر الراحل المهدي حاضي لحمياني، في دوانه “النشيد السري” الذي رحل تاركًا خلفه إرثًا بصريًّا وروحيًّا فريدًا، يمتح من معين الشعر ومن عبق المدينة ـــ فاس ـــ ليحوّل الكلمة إلى لونٍ، والبيت إلى تشكيلٍ، والقصيدة إلى فضاءٍ نابضٍ بالحياة، لقد كان لحمياني واحدًا من القلائل الذين أدركوا أن الشعر ليس نصًّا لغويًّا فحسب، بل كيانٌ بصريٌّ قادرٌ على أن يتمدّد في اللوحة كما يتمدّد في الذاكرة، في أعماله التشكيلية، نكتشف كيف استطاع أن يترجم شعره إلى أنساق لونية وخطوط هندسية تتآلف فيها المفردة مع اللون، وتتمازج الروح الصوفية مع الرؤية الجمالية المعاصرة، لقد جعل من فاس أكثر من مكانٍ جغرافيٍّ أو حضاريٍّ، بل جعلها كائنًا شعريًّا يتنفس الجمال وينطقه، كأن المدينة ذاتها تكتب قصائدها بالألوان والرموز، فاس عند لحمياني ليست مجرد خلفيةٍ للوحة، بل نصٌّ موازٍ يروي تاريخها الروحي والثقافي بلغة الشكل والخط واللون، فهي مدينة الحرف والعطر والظلّ، مدينة تفيض بالمدارس والزوايا والقباب، حيث تلتقي الحروف العربية في صيغها الجمالية بأصوات الشعراء الذين مرّوا من هناك، ومن خلال حسن جميل تجلت المدينة في طبقاتها الزمانية والوجدانية، فغدت القصيدة مرآةً للوحة، واللوحةُ مرآةً للقصيدة، في علاقةٍ تبادليةٍ تجعل من الشعر والتشكيل معًا أداةً لتوثيق الجمال، واستعادة الذاكرة الجماعية للمدينة التي أنجبت الشعراء والعلماء والمتصوفة، وقد أغنى هذا المشروع الفنيّ الشعريّ حضورُ الفنان سعيد العفاسي، الذي انخرط فيه بخبرته في فن الخط المغربي، مضيفًا إليه بعدًا توثيقيًّا وجماليًّا في آنٍ واحد، فالعفاسي لم يكن مجرد خطاطٍ مزيّنٍ للوحة، بل شريكًا في صياغة رؤيتها البصرية والمعنوية؛ إذ أعاد عبر الخط المغربي تأسيس الجسر بين الشعر واللوحة، بين النصّ المكتوب والعين المتأملة، فكانت أعمال المشروع بمثابة مخطوطات معاصرة تنبض بالشعر واللون والذاكرة، تحافظ على جوهر الكلمة العربية وهي تتخذ هيئة التشكيل، وتخلّد لحظة التقاء الفكرة بالجمال، إن هذا المشروع الذي جمع بين حسن جميل رساما والمهدي حاضي لحمياني شاعرا وسعيد العفاسي خطاطا يشكّل نموذجًا فريدًا في الثقافة المغربية المعاصرة، إذ يبرهن على إمكانية تزاوج الفنون وتكاملها في خدمة الذاكرة الجمالية للمدينة، إنه ليس مجرد حوار بين الشعر والتشكيل، بل هو انصهارٌ في هويةٍ فنيةٍ واحدة تستمد مادتها من فاس، المدينة التي تظلّ، في وجدان الفنانين، منبع الإلهام وموئل الحرف وروح الجمال العربي الإسلامي في أرقى تجلياته.

لم يكتفِ حسن جميل بالتعبير التشكيلي، بل انخرط في الفعل الثقافي المؤسسي من خلال تأسيسه وإدارته لجريدة “هنا فاس” عام 1986، التي أرادها صوتًا للمدينة ومرآة لحياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية، بهذا المشروع الإعلامي، جمع بين الريشة والقلم، وبين الجمال والخبر، فحوّل الجريدة إلى منصة لتكريم الفنانين والمبدعين، وتوثيق التحولات التي تعرفها فاس في مجالات العمران والفنون والآداب، لقد كانت “هنا فاس” أكثر من جريدة، كانت مبادرة ثقافية مواطِنة، تسعى إلى ربط الفن بالواقع، وإلى جعل الثقافة قوة اقتراح وتنوير داخل المجتمع المحلي، ومن خلالها برز حسن جميل كفاعل ثقافي يؤمن بأن الإبداع لا يكتمل إلا بانخراطه في قضايا الناس والمدينة، وفي هذا السياق يقول الصحافي إدريس العادل الذي واكب تجربة حسن جميل:” كانت الجريدة تصدر نصف شهرية باسم المدينة وسماها “هنا فاس”، وساعدته متطوعا كرئيس تحرير بعد ان كان عبد الحميد دادس يقوم بهذه المهمة، وكانت في أسرة التحرير الاخت مريم المغاري الصحافية قبل أن تلج الى اذاعة فاس الجهوية، وكان الزميل سعيد كوبريت الذي اصبح صحافيا بإذاعة طنجة، يدرس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز يكتب معنا في الجريدة باسلوب رائع، كنا نقوم بالإخراج في مكتبه حتى مطلع الفجر، ليسافر بعد ذلك الى طبعها في الرباط ،والمقر الذي تمت الإشارة إليه كان آنذاك يوجد قبالة مطاحن الوهرانية التي تحولت الان الى عمارات ومكاتب إدارية ومقاهي قرب المحكمة الابتدائية بفاس التي تحول مقرها الى طريق صفر، منذ عام ونيف، انها ذكريات جميلة، رافقنا فيها المرحوم حسن جميل ايضا إلى مرسمه الذي كان موجودا في مزرعة والده قرب القصر السعودي في اتجاه طريق تاونات، حيث أطلعنا لأكثر من مرة على منحوتاته، والفارس الموجود عند مدخل فندق زلاغ ، والأسدان وسط شارع الحسن الثاني بالمدينة الجديدة فاس”.

امتدّ شغف حسن جميل بالصورة إلى المسرح، حيث اشتغل على عدة تجارب مسرحية، أبرزها تشخيصه لدورة “المحاء” في مسرحية “المحاء” للكاتب المغربي ابن مدينة فاس عز الدين التازي، وإخراج عزوز حاكم، وتشخيص سميرة لصفر وفوزية السامري، ومحافظة سعيد العفاسي.
في هذه التجربة، تلاقى التشكيلي بالمسرحي، واللون بالضوء، فكان الفنان يترجم رؤيته البصرية إلى سينوغرافيا حية تعبّر عن الفضاء الدرامي بلغة بصرية تجمع بين التشكيل والرمز، كما أنجز سينوغرافيا لعدد من المسرحيات، معتمدًا على جمع الإضاءة والديكور والمواد المحلية، مما أعطى للعروض طابعًا بصريًا مميزًا، من خلال الركح، وسّع حسن جميل مفهوم التشكيل ليشمل الفضاء الحي، مؤكدًا أن الفن ليس محصورًا في الجدران، بل يمكن أن يعيش ويتنفس على الخشبة وبين الناس، وهنا يتبدّى البعد الفلسفي في مسيرته، حيث يصبح الفن وسيلة للتعبير الجمعي، لا مجرد ممارسة فردية، وكانت له مشاركات عدة في أفلام مغربية ممثلا.
من أهم مبادرات حسن جميل تأسيسه لـ “رواق جميل للفنون التشكيلية” عام 2006 بحي صابة الهيادريين المجاور لساحة الصفارين بالمدينة القديمة بفاس، والذي افتتح من تنظيم المرصد الجهوي للمعرفة والتواصل، بمناسبة فاس عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2007، تحت اشراف الجماعة الحضرية لفاس في برنامج مهرجان فاس الثاني عشر للموسيقى الأندلسية، بتعاون مع مقاطعة فاس المدينة ورواق جميل للفنون التشكيلية بمشاركة 13 فنان تشكيليا تحت شعار” فاس.. إبداع ..ومبدعون” من 15 يناير إلى 20 فبراير 2007، والذي جعله فضاء مفتوحًا أمام الفنانين من مختلف الاتجاهات والمدارس، لم يكن الرواق مجرد معرض لعرض اللوحات، بل مختبرًا للحوار الجمالي، ومكانًا للتفاعل بين الفنانين والجمهور، ومجالًا لاحتضان التجارب التشكيلية الشابة، وبذلك ساهم في دمقرطة الفن وإخراجه من النخبوية، مؤمنًا بأن الجمال قيمة إنسانية يجب أن تكون متاحة للجميع، بفضل تنوع تجربته وغناها، وصلت أعماله إلى العديد من الدول الأوروبية والعربية، حيث شارك في معارض جماعية وفردية، وحاز على جوائز تحفيزية اعترافًا بإسهاماته في خدمة الفن المغربي وإبراز المكونات الحضارية لفاس.
كما تم الاحتفاء به في محافل عدة كفنان تشكيلي ومسرحي، تقديرًا لدوره في إشعاع الثقافة المغربية والتعريف بتراثها البصري والروحي، واشرف على الرواق ابنه محمد جميل وعبد العالي الخلوفي.

تتجلى فاس في أعمال حسن جميل بوصفها رمزًا للانتماء والخلود، فهي ليست مجرد مدينة، بل كيان متجذر في الذاكرة الجمالية للمغرب، لقد استطاع أن يجعل من معمارها مادة رمزية تختزل الهوية المغربية برمتها، وأن يطوّع اللون ليعبّر عن العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، واستشراق المستقبل، بين التراث والتحديث، وهكذا تتحول لوحاته إلى وثائق بصرية تشهد على تحولات المدينة، وإلى صلوات تشكيلية تحفظ روح المكان من الزوال، وهي اليوم في أهم بيوتات فاس الكبرى وفي مختلف العواصم الأوروبية، إنّ تجربة حسن جميل تمثل حالة فنية استثنائية في المشهد التشكيلي الفاسي والمغربي، لأنها تتجاوز حدود اللوحة إلى فضاءات أوسع، الصحافة، المسرح، السينوغرافيا، والنحت، فهو فنان متعدد، يجمع بين الحس الجمالي والوعي الثقافي، بين التعلق بالمدينة والانفتاح على العالم، لقد جعل من فاس علامة تشكيلية لا تفارق أعماله، ومن اللون جسرًا بين التراث والحداثة، ومن الفن رسالة إنسانية تحتفي بالذاكرة وتواجه النسيان، بهذا المعنى، يمكن القول إن حسن جميل لم يرسم فاس فحسب، بل أعاد صياغتها في الوعي البصري المعاصر، وجعل منها أيقونة جمالية تحيا باللون، وتستمر في إلهام الأجيال القادمة من الفنانين.
