هل تعجل احتجاجات “جيل زد 212” بنهاية العمر السياسي لعزيز أخنوش؟، حزب التجمع الوطني للأحرار في مأزق

منذ اندلاع احتجاجات “جيل زد 212” أواخر سبتمبر 2025، دخل المشهد السياسي المغربي مرحلة غير مسبوقة من الارتباك والاختبار. لم تعد المسألة مجرد تظاهرات محدودة، بل تحوّلت إلى حركة شبابية رقمية عابرة للأحزاب، تحمل في طياتها غضبًا اجتماعيًا عميقًا تجاه النخب السياسية التقليدية، وعلى رأسها رئيس الحكومة عزيز أخنوش وحزبه “التجمع الوطني للأحرار”. ومع اتساع رقعة الاحتجاجات، وارتفاع الشعارات المطالبة برحيل الحكومة، بدأ السؤال يطرح بإلحاح: هل دخل أخنوش فعلاً مرحلة أفول عمره السياسي؟ وهل بات حزب الأحرار في مأزق حقيقي يهدّد استمراريته في قيادة المشهد؟

لم تولد حركة “جيل زد 212” لم تولد من رحم الأحزاب أو النقابات، بل من فضاءات واقعية رقمية شبابية تتّسم بالاستقلالية والجرأة، انطلقت الشرارة إثر حادث مأساوي بمستشفى أكادير، ثم تحولت بسرعة إلى انتفاضة اجتماعية شاملة رفعت شعارات غير مسبوقة، من قبيل: “مستشفيات لا ملاعب”، “نريد الكرامة قبل المشاريع الفاخرة”، و”ارحلوا جميعًا”، هذا الجيل – المولود بين 1997 و2012 – لا يتحدث بلغة النخب القديمة، ولا يثق في وعود الإصلاحات التي تكررت دون أثر ملموس. إنه جيل متصل بالواقع الرقمي العالمي، يقارن ويحاسب ويصور ويبث، ولا يخشى الاصطدام بالرموز السياسية. وبذلك، شكّل ظاهرة جديدة أربكت الحكومة وأحزابها، وفتحت الباب أمام أزمة ثقة عميقة في كامل الطبقة السياسية.

منذ توليه رئاسة الحكومة في 2021، سعى عزيز أخنوش إلى تقديم نفسه كرجل أعمال ناجح قادر على إدارة الدولة بمنطق الفعالية الاقتصادية، وأعطت حكومته وعودا كشفتها الأيام بأنها دعاية وكلام افتراضي، لكنه بعد أربع سنوات من رئاسة الحكومة، يجد نفسه في مواجهة احتجاجات تضعه في قلب المساءلة الشعبية، لقد تحوّلت صورته من “رجل التقنية والإنجاز” إلى رمز للفجوة بين الدولة والمجتمع. فشعارات المحتجين تركز على غياب العدالة الاجتماعية، وتردي الخدمات الصحية والتعليمية، وغلاء الأسعار، وتراكم الثروات في أيدي قلة. كل هذه العناصر جعلت شخص أخنوش هدفًا مباشرًا للغضب، حتى أصبح اسمه في لافتات الشوارع مرادفًا لـ “العجز عن الإصلاح” و”الانفصال عن الشعب، “ورغم أن رئيس الحكومة يحظى بدعم مؤسساتي قوي داخل الدولة، فإن ما يواجهه اليوم ليس أزمة ظرفية، بل أزمة شرعية سياسية وشعبية. فجيل الشباب الذي خرج إلى الشارع لا يطالب بتعديل وزاري أو بزيادة الأجور فقط، بل بتغيير طريقة الحكم والتواصل، وبفتح أفق سياسي جديد أكثر شفافية ومشاركة.

ومن جهة يبدو أن حزب “التجمع الوطني للأحرار” يعيش أسوأ فتراته منذ توليه قيادة الحكومة، فالحزب الذي دخل الانتخابات الأخيرة بشعار “تستاهل أحسن”، ورفع وعودًا بإصلاح التعليم والصحة وخلق مليون فرصة عمل، يجد نفسه اليوم أمام عاصفة تشكك في كل وعوده، تآكلت شعبيته بسبب الأداء الحكومي الباهت، ومن جهة أخرى، تفكّكت صورته الداخلية بسبب غياب الانسجام بين قياداته وممثليه المحليين. فالعديد من المنتخبين والكوادر باتوا يشعرون بالحرج من الدفاع عن الحكومة أمام موجة الغضب الشعبي، فيما تراجع حضور الحزب في الفضاء العام لصالح مبادرات مدنية وشبابية أكثر جرأة وتأثيرًا، وفي ظل تصاعد الانتقادات، يبدو أن الأحرار فقدوا اللغة السياسية القادرة على التواصل مع الناس. فخطابهم الرسمي لا يزال تقنياً ومتعالياً، بينما يطالب الشارع بخطاب إنساني صادق يعترف بالأخطاء ويقترح حلولاً ملموسة. هذه الفجوة اللغوية والسياسية بين الحزب والمجتمع قد تكون أخطر من الأزمة الاقتصادية نفسها، لأنها تضعف الثقة في مجمل النظام الحزبي القائم.

تواجه الدولة المغربية اليوم مفترق طرق حقيقي، فإما أن تعتمد خيار “الاستيعاب” عبر فتح حوار وطني شامل يستجيب لمطالب الشباب بإصلاح التعليم والصحة والتشغيل، وإما أن تختار نهج “الاحتواء الأمني” الذي قد ينجح مؤقتًا في تهدئة الشارع، لكنه سيضاعف الاحتقان على المدى البعيد، فالتاريخ السياسي المغربي يُظهر أن الأزمات الاجتماعية الكبرى غالبًا ما تنتهي بالتسويات، لا بالمواجهات المفتوحة. ومع ذلك، فإن طبيعة حركة “جيل زد 212” تجعل احتوائها صعبًا، لأنها بلا قيادة رسمية، وبلا مطالب تفاوضية محددة. فهي تعبير عن وعي جماعي جديد، لا يقبل المساومات، ولا يرى في الطبقة السياسية الحالية ممثلاً حقيقيًا له، لذلك، أي تأخر في الاستجابة قد يفتح الباب أمام تصاعد أكبر للاحتجاجات، وربما ولادة قوى سياسية جديدة خارج المنظومة التقليدية، كما حدث في تجارب عربية قريبة.

في ظل هذا الوضع، ما هو سيناريو الإصلاح والاستجابة؟ إذا اختار أخنوش وحكومته نهج الإصغاء والتصحيح عبر إصلاحات ملموسة في التعليم والصحة، وتخفيض الأسعار، وإطلاق مشاريع شبابية حقيقية، فقد يتمكن من استعادة جزء من الثقة وتأجيل الانفجار السياسي إلى ما بعد الانتخابات المقبلة، وفي حال استمرت الحكومة في تجاهل المطالب أو الاكتفاء بالخطابات التبريرية، فإن الشارع سيفقد صبره، وقد تدخل البلاد في دوامة من التوتر السياسي والاجتماعي يصعب التحكم في مآلاتها، إذا واصل “جيل زد212” تعبئته الرقمية والميدانية، فقد يفتح الباب أمام تشكّل قوى مدنية جديدة أو تحالفات انتخابية شبابية قادرة على تهديد هيمنة الأحزاب التقليدية. حينها، سيكون حزب الأحرار أكبر الخاسرين، وقد يُجبر على إعادة هيكلة شاملة أو الانسحاب من قيادة الحكومة المقبلة.

إن الإجابة الدقيقة تقتضي التمييز بين “الأزمة” و”النهاية”، أخنوش يعيش بلا شك أزمة سياسية غير مسبوقة، لكنه لم يفقد بعد أدوات البقاء. فالدولة ما زالت تمنحه الغطاء السياسي، والحزب ما زال متماسكًا في الظاهر، والانتخابات المقبلة لم تحسم بعد، غير أن كل المؤشرات تدل على أن صورته السياسية تآكلت بعمق، وأنه فقد الثقة لدى فئة الشباب التي تمثل مستقبل المشاركة السياسية في المغرب. وإذا لم يُقدم على مراجعة جذرية لنهجه في الحكم، فقد تكون احتجاجات “جيل زد 212” بالفعل بداية أفول نجمه السياسي، وربما إعلانًا غير مباشر عن نهاية مرحلة الرجل القوي في رئاسة الحكومة، إن الأعمار السياسية لا تنتهي بالسقوط الانتخابي فقط، بل حين يفقد الزعيم قدرته على الإقناع والتواصل. وأخنوش يبدو اليوم في منتصف هذه المرحلة الحرجة، بين شرعية دستورية لا تزال قائمة، وشرعية اجتماعية آخذة في التلاشي.

إن ما يجري اليوم في المغرب ليس مجرد احتجاج عابر، بل تحوّل ثقافي وسياسي عميق في وعي الجيل المغربي الجديد. جيل “زد 212” يعلن نهاية عصر الخطابات المكرورة، وبداية زمن المساءلة والمواطنة النشطة، وإذا فهمت النخب هذا التحول واستجابت له بإصلاحات جذرية، فستربح الدولة رهان الاستقرار والتنمية. أما إذا تجاهلته، فسيكون ثمن الجمود باهظًا على الجميع، وعليه، يمكن القول إن احتجاجات جيل “زد 212” ليست بالضرورة نهاية لأخنوش اليوم، لكنها بلا شك بداية نهاية مرحلة سياسية بأكملها، كانت قائمة على الفوقية والبيروقراطية وغياب التواصل مع الشارع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى