المغرب في حاجة إلى عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع


إنّ تغيير الحكومة في المغرب قد يمنح انطباعاً مؤقتاً بالحركية أو “التجديد”، لكنه لا يعالج جوهر الأزمة. الإصلاح الحقيقي ليس في تبديل الوزراء أو تعديل التشكيلات، بل في تغيير فلسفة الحكم ذاتها، عبر ترسيخ فصل السلط، تطليق السلطة من المال، وضمان السيادة الشعبية عبر انتخابات حرة ونزيهة. بدون ذلك، ستظل كل الحكومات مجرّد واجهة تُغيّر وجوهها، فيما يبقى العمق ثابتاً لا يتزحزح. والمغاربة، الذين يتطلعون إلى الكرامة والعدالة والمشاركة الفعلية في صنع القرار، لن يُقنعهم مجرّد تغيير في الشكل ما لم يقترن بتغيير في الجوهر.
تُثار عند كل تعديل أو تغيير حكومي حالة من الجدل العام(في المغرب، كما في دول كثيرة من العالم العربي) هل يكفي استبدال الوزراء أو حتى رئيس الحكومة لإحداث إصلاح حقيقي يمس حياة المواطنين اليومية؟ الواقع أنّ التجربة المغربية، الممتدة منذ الاستقلال إلى اليوم، تؤكد أن مجرد تغيير الوجوه لا يعني بالضرورة تغيّراً في العمق، لأنّ الإشكال الأساسي لا يرتبط فقط بالأشخاص أو حتى بالأحزاب، بل بالفلسفة السياسية الناظمة لعلاقة الدولة بالمجتمع. إنّ السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه ليس: من يحكم؟ بل: كيف يُحكم؟ فطالما بقيت بنية السلطة على حالها، وطالما ظلّ المال يغازل السياسة ويتغلغل في مفاصل القرار، وطالما غابت القطيعة الواضحة بين السلط الثلاث، فإنّ أي تغيير حكومي سيظلّ مجرّد حركة شكلية على سطح المشهد السياسي، لا تمسّ جذور الأزمة. لقد عرف المغرب منذ عقود حكومات متعاقبة، بعضها تكنوقراطي، وبعضها ذو صبغة حزبية، وبعضها خليط بينهما. غير أنّ الملاحظ هو أن هذه التغييرات لم تنتج قطيعة مع الأسلوب التقليدي في إدارة الدولة. فالسياسة المركزية التي تحكم العلاقة بين السلطة والشعب ظلت قائمة، سياسة تقوم على هيمنة الجهاز التنفيذي، وتقييد السلطة التشريعية، وإضعاف السلطة القضائية، مع هيمنة المال والريع على المجال السياسي والاقتصادي.
إنّ أي إصلاح حقيقي يبدأ من إعادة صياغة هذه الفلسفة، لا من استبدال الأشخاص. فالتاريخ السياسي للمغرب يثبت أنّ الوزراء يذهبون ويجيئون، والأحزاب تصعد وتهبط، لكن بنية الحكم تبقى متماسكة في صيغتها التقليدية، وهو ما يجعل الثقة الشعبية في العملية السياسية في تراجع مستمر. أحد الأعمدة المركزية لأي نظام ديمقراطي هو مبدأ الفصل بين السلطات. ورغم أن الدستور المغربي ينص على هذا المبدأ، فإنّ الواقع السياسي يعكس تداخلاً وتغوّلاً يجعل هذا الفصل هشّاً أو صورياً في كثير من الأحيان. فالسلطة التنفيذية تهيمن، بشكل مباشر أو غير مباشر، على عمل السلطة التشريعية من خلال الأغلبية البرلمانية الهشة أو عبر آليات سياسية غير متكافئة. أما السلطة القضائية، ورغم الإصلاحات المعلنة، فما تزال في حاجة إلى استقلالية فعلية، لا شكلية، تجعلها قادرة على محاسبة الفساد ومراقبة السلطتين التنفيذية والتشريعية دون خوف أو تبعية. إنّ بناء دولة القانون يعني أن لا تكون هناك سلطة مطلقة فوق المحاسبة، وأن تُوزّع الوظائف بين مؤسسات مستقلة ومتكاملة، لا بين مؤسسات تابعة ومتشابكة.
من أبرز أوجه الأزمة المغربية أيضاً ذلك التداخل البنيوي بين السياسة والمال. فالسلطة في كثير من الأحيان تتغذى على المال وتعيد إنتاجه في شكل ريع وامتيازات، والمال بدوره يبحث عن السلطة كي يحمي مصالحه ويوسّع نفوذه. هذه العلاقة غير السليمة تفرغ السياسة من مضمونها النبيل، وتحولها إلى آلية لخدمة المصالح الضيقة لا الصالح العام. إنّ التطليق الضروري بين السلطة والمال لا يعني إقصاء رجال الأعمال من الحياة السياسية، بل يعني وضع قواعد صارمة وشفافة تحول دون توظيف الثروة لشراء الولاءات الانتخابية، أو لاستغلال المناصب الحكومية لتكريس الاحتكار الاقتصادي. هذا الفصل يتطلب قوانين انتخابية عادلة، وآليات مراقبة حقيقية لتمويل الأحزاب والحملات الانتخابية، إضافة إلى قضاء مستقل يحاسب الفساد المالي بلا تردد.
لا معنى لأي ديمقراطية بدون سيادة شعبية حقيقية. هذه السيادة لا تتحقق إلا عبر انتخابات حرّة، نزيهة، وشفافة، تكون نتائجها معبّرة بصدق عن الإرادة الجماعية للمغاربة. والمقصود هنا ليس فقط أن تمرّ الانتخابات في أجواء سلمية، بل أن يُرفع عنها كل ضغط سياسي أو إداري أو مالي، وأن تُتاح للمواطن فرصة الاختيار الحرّ دون وصاية أو إغراءات أو تهديدات، السيادة الشعبية أيضاً تعني أن من يُنتخب يمتلك صلاحيات فعلية للتأثير في القرار، لا مجرد ديكور شكلي. فكم من مرة صوّت المغاربة لأحزاب ببرامج إصلاحية جريئة، لكن عند ممارسة الحكم وجدنا أن تلك البرامج وُضعت جانباً لصالح “توازنات عليا” لا علاقة لها بإرادة الشعب.
إنّ كل ما سبق يقود إلى ضرورة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع، يقوم على المبادئ التالية: فصل حقيقي للسلط، بحيث تصبح كل سلطة رقيباً على الأخرى، لا تابعاً لها / استقلال فعلي للقضاء، يضمن سيادة القانون فوق الجميع / فصل المال عن السياسة، من خلال قوانين شفافة وآليات مراقبة ناجعة / انتخابات حرة ونزيهة، تؤدي إلى مؤسسات ذات شرعية شعبية حقيقية / مساءلة ومحاسبة كل مسؤول، بصرف النظر عن موقعه أو حجمه.
هذا العقد الاجتماعي الجديد هو وحده الكفيل بتجديد الثقة بين المواطن والدولة، وإعادة السياسة إلى معناها الأصلي: خدمة الصالح العام.

