قراءة في مسرحية “رد اعتبار”: بين درامية العبث وفكاهة المأساة، هل الحرب ضرورة أم مجرّد إسقاط لمخاوف البشر على خرائط الأرض؟

مسرحية “رد اعتبار” لا تمنح “رد الاعتبار” الحقيقي، بل تكشف أن “الاعتبار “نفسه أصبح مسلوباً، ضائعاً بين حقيقة ووهم، بين بطولة مزعومة وعبثية دامية.

تنتمي مسرحية “رد اعتبار” إلى ذلك النمط المسرحي الذي يخلط بين الواقعي والعبثي، وبين التراجيديا والكوميديا السوداء، ليكشف التناقضات العارية التي يتغذّى منها صراع لم ينتهِ بعد، بل يتكرّر بأشكال أكثر تشظيًا، بل هي تفكيك نقدي للأساطير المؤسسة للصراع، إنها تضع الجمهور أمام مرآة ساخرة، كل طرف يلهث وراء انتصارات رمزية بينما الواقع ينهار، بهذا المعنى، هي مسرحية سياسية بامتياز، لكنها لا تقع في المباشرة أو التلقين، بدلاً من ذلك، تستخدم أدوات الفن بالفن، المفارقة، السخرية، الانكشاف التدريجي، لتزرع الشك في وعي المتلقي.
الحدث البسيط ـ مقاتل يخطف رجلاً على الحدود ـ يتخذ بُعداً رمزياً يتجاوز الواقعة المباشرة ليكشف هشاشة البطولات المزعومة وارتباك الهوية في زمن تتقاطع فيه الحقيقة مع الوهم، والسياسة مع التمثيل.
قبل متابعة التحليل والقراءة في المسرحية، سأقف عند عنوان المسرحية، وهو مدخلا لا محيد لي أي متلق عنه، “رد اعتبار”، هو تركيب إضافي غير معرف، يستعمل غالبا كعنوان أو شعار، فيه طابع مفتوح وعمومي، يحمل شحنة درامية أو سياسية، وكأنه نداء بالفعل، “رد اعتبار فلان أو جماعة ما”، لذا يستخدم في الأدب أو المسرح ليعطي قوة رمزية، بينما “رد الاعتبار” هو التعبير الشائع في اللغة القانونية والاجتماعية، ويعني استعادة الكرامة أو إعادة الحقوق بعد ظلم أو إساءة، سواء كان فرديًا أو جماعيًا، وهو صياغة رسمية تدل على عملية محددة ومعترف بها، الأول يوحي بالفعل المباشر أو النداء، والثاني يرسّخ المفهوم المؤسسي والحقوقي.

تقوم العقدة المركزية في المسرحية على مفارقة، أن المقاتل الشاب يظن أنه أسر “عدوا”، ليكتشف أنه لم يمسك سوى بظل العدو، نسخة زائفة، ممثل عربي في زيّ جندي، هذه المفارقة تحوّل المشهد برمّته من فعل بطولي إلى نكتة سوداء، مخزية، أثرت سلبا على نفسية “المقاتل” الذي ظن في لحظة ما أنه حقق بطولة لم يأت بها غيره، وهنا تبدأ مرحلة تبكيت الضمير والواقع، غير أن النكتة هنا ليست للضحك الخفيف، بل هي سخرية قاسية تكشف أن الحدود التي تُراقَب بالدم ليست سوى مشهد آخر في مسرح أكبر يكتبه “مؤلفون” مجهولون، ويحركون الناس “المقاتل” بخيوط ممنهجة، محكمة الدراسة لخدمة “اجندات”، وهكذا يغدو العدو غامضا، لا يعرف إن كان من لحم ودم، أم صورة عابرة في مسلسل تلفزيوني.
الإشكالية المركزية التي تطرحها مسرحية “رد اعتبار” يمكن صياغتها كالتالي، هل نحن صانعو مصائرنا فعلاً، أم مجرّد شخصيات في نص يكتبه آخرون؟، بهذا المعنى، فإن المسرحية تفكك أسطورة البطولة وتفضح هشاشتها، مبيّنة أنّ ما يُبنى على الأوهام لا يمكن إلا أن ينتهي بالضحك المرّ، آلية السخرية في المسرحية لا تقوم على النكتة العابرة، بل على الكوميديا السوداء التي تجعل الجمهور يضحك من مفارقات مأساوية، هذا الضحك يشتغل كآلية نقدية تفكيكية، شبيهة بما وصفه بريخت بـ “التغريب”، حيث يُدفع المتلقي إلى مسافة نقدية تمكّنه من رؤية الخراب دون الوقوع في فخ التماهي العاطفي، غير أن المسرحية تضع سؤالاً قاسيا: من هو العدو؟، حين يكون الجندي مجرد ممثل عربي في زيّ آخر، بمعنى آخر، هل كل الجنود العرب مجرد ممثلين في مسرحية واحدة، كل واحد يؤدي دوره حسب الخطة، التي حيكت بليل، إنّ الهوية نفسها تتصدع، فالممثل يعيش انشطارًا بينا، عربي يؤدي دور المحتل، فينقلب الانتماء إلى وظيفة مرتبطة بالسيناريو لا بالدم أو التاريخ، وفق منظور آخر، فإنّ هذه الازدواجية تهدد “الهوية السردية”، أي استمرارية الذات عبر الحكي والذاكرة، إنّ الهوية هنا مسروقة لأنها مكتوبة بلغة الآخر، في نصّ لا يملكه صاحبه.

المكان ـ المتراس ـ ليس مجرّد ديكور. إنه رمز مزدوج، من جهة يمثل مأوى للمقاتل وحصنه الأخير، ومن جهة يتحول إلى “خشبة” يُعرض فوقها التباس الواقع بالخيال، على هذا المتراس، لا تُخاض معركة بالسلاح بل بالحوار، بالجدل، بالاتهامات المتبادلة والاعترافات الصادمة، وأمام الجمهور الذي يضحك تارة بينما يحزن في موقف آخر في محاولة بائسة، المتراس هنا في المسرحية “فضاء بينيّ” حيث تُمحى الفواصل بين المسرح داخل المسرح، وبين حياة الشخصيات وحياة المتفرجين، المشاهد يجد نفسه في النهاية متورطاً في العملية المسرحية والحياتية، هل يتفرج على مسرحية أم على واقعه المباشر؟، فالضحك هنا لا ينشأ من مواقف طريفة بل من مفارقات مأساوية، مقاتل يبحث عن بطولة فيجد نفسه محاصراً باللاجدوى؛ ممثل يبحث عن لقمة عيش فيجد نفسه رهينة للبطولة الوهمية، في مسرحية “رد اعتبار”، الضحك المرّ يعيدنا إلى تقاليد مسرح العبث (بيكيت، يونسكو) حيث يغدو الكلام دوراناً في الفراغ، والبطولة مسرحية داخل مسرحية. غير أنّها تتجاوز العبث الأوروبي لأنها مشبعة بمرارة الواقع العربي–الفلسطيني، حيث لا ينفصل العبث عن الدم، غير أن السؤال الأكثر إلحاحاً في المسرحية هو سؤال الهوية، حين يتبين أنّ “العدو” ليس عدواً، ينكشف الفراغ، من نحارب إذن؟ ومن نحاول أن نهزم؟، وتلك هي الإشكالية الكبرى، فالممثل العربي في زيّ الجندي الإسرائيلي يجسد تناقض الانتماء، عربي يؤدي دور المحتل على الشاشة، ليعيش حالة من الانشطار بين صورة مفروضة وذات مسحوقة، والمقاتل الذي يقف أمامه يكتشف أن كل خطاباته البطولية لم تُنتج سوى أسيراً لا يملك إلا ورقاً من نص تلفزيوني، هنا، تطرح المسرحية سؤالاً مؤلماً: هل نحن أسرى صورنا؟ هل الانتماء مسألة دم وتاريخ، أم مجرد دور يُلقى علينا لنؤديه أمام الكاميرا؟”
رد اعتبار” تبرز مسألة السلاح، في ظاهره آلة للفتك، وفي جوهره لعبة صدئة لا يلم بها حاملها، وهنا ينفجر الوضع الداخلي للمقاتل، يحرس الحدود وكأنّه يحرس حدود الوجود نفسه، فالتقى خصمه في لحظة تتقاطع فيها الإرادات، وحين شدّ عليه قبضته، أحسّ بوهج النصر يضيء داخله، لكن تفتيشه للبندقية كشف فراغها، آلة الحرب لم تكن سوى جماد بلا فعل، عندها انقلب المعنى؛ لم يعد العدو خصمًا مسلّحًا، بل إنسانًا عاريًا أمام صلابة الوهم، أدرك الجندي أنّ الصراع في جوهره ليس بين سلاح وسلاح، بل بين خوفين يتواجهان على خط مرسوم بخطاب القوة، غدت الحدود رمزية، والجندي الآخر مرآة هشاشته، ليقفز السؤال هائما، هل نحن نحرس الأرض أم نحرس أوهامًا تتداعى حين تصمت البنادق؟، “المقاتل” كان يظنّ أنه يحرس خطًا مرسومًا على الأرض، فاصلاً بين “هنا” و”هناك”، بين “نحن” و “هم”، غير أنّ اللحظة التي أسر فيها جنديًّا من العدو قلبت المفهوم رأسًا على عقب. لقد أمسك به بوصفه رمزًا للتهديد، إلّا أن اكتشافه أنّ بندقيته لا تعمل جعل المعنى يتهاوى أمام عينيه، ما قيمة الانتصار على خصم أعزل؟ وما جدوى الحراسة إذا كان الخوف أكبر من الخطر؟، تبدّت له الحدود فجأة كجدار من الوهم، مرسوم في الخيال أكثر مما هو محفور في التراب، أدرك أن العدو لم يكن سوى إنسانٍ آخر، مثله تمامًا، مسكونٍ بالبرد والوحشة، يحمل بندقية صامتة تفضح زيف الحرب، هنا ارتجّ داخله سؤال الوجود، هل الحرب ضرورة أم مجرّد إسقاط لمخاوف البشر على خرائط الأرض؟
لقد اكتشف الجندي أن السلاح ليس دائمًا مصدر القوة، بل قد يكون قناعًا يخفي هشاشة الكائن، فحين يسقط القناع، يلتقي الإنسان بالإنسان في براءته الأولى. وربما الحدود ذاتها ليست إلا استعارة عن الجدار الذي يبنيه كل طرف في داخله ليحمي ذاته من الآخر، في لحظة صمت البندقية، انكشف له أن ما يحرسه في العمق ليس الوطن فقط، بل أوهامه، يقينه بأن له “عدوًّا” يستحق الحراسة والقتل، ذلك الاكتشاف حوّل النصر إلى مرآة وجودية، لم يعد يرى نفسه جنديًّا منتصرًا، بل إنسانًا واقفًا أمام فراغ المعنى، في صمت الليل، سأل ذاته، إذا كانت الحدود مجرّد فكرة، وإذا كان العدو مجرّد انعكاس، فماذا يبقى من الحرب غير خواء؟، لقد غدا يقينه هشًّا، كأن البندقية الصامتة لم تكن تخصّ الأسير وحده، بل تخصّه هو أيضًا، تكشف أن القوة الكبرى ليست في الحديد، بل في مواجهة الحقيقة العارية، أن العدو الحقيقي قد يكون في الداخل لا في الخارج. تُبرز مسرحية “رد اعتبار” أن الصراع الذي نعيشه ليس سوى مسرحية مفتوحة بلا نهاية، حيث يُعاد إنتاج السيناريو بأجيال جديدة من الممثلين، بينما النصّ الأساسي ثابت، النهاية المفتوحة ـ هل يُسدل الستار أم لا؟ ـ تكشف أنّ الاعتبار الحقيقي لم يُسترد بعد، بل لا يزال معلقًا بين الوهم والواقع، بين الهوية الممزقة والسلطة المهيمنة، من هنا، يمكن القول إن المسرحية تمثل مثالاً متقدماً على المسرح السياسي–الفلسفي، حيث يُمزج بين السرد الدرامي والبعد النقدي النظري في آن واحد، وحين تصل المسرحية إلى نهايتها، لا يُحسم النزاع ولا يُعرف مصير الشخصيات. يبقى السؤال معلقاً، من يقرر متى يسدل الستار؟ ربما هذه هي الرسالة الأعمق، الصراع الذي يعيشه الواقع العربي–الإسرائيلي ليس له نهاية مرتبة على شكل مشهد أخير، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بالمصير أو الحل، إنه مسرحية مستمرة، كل جيل فيها ممثلون جدد، لكن النص ذاته يعاد إنتاجه.

ما اثار انتباهي في العرض المسرحي هو استحضار شخصية “شايلوك” في مسرحية “تاجر البندقية” لوليام شكسبير (كتبت بين 1596 و1598، غير أنه لم يتم التصريح من هو”شايلوك” وإلى أي عالم ينتمي، ( ليس كل الجمهور قرأ مسرحية “تاجر البندقية” أو له دراية بأعمال شكسبير)، تمثل إحدى أعقد الصور الإنسانية التي صاغها شكسبير، إذ تجمع بين كونها ضحية للتمييز وضحية لهواجسها الداخلية في آن واحد، شايلوك يهودي يعيش في مجتمع مسيحي يطارده بالازدراء، يصفونه بالطماع، ويحتقرونه بسبب دينه، لكن هذا الاضطهاد يغذّي داخله نزعة انتقامية تتجسد في شرطه الغريب، رطل من لحم أنطونيو بدل المال، بهذا الشرط ينقلب من صورة المظلوم إلى صورة الجلاد المحتمل، ومن إنسان يسعى إلى الاعتراف بكرامته إلى آخر يختزل العدالة في فعل انتقامي جسدي. إن خطبته الشهيرة “ألليست لليهود عينان؟” تكشف بعمق أن إنسانية الإنسان لا تنفصل عن آلامه وأحقاده، وأن من يُقصى قد يردّ الإقصاء بمثله، عند مقاربة هذه الشخصية بمسرحية “رد اعتبار” (التي تتناول ثيمة الإنصاف وإعادة الاعتراف بمن همشهم التاريخ أو المجتمع)، يمكننا أن نقرأ “شايلوك” كصوت لم يُمنح فرصة “رد اعتبار”، لقد حوكم لا بوصفه إنسانًا له جراح، بل باعتباره رمزًا للشر والجشع، وهنا تكمن المفارقة، في حين تسعى مسرحية “رد اعتبار” إلى إعادة الكرامة لمن سُلبت منهم، يظل “شايلوك” في نهاية”تاجر البندقية” عاريًا من كل شيء؛ ماله، دينه، وحتى كبرياؤه. كأن المجتمع لا يكتفي بإفشال رغبته في الانتقام، بل يسلبه ذاته.
من زاوية فلسفية، يشير هذا التوازي إلى جدلية العدالة والاعتراف. العدالة ليست مجرد تطبيق للقوانين أو كبح للانتقام، بل هي قبل كل شيء قدرة المجتمع على رؤية الآخر كإنسان كامل، حتى وهو خصم. في “تاجر البندقية” فشلت البندقية في احتضان هذه الرؤية، فظل “شايلوك” ضحية مضاعفة، ضحية تمييز خارجي، وضحية تحوله هو إلى مرآة لهذا التمييز. أما”رد اعتبار” فتطرح إمكانية الخروج من هذه الحلقة المفرغة عبر إعادة تعريف الآخر لا كعدو، بل كشريك في التجربة الإنسانية، عند قراءة شخصية شايلوك في “تاجر البندقية” وربطها بمسرحية “رد اعتبار“، يمكننا أن نمدّ الخيط إلى قضايا سياسية معاصرة تتعلق بمكانة الأقليات في المجتمعات الحديثة، “شايلوك” ليس مجرد شخصية يهودية محاصرة بالتحيز في البندقية، بل هو استعارة كونية لكل “آخر” يُدفع إلى الهوامش بسبب دينه أو لغته أو لونه أو هويته الثقافية، لنرى كيف يمكن للاضطهاد الطويل أن يولّد انتقامًا يتخذ شكل عدالة زائفة، وهو ما نلمسه في حاضرنا حيث تتحول بعض حركات الأقليات إلى ردود فعل عنيفة نتيجة الإقصاء المزمن، في المقابل، مسرحية “رد اعتبار” تقدّم وجهًا آخر، كيف يمكن لمجتمع أن يعيد قراءة تاريخه ليمنح المهمّشين صوتًا وكرامة، هذه الفكرة تجد صداها اليوم في النقاشات حول حقوق اللاجئين، السكان الأصليين، والأقليات الدينية والعرقية، حيث لم يعد كافيًا الاكتفاء بمنع العنف ضدهم، بل المطلوب إعادة الاعتراف بإنسانيتهم بوصفهم شركاء كاملين في صياغة الحاضر، من منظور فلسفي سياسي، يمكن القول إن “تاجر البندقية” تكشف مأزق المجتمعات التي تحمي الأغلبية وتقصي الأقلية، بينما مسرحية “رد اعتبار” تفتح الباب أمام إمكانية عدالة تستند إلى الاعتراف، لا إلى القوة، إن إكراه “شايلوك” على التنصّر في نهاية المسرحية يوازي سياسات معاصرة تحاول إذابة الأقليات قسرًا في هوية الأغلبية، بدل قبول تعدد الهويات، اليوم، في زمن تتصاعد فيه النزعات القومية والشعبوية، يصبح “شايلوك” رمزًا تحذيريًا، حين يُقصى الإنسان ويُختزل في هويته الضيقة، فإن المجتمع يدفعه إما إلى الانكفاء أو إلى العنف. وفي المقابل، تمثل “رد اعتبار” دعوة لإعادة صياغة العلاقة بين “الأنا” و”الآخر” على أساس الاحترام المتبادل. بهذا المعنى، فإن “شايلوك” ليس شخصية من الماضي، بل مرآة حاضرة، تحثّنا على التفكير في سؤال جوهري، هل نبني مجتمعات تُقصي المختلف وتحتفل بانتصار الأغلبية، أم نؤسس لفضاء سياسي تُرد فيه الاعتبار للأقليات باعتبارهم شركاء في الإنسانية والوجود؟
هكذا يغدو الربط بين المسرحيتين محاولة لفهم أن الإنسان لا يُختزل في أخطائه أو أحقاده، وأن استعادة كرامة المهمَّشين ليست منّة، بل شرط أساسي لبناء عدالة تتجاوز الانتقام نحو الاعتراف المتبادل.
اللحظة الختامية للمسرحية تُوجزها جملة السؤال، هل نحن من يكتب أقدارنا، أم مجرد كلمات في سيناريو يخطّه آخرون؟، هذا السؤال يعيدنا مباشرة إلى تحليلات حول السلطة، فالسلطة ليست مجرد قمع مباشر، بل إنتاج للخطاب والأدوار، المقاتل والممثل معًا ليسا سوى أدوات ضمن بنية سلطوية كبرى (السياسة، الإعلام، السرديات القومية) تفرض نصوصًا جاهزة على الأجساد والوعي.
ذروة المسرحية تتجلّى في سؤالها الختامي، هل نحن من يكتب أقدارنا، أم مجرد كلمات في سيناريو يخطّه آخرون؟، هذا السؤال يتجاوز حدود المسرحية ليطال مفهوم السلطة كما حلّله ميشيل فوكو: السلطة لا تُمارَس فقط بالعنف المباشر بل أيضاً بالخطاب، بالسيناريوهات الجاهزة التي تجعل الأفراد أدوات في لعبة أكبر.
المقاتل والممثل كلاهما محكومان بالنص: الأول يعيش سيناريو البطولة والشهادة، والثاني يعيش سيناريو الإنتاج التلفزيوني والدور المفروض. والاثنان مجرد ممثلين على خشبة أوسع: خشبة التاريخ والسياسة، إن النجاح الجمالي للمسرحية يكمن في توازن دقيق بين التوتر الدرامي والبعد الكوميدي، فكلما تصاعد التوتر بين المقاتل والممثل، جاء عنصر هزلي ليكسر الجدية ويفتح أفق التفكير، هذه التقنية تحاكي مقولة برتولت بريخت عن “التغريب”، حيث يُمنع المتلقي من الاندماج العاطفي الأعمى ليظلّ في حالة وعي نقدين فالمسرحية لا تقدّم حلولاً أو أجوبة، بل تمارس وظيفة تفكيك الأساطير، أسطورة الانتصار، أسطورة البطولة، أسطورة العدو الواضح، إنها تُجبر الجمهور على إعادة التفكير في خطابات مألوفة من خلال مفارقات قاسية.
بهذا المعنى، فهي ليست مسرحية مباشرة في خطابها السياسي، بل نصّ تفكيكي يستخدم الدراما والفكاهة السوداء كأدوات لتحرير التفكير، من هنا، تكمن قوة “رد اعتبار” في أنها لا تمنح “رد الاعتبار” الحقيقي، بل تكشف أن الاعتبار نفسه أصبح مسلوباً، ضائعاً بين حقيقة ووهم، بين بطولة مزعومة وعبثية دامية.
مسرحية “رد اعتبار” من إخراج هشام سليمان تندرج ضمن ما يمكن تسميته بالإخراج الواقعي الذي يسعى إلى خلق وهم الحياة على الخشبة، حيث يتعامل المخرج مع الممثلين كعناصر حية تتحرك ضمن فضاء مفتوح يقترب من الواقع الملموس. سليمان يدير الممثل بطريقة توحي باللعب الحقيقي، بحيث لا يبدو الأداء مجرد تمثيل خارجي أو تقليد سطحي، بل يتحول إلى فعل درامي نابض بالصدق الداخلي والانفعال العضوي، إن التمثيل في هذا السياق ليس تقمّصًا جامدًا لشخصية مكتوبة مسبقًا، بل هو عملية مستمرة من إعادة الاكتشاف والتجريب داخل العرض، مما يجعل المشاهد يشعر أن ما يحدث على الركح ليس مصطنعًا بل تجربة إنسانية حقيقية تجري أمامه، واعتقد أن هشام سليمان منح شخصيات المسرحية نفسا حرا غير أنه مقيدا بتعليمات الضرورات التي لا تبيح المحظورات، على مستوى السينوغرافيا، فإن سليمان يتعامل مع قطع الديكور والعناصر البصرية بوصفها شريكة في بناء الحدث المسرحي لا مجرد خلفية صامتة، فهو يوزع الممثلين والقطع على الركح بطريقة تتيح التفاعل الديناميكي بينها، حيث يتحول السرير أو الصندوق أو حتى الفراغ نفسه إلى جزء من الفعل الدرامي، هذه الرؤية تجعل السينوغرافيا مرآة للحالة النفسية والاجتماعية للشخصيات، وتضفي على العرض أبعادًا رمزية دون أن تبتعد عن الواقعية التي يحرص المخرج على تثبيتها، أما الإضاءة” فهي ليست أداة تقنية ثانوية، بل عنصر أساسي لفهم العملية المسرحية. حيث يستخدم الضوء لتشكيل المعنى، يكثّف عبره الحالة الدرامية، ويفصل بين العوالم الداخلية والخارجية للشخصيات، الإضاءة قد تتحول إلى كاشف للمخفي أو إلى وسيلة للتعتيم والإيحاء، فهي في “رد اعتبار” ليست مجرد إضاءة للفضاء، بل لغة بصرية قائمة بذاتها، من خلالها يمكن للمتفرج أن يتتبع التحولات النفسية، أو أن يقرأ مستويات متعددة من الدلالة في لحظة مسرحية واحدة، لتصبح “الإضاءة” شخصية محورية واضحة ضمن الشخوص الركحية، أما التموضع على الركح، فهو عملية دقيقة يشتغل عليها المخرج باعتبارها العمود الفقري للعرض، حركة الممثل على الخشبة ليست اعتباطية، بل محسوبة بدقة لتعكس شبكة العلاقات بين الشخصيات، وصراعها الداخلي، وموقعها ضمن البنية الاجتماعية التي ينتقدها النص، يتوزع الممثلون في الفضاء المسرحي بطريقة تكشف التوتر، أو تعزز الانعزال، أو تبرز السلطة، وهو ما يتيح للمشاهد قراءة العرض بوصفه خطابًا بصريًا لا يقل أهمية عن الحوار المنطوق.
بهذا المعنى، يقدم هشام سليمان إخراجًا واقعيًا لكنه ليس جامدًا أو تقريريًا، بل واقعية نابضة، تتأسس على اللعب الصادق، والتعامل العضوي مع السينوغرافيا، والاستخدام الذكي للإضاءة، والتوزيع المحكم للممثلين، كل ذلك يجعل “رد اعتبار” تجربة مسرحية تشتبك مع الواقع لكنها تحوّله إلى مادة جمالية وفكرية في آن.قدمت مسرحية “رد اعتبار” على خشبة القصر الثقافي النصراوي، بمدينة الناصرة، الثلاثاء 30 سبتمبر/أيلول 2025، وهي من إنتاج مركز الابداع والثقافة الجماهيرية 2025، إخراج الفنان هشام سليمان، وتأليف رائد شمس، وتمثيل كل من رائد شمس وأمجد بدر، الموسيقى معين دانيال، الإضاءة مطانس مزاوي، الملابس صابرين حسون طافش، سينوغرافيا مروان صباح، تقنيات كاملشعبان، تدريب قتال عبد صبحيات، إدارة إنتاج هيتم لوابنة.


