قراءة سوسيولوجية وسياسية: الاحتجاجات في المغرب بين صوت المقهورين والمناورات السياسية

تسعى هذه الدراسة التحليلية إلى مقاربة الظاهرة من خلال ثلاث مستويات: الاجتماعي-الاقتصادي، الإداري-المؤسساتي، والسياسي-الانتخابي، مع تقديم مقاربة أكاديمية حول الخيارات المتاحة أمام الدولة والمجتمع.

تشهد الساحة المغربية بين الفينة والأخرى موجات احتجاجية بأشكال مختلفة، تتراوح بين مسيرات سلمية محدودة واحتجاجات جماهيرية أوسع، وغالباً ما تُثير هذه التحركات تساؤلات عميقة حول دوافعها، سياقاتها، ومآلاتها، فهل تعكس هذه الاحتجاجات صرخة اجتماعية صادرة عن المقهورين والعاطلين والعطشى، أم أنها صحوة مدنية للمطالبة بإصلاح طرق تسيير الإدارات وتحسين الحكامة؟ أم أنّها جزء من لعبة سياسية ممنهجة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، حيث يسعى بعض الفاعلين إلى توظيف الشارع لخدمة أجنداتهم؟، ثم، كيف ينبغي للسلطات التعامل مع هذا الحراك، عبر الحزم والاعتقالات، أم عبر المراقبة والتتبع مع محاولة الاستيعاب والحوار؟

لفهم هذه الظاهرة، سنعتمد مقاربات نظرية من سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية ونظرية الحرمان النسبي ونظرية الانتقال الديمقراطي، من أجل مقاربة شاملة تدمج الأبعاد الاجتماعية، المؤسساتية، والسياسية.

لا يمكن فهم أي حراك احتجاجي في المغرب خارج السياق الاجتماعي والاقتصادي. فالتفاوتات المجالية والطبقية، وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، وغلاء الأسعار، وتراجع القدرة الشرائية، كلها عوامل تغذي مشاعر التهميش والإقصاء. يضاف إلى ذلك معضلة ندرة المياه في بعض المناطق الريفية وشبه الحضرية، ما يجعل العطش ليس مجرد تعبير مجازي عن الغبن، بل واقعا يومياً يهدد الحياة الكريمة.

من منظور سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، يمكن اعتبار هذه الاحتجاجات امتداداً لظاهرة “الاحتجاج اليومي” التي وصفها ألان تورين، حيث تخرج الفئات المهمشة لتعبّر عن مطالبها ليس بالضرورة عبر قنوات مؤسساتية (الأحزاب، النقابات)، بل عبر الشارع كفضاء بديل لتمرير الرسائل. فالاحتجاج هنا يُعتبر لغة الفئات المقهورة للتعبير عن أزمة بنيوية في توزيع الثروات والفرص، ويمكن تفسير جزء كبير من الاحتجاجات في المغرب من خلال نظرية الحرمان النسبي (Relative Deprivation Theory) كما صاغها تيد روبرت غور (Ted Robert  Gurr). فحين يشعر المواطنون بأن واقعهم لا يتناسب مع توقعاتهم أو وعود الدولة، يولد ذلك شعوراً بالغبن يدفعهم للاحتجاج.

غياب العدالة الاجتماعية، تفاقم البطالة بين الشباب، العطش في بعض المناطق، التهميش، عزلة بعض المناطق، انعدام المستشفيات، وارتفاع الأسعار، كلها مظاهر لحرمان اجتماعي نسبي، ليس بالضرورة أن يعيش المواطن في فقر مدقع ليحتج، بل يكفي أن يقارن وضعه بغيره أو بوعود التنمية التي لم تتحقق.

في هذا السياق، تندرج الاحتجاجات المغربية ضمن ما يسميه الباحث ألان تورين بـ”الحركات الاجتماعية الجديدة”، حيث يصبح الشارع وسيلة للتعبير عن الرفض حينما تغيب الوسائط المؤسساتية الفعّالة (الأحزاب، النقابات).

كما أن غياب قنوات فعالة للوساطة الاجتماعية ـ بسبب تراجع أدوار بعض الأحزاب والنقابات، إن لم نقل انعدامها، يعمّق من لجوء الناس إلى الشارع باعتباره السبيل الوحيد للضغط والتعبير. هذه الاحتجاجات إذن، تحمل في جوهرها بعداً مطلبياً مشروعاً، ينادي بتصحيح الخلل الاجتماعي.

بعيداً عن الجانب الاقتصادي، ثمة قراءة أخرى ترى في هذه الاحتجاجات صحوة مدنية موجهة ضد أنماط تدبير الإدارات العمومية والجهات المنتخبة، فالعديد من المواطنين باتوا يربطون مشكلاتهم اليومية بضعف الحكامة، انتشار البيروقراطية، والمحسوبية، وتأخر الخدمات.

في الأدبيات السياسية، يعتبر تحسين الإدارة أحد ركائز “الحكامة الجيدة”، التي تضمن الشفافية، المحاسبة، والنجاعة. ومن هنا، يمكن القول إن جزءاً من الاحتجاجات يعكس وعياً مجتمعياً متزايداً بضرورة إصلاح آليات التدبير العمومي. فالمواطن لم يعد يكتفي بالمطالبة بالحق في العمل أو الماء أو التعليم، بل بات يطرح سؤال “كيف تُدار مؤسسات الدولة؟” ومن يراقبها ويحاسبها.

البعد الآخر الذي تطرحه الاحتجاجات يتمثل في المطالبة بإصلاح الإدارة العمومية. هنا نستحضر مفهوم الحكامة الجيدة (Good Governance) كما حددها البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الشفافية، المحاسبة، المشاركة، والنجاعة.

المحتجون لا يطالبون فقط بحقوقهم الاجتماعية، بل ينتقدون أيضاً البيروقراطية والزبونية وضعف المحاسبة، وفق منظور “سوسيولوجيا المؤسسات”، تعكس هذه الاحتجاجات أزمة ثقة متزايدة في قدرة الإدارة على الاستجابة لمطالب الناس.

إذن، الاحتجاجات ليست فقط عن “الخبز والماء”، بل أيضاً عن كيفية تدبير هذه الموارد، أي عن نمط الحكامة، وهنا يظهر نوع من الوعي المدني المتنامي في المجتمع المغربي، يعكس انتقالاً من “المطالب المعيشية المباشرة” إلى “المطالب المؤسسية“.

هذه المقاربة تعكس انتقالاً تدريجياً في الثقافة السياسية، من المطالب المعيشية المباشرة إلى المطالب الهيكلية المرتبطة بالإدارة والسياسات العمومية. وهو ما ينسجم مع تحليلات باحثين يرون أن الحركات الاحتجاجية في العالم العربي بعد 2011 لم تعد فقط صرخة جوع، (الجوع إلى الديمقراطية) بل أصبحت في كثير من الأحيان أداة للمطالبة بإصلاح المؤسسات.

لا يمكن فصل هذه الاحتجاجات عن السياق السياسي.، فمع اقتراب الانتخابات، يصبح الشارع مجالاً للمنافسة غير المباشرة بين الفاعلين السياسيين. وفقاً لنظرية الانتقال الديمقراطي (Democratic Transition Theory)، تشكل الاحتجاجات ضغطاً على الدولة لتوسيع الهامش الديمقراطي، لكنها قد تتحول أيضاً إلى أداة توظيف سياسي من قبل بعض الأحزاب أو الفاعلين.

غير أن الطابع السياسي لا يُلغي البعد الاجتماعي. فكما يشير تشارلز تيلي (Charles Tilly) في تحليله للاحتجاجات، فإن الحركات الاجتماعية تنشأ عادة في بيئة “فرص سياسية” ملائمة، لكنها تحتاج إلى قاعدة اجتماعية من السخط الشعبي حتى تكتسب الزخم. لذلك، السياسة قد تركب الموجة، لكنها لا تخلقها من العدم، فالاحتجاجات في كثير من السياقات لا تنفصل عن حسابات الانتخابات، سواء عبر محاولات أطراف معينة ركوب الموجة لاستثمار الغضب الشعبي، أو عبر استراتيجيات لإضعاف خصوم سياسيين.

في المغرب، حيث النظام الانتخابي يقوم على تعددية حزبية واسعة، تلجأ بعض القوى إلى استخدام الشارع كوسيلة غير مباشرة للتأثير في الرأي العام، خصوصاً في الفترات السابقة للاستحقاقات. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى بعض الاحتجاجات باعتبارها جزءاً من سياسة ممنهجة، حتى وإن لم يكن المشاركون فيها واعين تماماً بتلك الأجندات.

غير أن المبالغة في رد كل احتجاج إلى لعبة سياسية فيه قدر من التبسيط، لأن الاحتجاج لا يمكن أن ينشأ في فراغ؛ بل لا بد من وجود أرضية اجتماعية خصبة، أي معاناة حقيقية تولّد الاستعداد النفسي والجماعي للنزول إلى الشارع. السياسة قد تؤطر وتوجه، لكنها لا تخلق من العدم.

يعتمد الخيار الأمني الصارم على الاعتقالات والردع، وفق “نظرية الدولة الأمنية”، هذا الخيار قد يحفظ الاستقرار مؤقتاً لكنه يولد “دوامة القمع”، حيث يتحول المطلب الاجتماعي إلى ملف حقوقي، ما يزيد من حدة الأزمة.

أما الخيار التتبعي/الرقاب، يقوم على الموازنة بين الضبط الأمني والحوار. هذا ينسجم مع ما يسميه يورغن هابرماس الفعل التواصلي”، أي معالجة الأزمات عبر الحوار والاعتراف المتبادل بين الدولة والمجتمع.

التجارب المقارنة تُظهر أن الدول التي تتبنى الخيار الثاني (المغرب في بعض اللحظات، تونس بعد 2011) تحافظ على استقرار أكثر استدامة، بينما الدول التي تبالغ في القمع تواجه انفجارات غير متوقعة.

إزاء هذه الموجات، يطرح السؤال: كيف يجب أن تتعامل الدولة؟

الخيار الأمني الصارم (الاعتقالات والقمع):
هذا الخيار قد يحقق هدوءاً مؤقتاً، لكنه يحمل مخاطر كبرى. إذ يؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطن والدولة، ويحوّل المطالب الاجتماعية إلى ملفات حقوقية وسياسية، كما يُضعف صورة البلاد دولياً. التجارب المقارنة (مصر، تونس قبل 2011) تُظهر أن الاعتماد المفرط على القبضة الأمنية يُنتج استقراراً هشّاً سرعان ما ينهار أمام تراكم الاحتقان.

الخيار التتبعي الرقابي (المراقبة والحوار):
يقوم هذا النموذج على الموازنة بين الحفاظ على الأمن ومنع الانزلاقات، وبين فتح قنوات للحوار والاستماع لمطالب المحتجين. هذا الخيار يتطلب مرونة سياسية، واستعداداً للإصلاح التدريجي، وهو ما ينسجم مع منطق “الاستقرار التشاركي” حيث يُنظر إلى المواطن كشريك في القرار وليس مجرد متلقٍ له.

من الناحية الأكاديمية، الخيار الثاني أكثر نجاعة على المدى الطويل، لأنه يدمج الأمن والتنمية معاً، ويعزز شرعية الدولة عبر الاستجابة لمطالب الناس، ولو جزئياً.

من خلال ما سبق، يمكن القول إن الاحتجاجات في المغرب ليست أحادية البعد، بل هي ظاهرة متعددة الأبعاد: اجتماعية تعبّر عن صوت المقهورين / إدارية تعبّر عن مطلب إصلاح الحكامة / سياسية قد تتقاطع مع أجندات انتخابية، أما التعامل مع هذه الظاهرة، فينبغي أن يكون تركيبياً بدوره، الحزم ضد الفوضى والتخريب / فتح قنوات الحوار والإصلاح / إعادة الثقة في المؤسسات الوسيطة (أحزاب، نقابات، جمعيات).

فالمغرب، الذي اختار مساراً إصلاحياً تدريجياً منذ بداية الألفية، يحتاج اليوم إلى تعزيز هذا المسار عبر الاستجابة العميقة للمطالب الاجتماعية، وتحسين جودة الإدارة العمومية، مع حماية الاستقرار الداخلي.

  الاحتجاجات المغربية هي تقاطعات بين الحرمان الاجتماعي، أزمة الحكامة، والتجاذبات السياسية، ثم أن الحل لا يكمن في خيار واحد، بل في مقاربة شمولية: حزم ضد الفوضى، إصلاح اجتماعي-اقتصادي، وتحسين الإدارة، لذلك وجب تعزيز دور الوسائط (الأحزاب، النقابات، المجتمع المدني) ضرورة لإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.

إن الاحتجاجات الأخيرة في المغرب ليست مجرد أحداث معزولة، بل مؤشرات على تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، تعكس تقاطعات معقدة بين المطلب الاجتماعي المشروع، والرغبة في إصلاح الإدارة، والتجاذبات السياسية الانتخابية. والتحدي الأكبر أمام السلطات ليس مجرد إخماد نار الاحتجاجات، بل فهم جذورها العميقة وتقديم حلول مستدامة، إنها في آن واحد، صرخة المقهورين، دعوة لإصلاح المؤسسات، وأداة سياسية في سياق انتخابي.

التحدي أمام السلطات هو الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق الحكامة الوقائية، أي معالجة الأسباب الجذرية للاحتقان: العدالة الاجتماعية، التنمية المتوازنة، والشفافية المؤسسية. فبهذا فقط يمكن تحويل الاحتجاج من مصدر تهديد إلى فرصة لإعادة بناء الثقة في المشروع الديمقراطي المغربي.

فالاستقرار الحقيقي لا يُبنى بالقوة وحدها، بل على أساس العدالة الاجتماعية، التنمية المتوازنة، وحكامة رشيدة، وإذا استطاعت الدولة المغربية أن توازن بين الحزم والإنصات، بين الأمن والإصلاح، فإن هذه الاحتجاجات يمكن أن تتحول من مصدر قلق إلى فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى