الدراما التاريخية “فتح الأندلس” بين تشويه الحقيقة التاريخية واغتيال الفن والجمال
حميد تشيش – باحث في التاريخ وسيناريست
ملاحظات منهجية لابد منها
يتصف الاشتغال على التاريخ دراميا بمزايا عديدة على المستوى المعرفي والفني والجمالي، لاحتوائه على معطيات كمية قادرة على إعادة تركيب الماضي في لوحات متناسقة بعد إعادة تجميع وترتيب وتصنيف وتحليل وتركيب تلك المعطيات المتناثرة في الزمان والمكان، باعتماد منهجية علمية تروم بلوغ الحقيقة التاريخية بطريقة مدركة وواعية، ومن ثمة إعادة صياغة الأحداث والمعطيات التاريخية في قالب فني بعد صهرها بالخيال الذي يسعى إلى تطوير ونماء وسمو الحقيقة التاريخية وليس تشويهها ومسخها وتزييفها، بالاعتماد على الآليات والقواعد والمناهج المعتمدة في البحث التاريخي والإبداع الفني.
والاشتغال على التاريخ فنيا هو محاولة معرفة وإدراك الواقع الحالي الذي نعيشه، خاصة إذا ما كانت المقاربة موضوعية وعلمية وبعيدة عن الإيديولوجية والتوجيه والمراقبة، مع التحرر من النظر إلى الموضوع من زاوية الرواية التاريخية الرسمية، لأن أغلب المشاكل التي تواجهنا في عصرنا الحالي تجد جذورها ومسبباتها في الماضي باعتبارها مشاكل استعصى حلها في وقتها، وهذا يتطلب توفر كاتب درامي ملم بصنعته وباحث مجرب في تاريخ الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداث موضوعه، متمكن من أدواته التعبيرية بتصور فني وجمالي يتجاوز الانبهار بالتاريخ والتراث إلى استنطاقه وقراءته نقديا وتفسير مناطق الغموض فيه وهي كثيرة.
مناسبة هذا القول هو الدراما التاريخية “فتح الأندلس” من إنتاج شركة البراق للإنتاج الفني، وإخراج محمد سامي العنزي وكتابة جماعية للسيناريو في إطار خلية للكتابة ضمت المخرج نفسه، وتشخيص من قبل نخبة من الممثلين العرب، التي تبثها القناة الأولى المغربية وقنوات عربية أخرى ابتداء من أول شهر رمضان الحالي 1443، تلك السلسلة التي أثارت الكثير من الانتقادات والتذمر والنفور من قبل فئات عديدة في المجتمع وأفراد ينتمون لهيئات مهنية وتمثيلية بلغت حد المطالبة بإقامة دعوى قضائية ضد المشرفين على إنتاج وبث السلسلة، أو مراسلة “الهاكا” من طرف مجموعة من الباحثين والمتخصصين في التاريخ مطالبين إياها بالوقف الفوري لبثها، ناهيك عن تعبير عدد كبير من المتتبعين عن سخطهم وتذمرهم من أحداثها عبر وسائط التواصل الاجتماعي واتهام المشرفين على إبداعها بالوقوع في أخطاء تاريخية عديدة مسخت وشوهت الحقيقة التاريخية، وهم على حق في تقديرنا لأن تلك الدراما التاريخية تقدم قراءة متعالية عن الواقع للتاريخ ، بالارتكاز على مناهج علمية ورؤية تقليدية تكرس ضبابية وغموض الأحداث التاريخية باعتماد التفسير الغيبي والأسطوري وتكريس الإثنية والقبلية والإقليمية عوض التفسير العلمي بوصف التاريخ علم له موضوعه وقوانينه التي تحكم مساره وصيرورته وتصوغ بالتالي تصوراته–1–.
وكإغناء للنقاش الدائر حول هذا العمل الفني، ستحاول هذه الورقة التي لا تدعي لنفسها الاكتمال، أن تقوم بقراءة نقدية لهذه الدراما التاريخية وتبيان مناحي القصور فيها سواء على مستوى الأحداث التاريخية التي شكلت موضوعها أو مقاربتها الفنية على مستوى الكتابة والتصور الإخراجي وباقي المكونات الفنية من أزياء وديكور وإكسسوارات وإضاءة كما يلي:
الكتابة الدرامية وتشويه الحقيقة التاريخية في سلسلة فتح الأندلس
أ) اختلالات الكتابة الدرامية في سلسلة فتح الأندلس
إن الفنان يدرك الأشياء ويكتشفها عندما يدرك خصائصها في تعامله مع الوسيط الفني، بما يمثله من أدوات فنية لتحويل هذا الوسيط الفني إلى عمل إبداعي من خلال إبداع وإعادة إبداع داخل المساحة الإبداعية-2-، والإدراك
الجمالي والفني للموضوع المشتغل عليه هو نشاط فكري إبداعي يستدعي الخبرة الفنية والجمالية والعمق الفكري بخلفية فلسفية وحتى سياسية، لأن المؤلف في الدراما التاريخية يحتاج إلى التصوير المركب للشخصيات التاريخية لأنها شخصيات من الحياة ومن الواقع ولا تسمو ولا تعلو عليهما ،وعليها أن تكون قابلة للنقد بإزالة القداسة عنها التي تكرسها الروايات التقليدية للتاريخ التي أضفت عليها صورا ملائكية نقية طاهرة ،كما حصل لبطلي السلسلة موسى بن نصير وطارق بن زياد، في مخالفة صريحة ومستفزة لمقتضيات الصدق الدرامي والحقيقة التاريخية كما سنوضح ذلك.
فالكتابة الدرامية للسلسلة لم تحترم القواعد المتعارف عليها، من حبكة درامية التي تقتضي اختيار الأحداث وتنظيمها وترتيبها وعرضها وفق قانون السبب والنتيجة مع استحضار عنصر التشويق ،ذلك أن الحبكة الدرامية هي العنصر الأساسي والمركزي في الكتابة الدرامية لأنها تنظم أجزاء العمل الدرامي بطريقة شبه هندسية ككائن واحد، بيد أن الكتابة في هذا العمل الدرامي جاءت مفككة مهلهلة تستند إلى الفجائية في عرض وتقديم الأحداث دون تقصي أسباب نشأتها وتطورها وصيرورتها ،مما ولد النفور وعدم الرضا والتقبل من طرف المتلقي لغياب المنطق الدرامي الذي يعزز ويفسر نشأة الأحداث وتطورها، مع عدم الوفاء للحقيقة التاريخية والإمعان في تشويهها ومسخها بإقحام أحداث لا صلة لها بالواقع التاريخي كما حصل في جل حلقات السلسلة .
أما الصراع الدرامي الذي يمنح الحياة للشخصيات الدرامية ،فجاء خافتا فأضفى بذلك البرودة على حيوية الشخصيات وتفاعلها فيما بينها وعلى طريقة إلقائها لحواراتها كذلك، زاد من حدته تقديم الشخصيات الإسلامية في صورة ملائكية طاهرة، في انتهاك صارخ وصريح للواقع التاريخي، مع اقتراح لغة درامية تخلو من سمات ومقومات الكتابة الفنية من شاعرية وسلاسة ووضوح ،وحوارات مكررة تنتفي فيها المقومات الجمالية للحوار الدرامي، إذ جاءت مملة غير قادرة على إيصال المعنى أحيانا وموغلة في الخطاب الديني، والحوارات التالية مثال على ذلك:
* الحمد لله على نعمة الإسلام، وهو الحوار الذي يتكرر في جميع الحلقات تقريبا على لسان العديد من الشخصيات الإسلامية بدون مبرر درامي.
* هذه بلاد تجذر فيها الظلم وأصبح القوي يأكل الضعيف .
* يا الله كم هو الظلم هنا (يعني في الأندلس حوار جاء على لسان أحد مرافق طريف بن ملوك أو مالك.)
* لقد تفشى الظلم في تلك البلاد وبلغ حدا لا يطاق ولا يمكن السكوت عنه (حوار طارق بن زياد مع القاضي أبا بصير).
* ألا يحاسبنا الله على تقصيرنا في نجدة هؤلاء يا أبا بصير؟
* الحمد لله على نعمة الإسلام ،لقد أخرجنا من حب الأثرة إلى الإيثار ومن حب الذات إلى الفناء من أجل الخير.
وغيرها من الحوارات التي تعكس وتكرس خطابا أخلاقيا بطريقة فجة، مع السكوت عن الحقيقة التاريخية المرة والصادمة التي تؤكد ضلوع أبطال السلسلة موسى بن نصير وطارق بن زياد والقادة العسكريون في إيقاع الظلم والقتل والسلب والنهب على الأهالي الذين استهدفت بلدانهم بالفتح/الغزو سواء في شمال إفريقيا أو الأندلس وغيرهما في شرق الخلافة الأموية ،وعلى هذا الأساس جرى تشويه التاريخ بخلق خليط من التشويش بفعل كثرة التناقضات التي طفت على سير أحداث السلسلة وتحكمت في مفاصل بنائها الدرامي مع تقديس أبطالها بشكل مفرط ومحاربة أي مشكك في قداستهم ،في خصام مع كل مقاربة علمية للتاريخ وشخصياته تتغيب مراعاة اتصال الأحداث بعضها ببعض بسلسلة من الأسباب والنتائج واستبعاد الصدفة ،والسماح لكل شيء أن يحدث في العمل الدرامي بطريقة ما كان يمكن أن يحدث غيرها–3– ، وهذه هي مهمة الكاتب الشاطر الذي يحترم قواعد الكتابة الدرامية والبحث التاريخي، بالتسلح بالأداة العلمية في التحليل والتفسير والمقارنة والجرأة لبلوغ الحقيقة التاريخية، ذلك أن إخلاص الكاتب تاريخيا يكمن في التصوير الفني الصادق لنقاط التحول الكبيرة في التاريخ والقدرة على معالجة الحقائق بأكبر قدر من الحرية… لأن صدق العواطف والمشاعر الفعلية في الظروف المتصورة هو ما يتطلبه عقلنا من الكاتب الدرامي–4– لأن علاقة الكاتب الدرامي مع الواقع التاريخي لا ينبغي أن تكون مختلفة عن علاقته بالواقع ، إذا ما استحضرنا القوانين المتحكمة في الحياة وصيرورتها، لذا ينبغي على الكتابة أن تتضمن جملة من العلامات والرموز التي تشتغل وفق نظام خاص في تفاعل مع باقي المكونات التعبيرية ،من إخراج وتشخيص وتأثيث في إنتاج المعنى وإغناء الخطاب الفكري والفني والجمالي ،وبذلك تتحقق إعادة بناء واقع تاريخي مثير وجذاب بواسطة القدرة الخارقة للمخيلة بالاستناد على الصدق والموضوعية.
فهل تحقق هذا الصدق في معالجة الكتابة الدرامية للموضوع المشتغل عليه؟ وهلاحترمت الموضوعية والحياد العلمي في تحليل وعرض وبسط مضامين الموضوع؟
ب) تشويه الحقيقة التاريخية في سلسلة فتح الأندلس
تتجلى أهمية الدراما التاريخية وفائدتها في استدعاء سنن التاريخ والقوانين التي حكمت معاركه وصراعاته وصيرورته،وهي الأقدر على توظيف الدروس والعبر في خدمة قضايا ومشكلات وتحديات الواقع المعيش ،لأن سلاح الدراما التاريخية أفيد في التربية والتهذيب والتثقيف ،وفي تجذير المقاصد والغايات في نفوس المشاهدين–5–.
ولما كانت غاية المؤرخ هي كشف الحقيقة الموضوعية، فإن المبدع المشتغل على التاريخ يتوجب عليه إبداع تصور فني وجمالي لموضوعه بالاعتماد على رؤية نقدية تفسيرية للوقائع التاريخية ،للوقوف على عناصر الصدق فيه، حتى يتمكن المشاهد من تحقيق ذاته في ما يستهلكه من فرجات ويحس حياته اليومية من خلال القضايا والقيم التي يعكسها الطرح الفني باستخدام عنصر التشويق وتطويره والتحكم في الانتقالات والتحولات الدرامية بطريقة مقنعة ومنطقية، وغيرها من مقومات وقواعد البناء الدرامي التي تقود التي الصدق التاريخي والفني بوضوح وجلاء، وهو ما افتقد على طول السلسلة التاريخية “فتح الاندلس” التي عبثت بالحقيقة التاريخية وعاثت فيها فسادا، وإليك بعض النماذج إلى حدود الحلقة رقم عشرين من السلسلة:
- اعتماد التفسير الغيبي للتاريخ على مستوى المنهج المؤسس على الخرافة والأسطورة في بعض المصادر والمراجع التاريخية، وتوظيف معطياتها كأنها حقائق تاريخية والتي ترد فيها شخصيات وأحداث لا صلة لها بالواقع
التاريخي وإنما هي من وحي خيال بعض قدامى رواة التاريخ ،كحالة إقحام ابنة حاكم سبتة “جوليان” “فلوريندا” أو “كافا” في بعض المصادر والتي كانت مجهولة عند المؤرخين الإسبان حتى حدود القرن الحادي عشر الميلادي، واعتبار تلك الفتاة محركة للتاريخ وإحدى أسباب فتح الأندلس لرغبة أبيها في الانتقام من ملك القوط “لذريق” أو ” روذريق” الذي اغتصبها وأسرها ،وهذا حوار طارق بن زياد الموجه “لجوليان”، يؤكد ما ذهبنا إليه:
– هذه ابنتك، ومن حقك تجييش الجيوش من أجلها يا جوليان.
- إدعاء الزهد وحسن الطوية ونبل المقاصد والأهداف من طرف موسى بن نصير وطارق بن زياد وتأكيدهما على أن الغاية من الفتح هي نشر الدين الإسلامي وتعاليمه السمحة ،من عدل ومساواة ورفع الظلم وغيرها ،في الوقت الذي تؤكد فيه أغلب المصادر التاريخية والدراسات الحديثة أن موسى بن نصير كان معروفا بنهمه وشرهه للمغانم والسبايا والمال قبل حتى أن يصبح واليا على إفريقية بالقيروان، إذ اتهم باختلاس أموال البصرة لما كان مستشارا لواليها، ولم ينقده من بطش الحجاج سوى تدخل عبد العزيز بن مروان أخ الخليفة الوليد آنذاك حيث لبث يتبوأ لديه أسمى مراتب النفوذ والثقة حتى عينه حاكما على إفريقية …حيث كان صديقا له وحظي بحمايته وحماية بشر بن مروان (الأخ الثاني للخليفة ) … وسيره عبد العزيز بن مروان سنة 84 هجرية إلى برقة فافتتح درنة وسبى من أهلها جموعا كثيرة –6– وغنم ومغانم وفيرة كانت تسيل لعاب الخليفة وبقية الأمراء من حماته وداعميه .
- استمرار موسى في بطشه بالأهالي المسالمين بيد من حديد حيث مزق جموع الثوار ودوخ زناتة وهوارة وكتامة وصنهاجة وغيرها….وأثخن في مفاوز المغرب الأقصى …وأحرز في تلك الغزوات من الغنائم والسبي ما لا يحصى، واستمال إليه وجوه القبائل وحشد في جيشه آلافا من البربر-7-، وهذا كان حال أغلب ولاة وعمال الخلافة الأموية سواء في شرقها أو غربها، وهم بدون شك كانوا يمثلون مشيئة الخلفاء ورغبتهم الجامحة في المغانم والسبايا والنفائس ، فالخليفة يزيد بن عبد الملك عرف بالإفراط في الملذات وبالطمع والجشع وحب المال الذي جمع له عماله منه ما لم يجمع لأحد من قبل، حيث كان ممتنا لسياسة عامله في المغرب الذي أشبع له أطماعه، فقال فيه عبارته المشهورة: ما مثلي ومثل الحجاج وابن أبي مسلم بعده، إلا كرجل ضاع منه درهم فوجد دينارا–8–
ويخبرنا ابن خلدون أن الخلفاء كانوا يطالبون الولاة بالوصائف البربريات والأردية العسلية الألوان وأنواع من طرف المغرب فكانوا يتغالون في جمع ذلك، حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها ولا يوجد منها مع ذلك إلا الواحد وما يقرب منه–9–،والصرمة من الغنم تبلغ ألف رأس، حيث كان يتم ذبح ألف رأس من النعاج الحاملة واستخراج أجنتها وهي في الشهور الأولى للحمل لاستعمال جلودها الناعمة كملابس راقية للخلفاء والأمراء في دمشق.
وعموما يجمع كثير من المؤرخين على سوء معاملة عمال وولاة العصر الأموي الأخير للبربر وإرهاقهم بالمغارم والجبايات واعتبر بعضهم بلاد المغرب دار حرب حتى بعد اعتناقهم الإسلام جريا على سياسية الخلافة الأموية في سائر الأمصار الإسلامية، في انتهاك ومخالفة للقواعد الإنسانية للفتح الإسلامي التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت تلزم الفاتحين بعدم التعرض بالسوء لأهالي المناطق المستهدفة بالفتح مع الحفاظ على ممتلكاتهم وأعراضهم وعدم المساس بها ، وحاول الخليفة عمر بن عبد العزيز وضع حد لتسلط الولاة واستعادة ثقة البربر في الحكومة الإسلامية، فعين على المغرب واليا تقيا هو إسماعيل بن عبيد الله، وأمر بإسقاط الجزية على من أسلم منهم وتحرير من استرق من نسائهم…لكن هذه السياسة انتهت بوفاته وعادت الخلافة الأموية إلى سيرتها الأولى–10– .
وهذا الظلم والعسف الذي كان سياسة ممنهجة من قبل الخلافة الأموية عبر ولاتها وعمالها وبمباركة وتنفيذ قوادها وجنودها في حق أهالي المناطق المستهدفة بالفتح يدفعنا إلى التساؤل وبجراة عن دور المجندين من الأهالي مهما اختلفت مراتبهم في الجيش الفاتح في تلك المآسي وذاك البطش بلا هوادة في حق بني جلدتهم.
فالقرارات تتخذ على مستوى الخلافة مركزيا والتنفيذ يقع على عاتق الولاة والعمال والقواد العسكريين وحتى الجنود سواء في فارس والأقاليم المجاورة شرقا أو في شمال إفريقيا والأندلس غربا ،وطارق بن زياد نموذج للقائد العسكري والمسؤول الإداري الأمازيغي (كان عاملا أو أميرا على طنجة) الذي شارك في الفتح الإسلامي والغزو رفقة موسى بن نصير في إفريقية والمغرب الأقصى قبل أن يقلده ولاية طنجة وهو شاب في الثلاثينات من العمر وليس كهلا كما ورد في السلسلة ،حيث اختاره دون غيره من قدامى القادة العسكريين العرب المجربين لثقته المطلقة فيه باعتباره خادمه ومولاه وهو من جنده في إفريقية إضافة إلى تنفيذه لأوامره بوفاء وإخلاص، خاصة وأننا نعلم أن الكثير من البربر قبلوا على الإسلام وانضموا إلى جيوشه، ولا يكاد الواحد منهم يسلم حتى يسير مع الجيش يغزو معه ويغنم معه–11 –.
والنهاية المأساوية للشخصيتين معا موسى بن نصير وطارق بن زياد إثر خلافهما وخصومتهما حول مغانم وسبايا ونفائس الأندلس ومجد فتحها، تأكيد على انتفاء طابع الطهرانية والاستقامة والجدية والإخلاص والوفاء للمبادئ الإسلامية عن هاتين الشخصيتين وغيرهما، ذلك أن موسى استشاط غضبا لما بلغه خبر تقدم طارق بن زياد نحو شمال الأندلس وهو يجني ثمار غزواته، فتحركت نار الغيرة والحسد في قلبه، فالتحق به على رأس جيش كان هو قائده وفتح عدة مدن وأقاليم بتوجيه ومساعدة من حاكم سبتة “جوليان “وجيشه ،إلى أن التقى بطارق فعاقبه عقابا شديدا وكان موسى كما نعرف غير مجرد من الحسد والشره إلى المغانم –12– حيث تقول بعض المصادر بأن موسى شد وثاقه وأسره ويجمع على ذلك المؤرخون بن عبد الحكم وبن الأثير والمقري والحميدي، وينفرد بن عبد الحكم برواية إطلاق سراحه بعد أن استجار طارق بن زياد بمغيث الرومي القائد العسكري الذي كان مقربا من الخليفة والذي كان عائدا إلى المشرق، ووعده بمائة عبد إذ هو أبلغ أمره إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فقام مغيث بالرسالة ،وبادر الخليفة بالكتابة إلى موسى أن يطلق سراحه ويتوعده إن أساء إليه–13– كما طلب منهما العودة الفورية إلى دمشق ،لخوفه أن يفكر موسى بما عرف من طمعه ودهائه في الاستقلال بذلك الملك الجديد (الأندلس) النائي … وربما كان هذا من البواعث أيضا ما بلغ الوليد من خوف عن مصير وفرة الأموال والتحف النفيسة التي اغتنمت من الأندلس–14–، علما أن موسى كان قد كتب إلى الوليد مخبرا إياه بوفرة المغانم والسبايا بواسطة كتاب قال فيه: إنها ليست بالفتوح ولكنه الحشر ،ثم خرج بغنائمه واستخلف على الأندلس إبنه عبد العزيز، ولما وصل إلى إفريقية استخلف إبنه عبد الله عليها ،وسار بتلك المغانم والسبايا نحو دمشق….فقدم على الوليد وهو مريض مرضه الذي مات منه، فنكبه سليمان (الخليفة الجديد) لأول ولايته وأغرمه مائة ألف دينار وأخذ ما كان له–15– لخلاف حصل بينهما قبل وفاة الخليفة الوليد بن عبد الملك، كما سيدبر مقتل ابنه عبد العزيز والإتيان برأسه من الأندلس إلى دمشق وتقديمه على طبق لأبيه موسى بن نصير.
- إيفاد القائد العسكري طريف بن ملوك أو بن مالك إلى الضفة الجنوبية على رأس فيلق عسكري من مائة فارس وأربعمائة جندي فنزلوا في جزيرة هناك هي التي ستحمل إسم هذا القائد إلى الآن وهي طريفة حيث كانت المهمة استطلاعية وخاطفة إذ أغاروا على بعض القرى وكسبوا عدة مغانم وعادوا إلى طنجة، بيد أن السلسلة أطالت مقامهم ليس في الضفة الجنوبية للأندلس وإنما في قرطبة وغيرها من المدن والأقاليم الأخرى وقدمتهم كدعاة ووعاظ يسعون إلى رفع الظلم عن السكان هناك ،ويقومون بمغامرات عديدة بقرطبة على شاكلة أفلام الكاراتيه التي لا يسندها العقل ولا المنطق، بهجومهم وهم نفر من خمسة أفراد على سجون قرطبة وطليطلة وإطلاق سراح الأسرى، والطامة الكبرى هي التحاق طارق بن زياد بهم في قرطبة وانتقالهم إلى طليطلة للقيام بمغامرات مماثلة لما حصل في قرطبة حيث توجهوا صوب طليطلة وهجموا على سجنها وأنقذوا زميلهم “عمرو” ووصيفة “فلوريندا”، “بيلا” وهو الجواز الثاني لطارق إلى الأندلس بعد الأول الذي جمعه بأحد الأساقفة بقرطبة سابقا رفقة زميله القاضي أبا بصير، مع العلم أن طارق بن زياد لم تطأ قدماه أرض الأندلس إلا زمن الفتح وليس قبله كما تجمع على ذلك كل المصادر والمراجع التاريخية والدراسات الحديثة.
- أوغلت السلسلة إذن في التعتيم عن الحقيقة التاريخية وتشويهها بنظرة متعالية تبرز تفوق العنصر العربي على باقي الأعراق التي استهدفها الفتح الإسلامي وتكريس دونيتهم واعتبارهم أقواما متخلفة جاهلة ،وأن المسلمين جاؤوا ليخرجونهم من ظلمات الجهل والتخلف إلى النور، كما ورد على لسان موسى في أحد المشاهد في القيروان وطارق بن زياد في طنجة ،وتعمد تهميش وإقصاء التاريخ الحضاري المشرق لشمال إفريقيا وإسهام سكانها في بناء عدة حضارات منذ الاحتكاك بالفينيقيين خلال القرن العاشر قبل الميلاد ،وبصمتهم الجلية في بناء الحضارة القرطاجية بتونس الحالية ،سواء على مستوى العمران أو الفكر أو الفن أو من خلال الممالك الأمازيغية التي أسسوها باستقلال عن باقي الأمم والحضارات وعلى رأسها “مملكة نوميديا “على يد “ماسينيسا” سنة 202 قبل الميلاد ومملكة “موريطانيا الطنجية” على يد” بوخوس” سنة 108 قبل الميلاد، دون إغفال المجهودات الجبارة للملك الأمازيغي “يوبا الثاني” والمفكر والعالم الموسوعي الذي وحد المملكتين سنة 25 قبل الميلاد واتخذ لهما عاصمتين الأولى “بشرشال” بالجزائر والثانية “بوليلي” بالمغرب الأقصى، هذا فضلا عن مجهوداتهم في مقاومة الاحتلال الروماني ببسالة وشجاعة بقيادة كل من ” يوغرطة ” و “تاكفاريناس” وغيرهما، إضافة إلى استفادة الرومان من خبرتهم ومهارتهم في مجالات عديدة ، حيث أفرز هذا العصر أعلاما من الأمازيغ في الفكر والآداب والدين والفنون… ثم إن الحياة الفنية في أيام الاحتلال الروماني بالمغرب كانت مزدهرة ونشيطة سواء في صناعة الخزف وتشييد الهياكل المزينة بالأعمدة الرخامية والتماثيل الجميلة ووضع القناطر المتعددة الأقواس الجميلة المنظر وبناء المسارح والحمامات المزينة بالفسيفساء… ويتجلى ذلك الفن الموصوف بالعظمة والجمال خاصة في تلك التماثيل المتناسقة الأضلاع في سائر إفريقية من سوسة إلى وليلي بالمغرب الأقصى –16– التي مازالت آثارها ماثلة إلى يومنا هذا سواء في المتاحف أو في المواقع الأركيولوجية، وهو دليل يدحض ويفند ادعاء الفاتحين إخراج سكان الشمال الإفريقي من ظلمات الجهل إلى النور وتلقينهم قواعد الحضارة والتحضر والتمدن وهو دليل أيضا على القيمة الحضارية لأهالي شمال إفريقيا الذين بلوروا حضارة بخصوصية محلية عقب احتكاكهم بالفينيقيين والقرطاجيين هي الحضارة البونيقية أو البونية، ومشاركتهم في أحداث تاريخية بصمت تاريخ الحضارات القديمة منها مشاركتهم في رحلة “حانون” البحرية الملك والمستكشف القرطاجي التي انطلقت من “قادش” بإسبانيا نحو ليكسوس بالعرائش مرورا بالسواحل الأطلسية المغربية وصولا إلى خليج غينيا في أسطول بحري مكون من ستين سفينة سنة 465 قبل الميلاد، ومشاركتهم الفعالة والحاسمة في فتح الأندلس القديم سنة 237 قبل الميلاد بقيادة الملك القرطاجي “هاميلكار” والمساهمة المتميزة لهم كذلك في” الحروب البونيقية “خاصة الثالثة ضد روما بقيادة “هانيبعل ” القرطاجي ابن “هاميلكار”، الشيء الذي يؤكد المعرفة الواسعة والشاملة لقدامى سكان الشمال الإفريقي بالأندلس و جغرافيتها منذ غابر الأزمان وقبل مجيء العرب واعتيادهم على الجواز إليها سواء من أجل التجارة أو السياحة أو المغامرة إلخ…..
التصور الفني لسلسلة فتح الأندلس واغتيال الفن والجمال
أ)المقاربة الإخراجية وغياب اللذة الفنية والمتعة الجمالية
تكمن أهمية الدراما التاريخية وروعتها في قيمة البحث التاريخي وقيمة الإبداع الفني والجمالي ،إذ يمتزجان ويتصاهران في بوثقة واحدة لإنتاج فرجة درامية بخلفية تاريخية تعتبر أحسن ما يجمع ما بين الثقافة والمتعة والاستثارة واللذة.
فالمتعة والمعرفة هما ثنائية متلازمة متلاحمة تسعيان إلى استثارة عقل وعاطفة ووجدان المتلقي /المشاهد ،وهما أس العملية الإبداعية لأن الجمال له صلة وثيقة بالمشاعر الحسية التي يستثيرها في داخلنا الموضوع الجميل المقنع والصادق.
والإحساس الجمالي كما يستشعره المشاهد هو إحساس سار وممتع وقد يكون بصريا أو سمعيا أو هما معا، ثم يمتد ليشمل جسد الإنسان كله، والجمال ليس متعلقا بالشكل المنفصل أو المنعزل عن مضمونه بل يتعلق بالتركيب الخاص للمستويات المتنوعة من المعنى والتأثير الشامل والإحساس الشامل بالحياة في تألقها وتدفقها الدائمين– 17– إذ يسبح المشاهد في عوالم تخيلية تحرك وجدانه وتبعث لديه العديد من المشاعر المتناقضة حسب الأحداث الدرامية التي يستمتع بمشاهدتها وتذوقها، فتتوزع تلك المشاعر بين الألم والسرور والقلق والتوتر والرعب أحيانا فيحصل بذلك الإشباع المعرفي والفني والجمالي عبر التحكم في انفعالات المتفرج والسير بها في خطوط متعرجة صعودا ونزولا مع خفضها ورفعها حسب ما تقتضيه الحالة والموقف الدراميين، مع التحكم في الٌإيقاع الذي يلعب دورا مهما في استثارة تلك الانفعالات ويتفاعل كذلك مع باقي مكونات العمل الفنية من إخراج وديكور وملابس وإضاءة وموسيقى تصويرية إلخ… التي تساعد على تسهيل إثارة التوترات و توليد المعاني بمساهمة فعالة وفاعلة من التشخيص والإلقاء الجيدين للممثلين والممثلات، حتى ينقاد المتلقي إلى بر الفهم الكامل والإدراك الجيد والاستفادة المعرفية والمتعة الشاملة واللذة المرجوة، لأن التجربة الجمالية هي عملية إدراك كما هي عملية معرفية أيضا، خاصة إذا ما كان المتفرج يتمتع بذوق جمالي وفني رفيعين، لأن الذوق الرفيع يستهجن القبح ويلفظه، ولا نقصد هنا القبح بمعناه الجمالي، وإنما نعني بالقبح الأعمال الفنية الفقيرة المستندة على الضحالة الفكرية وضعف المخيلة الفنية بل جفافها في أحيان كثيرة.
كما أن إخلاص وصدق الكاتب الدرامي ينعكس إيجابيا على الصدق الفني والجمالي أثناء بناء الصور المشهدية للعمل وتنفيذها بتصور إخراجي يعي مخرجه دوره كمبدع يمتلك من الأدوات التعبيرية ما لا يتوفر للكاتب الدرامي من ممثلين وممثلات وديكور وإكسسوارات وإضاءة وموسيقى وخطة وتصور إخراجيين تستندان على قواعد فلسفتي وعلمي الفن والجمال بخلفية فكرية وعمق فلسفي، وغيرها من الأدوات التعبيرية الأخرى التي تعتبر كلها أدوات ولغات درامية في يد المخرج كي يبني بها المعنى ويؤسس الفن والجمال ويضيف للكتابة عمقا فكريا وفنيا بسحر وجاذبية ومتعة.
فإلى أي حد توفرت هذه المقومات الفنية والجمالية في التصور الإخراجي لسلسلة فتح الأندلس؟
لم توفق المقاربة الإخراجية لموضوع السلسلة للأسف في معانقة الصدق الفني والقدرة والجرأة على صياغة صور شاعرية محملة بعميق الدلالات والمعاني، باستطاعتها الإضافة الفكرية والفنية والجمالية والإخلاص للتصوير الفني الصادق للحقيقة التاريخية ،لأن الإبداع هو عملية ينتج عنها الجديد الذي ينبغي أن يرضي المتلقي ويستجيب لإنتظاراته ويحقق أفق تطلعاته، وهو أيضا جمع ودمج أفكار بطريقة مبتكرة لإيجاد ارتباط غير عادي بينها بغاية بلوغ الجديد وغير المألوف الذي يقنع ويبهر.
وبما أن الكتابة الدرامية للسلسلة كانت تقريرية ومباشرة وغارقة في خطاب الوعظ والإرشاد الدينيين، فإن الإخراج نحى نفس المنحى وأصبح انعكاسا أمينا لها بسقوطه في التقريرية الفنية وتكرار نفس المشاهد بنفس الرؤية والتصور بتموقعات وتحركات الممثلين والممثلات في نفس الفضاءات خاصة الداخلية ،حيث طغت وبشكل متوالي وعلى طول الحلقات انطلاق الممثلين في تحركاتهم وهم قادمين من ممرات بأقواس سواء في طليطلة أو سبتة أو طنجة أو في القيروان.
كما تكررت مشاهد عديدة بنفس التأثيث والمواصفات مع اختلافات بسيطة كتحلق بعض الممثلين والممثلات على طاولة وهم واقفين أو جالسين يؤدون حواراتهم ببرودة أو بطريقة مصطنعة غير مألوفة وغير مبررة كحالة طريقة إلقاء ملك القوط “لذريق” أو”روذريق” الذي اعتاد تقطيع حواراته أثناء إلقائه على طول السلسلة بطريقة تبعث على السؤم والملل لرتابة الإلقاء ونمطيته .
نفس التكرار المستفز نجده في تأثيث كل الفضاءات سواء داخل القصور والكنائس أو المنازل بنفس الشموع من نفس الحجم واللون البرتقالي وهي تتدلى من أعلى على صحون معدنية أو مثبتة على طاولات أو على الأرض بل حتى في المغارة التي استقر فيها طريف بن مالك ورفاقه بقرطبة خطأ، وليس في ساحل جزيرة في السواحل الجنوبية للأندلس.
فتكرار نفس المشاهد ونفس التأثيث ونفس الملابس أحيانا ونفس تموقعات وتحركات الممثلين أفقد هذا العمل حيويته ودفقه الفني والجمالي، وهنا نستحضر قولة مأثورة “لإنشتاين” مفادها: السذاجة هي أن نفعل نفس الأمر بنفس الطريقة ثم نتوقع نتائج مختلفة.
فالسينما أو الدراما التاريخية والدراما التلفزيونية عموما تستمد قوتها من خلق صور بمواصفات فنية وتقنية عميقة الدلالة بمراعاة عناصرها من ممثلين وديكور وإكسسوارات وقوة الدفع فيها ومعناها تلك الشحنات العاطفية والانفعالية للممثلين في تفاعلاتهم وصراعاتهم، وأيضا اتجاه الحركة في الصورة التي هي دائما إلى الأمام لبناء الحدث الدرامي وتطوير صراعاته، باستحضار المنطق والإقناع في تشكيل تلك الصور في تتابع وتوالي باعتبار أن كل صورة تنسحب بعد أداء وظيفتها لتحل محلها صورة أخرى، من هنا وجب إيلاء عناية خاصة للبناء البصري التي تحتل فيه الصورة مكانه محورية بوصفها الأساس الذي ترتكز عليه شاعريتها وبلاغتها ،دون إغفال لمسات الصوت (الإلقاء الجيد للممثلين) والموسيقى المصاحبة التي تدخل إلى الأذن كشريك في استيعاب الموضوع والإحساس بأبعاده المختلفة–18– وهذا لن يتأتى إلا بالتحكم في الكاميرا وحسن إدارتها باعتبارها أداة الكتابة المشهدية على المستوى العملي والعنصر الرئيسي في البناء التشكيلي للصورة الدرامية من حيث عناصر تكوينها وضوئها ودلالاتها التعبيرية بتنويع زوايا التقاط الصور واللقطات وتنويع هذه الأخيرة ما بين اللقطة القريبة والضيقة والبعيدة ولقطات من الأعلى وأخرى من الأسفل مع توظيف الحقل والحقل المضاد حسب ما تقتضيه المواقف الدرامية، كي نبتعد عن السرد التقريري الذي يولد الرتابة والملل ويقتل الفن والإبداع كما حصل في جل حلقات السلسلة .
وما عمق تلك الرتابة عدم حسن التعامل مع الزمن الفني أحيانا حيث جاءت بعض المشاهد في فضاءات خارجية ممططة وطويلة لممثلين يقطعون مسافات على طرقات ومسالك وعرة بين صخور مختلفة الأحجام ووسط بعض المجاري المائية أو في الغابة في سفر لأماكن بعيدة من طنجة إلى الأندلس أو العكس وهم راجلون وبدون أمتعة في غياب المنطق والإقناع، والكاميرا تتابع سيرهم من الأمام تارة ومن الخلف تارة أخرى كأننا في الزمن الواقعي، علما أن التعبير الفني يستوجب الاقتضاب والإيجاز ببلاغة ووضوح وبفنية عالية وجمال أخاذ، وهو ما افتقدته المقاربة الإخراجية لموضوع السلسلة.
ب) التشخيص والتأثيث والإضاءة وانتفاء الجمالية والمتعة بإقناع
يستطيع الكاتب الدرامي الجيد والمجرب والمتمكن من أدواته التعبيرية أن يقترح صورا فنية رائعة بإيلاء عناية خاصة لبناء الشخصيات وتطويرها على طول مسار الفعل الدرامي، بإعادة صياغة الأحداث التاريخية وصهرها بالخيال في قالب فني وبلغة شاعرية وبتصوير الواقع التاريخي كما حصل بالفعل وليس كما يريده هو أو كما يملى عليه، مع تجاوز الروايات الكلاسيكية المفرطة في المبالغة والأوهام.
والشخصيات التاريخية ينبغي أن تتميز بالحيوية الدافقة وتعدد أبعادها خاصة لما يتمكن الكاتب من إسقاط ظلال الحاضر عليها وعلى بعض الأحداث التي يعالجها بمهارة وبخلفية فكرية وفنية تعمق المعنى وتغنيه وتثريه، مع تجاوز التقديس والتمجيد المفرطين لتلك الشخصيات والدعوة إلى الإيمان بتلك المسلمات ومحاربة أي مشكك في تلك القداسة.
وبما أن سلسلة فتح الأندلس فضحت ضيق الأفق الفكري والفني على مستوى الكتابة الدرامية والإخراج، فإن باقي المكونات الفنية لهذا العمل الفني جاءت وفية لنفس الطرح السالف ذكره، حيث أوغلت في البساطة والسذاجة وعدم الإقناع سواء على مستوى التشخيص أو التأثيث أو الإضاءة إلخ……
ولما تنتفي مقومات الكتابة الجيدة والمهارة والعمق الفكري وسعة الخيال وخصوبته عن الكاتب، فإن ذلك سينعكس سلبيا وبشكل جلي على باقي المتدخلين في العملية الإبداعية برمتها كما حصل في هذه السلسلة.
فالتشخيص ينبغي أن يكون واقعيا وليس مصطنعا ومرتبكا، ذلك أن جل الشخصيات وحتى التي أداها ممثلون يشهد لهم بالكفاءة على مستوى تشخيص وأداء أدوارهم مع استثناءات قليلة سقطوا في النمطية وعدم الإقناع، فيحس المشاهد أن بعضهم وكأنهم يحاولون أن يتخلصوا من حواراتهم بإلقائها بطريقة سريعة تفضح خروجها من الحنجرة والفم، دون اجتهاد في إلقائها من أعماق نفسيتهم حتى تعكس الحالة الوجدانية والانفعالية بما يقتضيه الموقف الدرامي الذي يجسدونه وينعكس ذلك الأداء على ملامحهم وحركاتهم وإيماءاتهم في تدرج بين الصعود والنزول وبحيوية تزرع الدفء والحرارة في مفاصل المشهد والصورة الدرامية، هذا مع الإشارة إلى عدم الاعتناء بالأدوار الصغيرة والثانوية التي كرست إرتباك أداء الشخصيات الرئيسية، لسوء إدارة الممثل وتوجيهه التوجيه الصحيح والسليم على مستوى تعامله مع الشخصية باستحضار المقومات الفنية للتشخيص والاشتغال على الشخصية، ومما زاد من ارتباك بعض الممثلين، ابتعادهم عن الصدق الفني في أداء أدوارهم وعدم تناسب بعض الشخصيات مع الأدوار المنوطة بها، لعدم توفق “الكاستينغ” في اختيار أنسب الممثلين للشخصية من حيث أبعادها وعمرها ومواصفاتها الفيزيولوجية إلخ…
فطارق بن زياد كان في الواقع التاريخي في الثلاثينات من عمره مفعما بالحيوية والطموح وبقدرة فائقة على الحركة والتحرك وبخفة وسرعة، وليس كهلا بطيء الحركة ممل في قوله ورتيب في حركاته وتحركاته كما قدمته السلسلة، لأن الإيقاع الحركي على مستوى الإخراج والتشخيص وإدارة الكاميرا هو تعبير عن التوتر والانفعالات التي تطور الصراع الدرامي والعقدة الدرامية وتسير بالحدث نحو النماء والتطور.
وفيما يتعلق “بفلوريندا” ابنة “جوليان” حاكم سبتة، فرغم إجماع الدراسات الحديثة على أنها شخصية أسطورية ،فإن المصادر القديمة أوردتها وقدمتها كفتاة فاتنة فائقة الجمال ورائقة تقطع أنفاس الرجال بجمالها وفتنتها، وهو ما أغرى ملك القوط “لذريق” باغتصابها وسجنها في قصره، وليس فتاة عادية متوسطة الجمال قد لا تحرك رغبة الملك وإثارته لتوفره على جواري تفقنها جمالا في بلاطه.
نفس الخلل ينسحب على بناء شخصية هذا الأخير ملك القوط الذي كان محبا للحياة بإفراط ،يبالغ في حياة البذخ ومتعطش وشره لكل ما هو جميل ونفيس في الحياة خاصة على مستوى هندامه الذي كان يوليه عناية خاصة تفوق حدود المتخيل، إذ تذكر المصادر التاريخية أن ملابسه كانت دوما مطهمة بالجواهر الثمينة ومن ثياب نفيسة، فأثناء خروجه إلى المعركة الكبرى ضد طارق بن زياد كان يثير السخرية وهو يبالغ في أناقته وينتعل حذاء مفضضا أو مذهبا حسب الروايات التاريخية، وليس كما قدمته السلسلة وهو يرتدي لباسا جلديا ممزقا بائسا على طول عدة حلقات وتاجا من المعدن الرخيص وحذاء يثير الشفقة كأنه لص أو قاطع طريق، والنص التالي يؤكد ما قلناه: “وظهر “لذريق” وسط الميدان في حلل ملوكية وفوق عرش تجره الخيل المطهمة، وهو منظر أثار سخرية أحد الفلاسفة إذ قال: ولقد يخجل “ألاريك” مؤسس دولة القوط عند رؤية خلفه متوجا باللآلئ متشحا بالحرير والذهب مضجعا في هودج من العاج”–19–، وغيرها من التناقضات التي وسمت الشخصيات وهي علة منشأها الكتابة وكرستها المقاربة الإخراجية والتصور الفني للعمل ككل، زاد من حدتها طبيعة اللغة والحوارات التي جاءت بسيطة عادية وخالية من الشاعرية بمقوماتها الفنية التي تكسبها الجمالية كي تعشقها الأذن، فكان الممثلون ضحايا لتلك الكتابة، فمهما سيبذلون من جهد واجتهاد سيجدون أنفسهم غير قادرين على تقديم أفضل مما قدموه أخذا بعين الاعتبار الحمولة الفكرية للخطاب الفكري الغارقة في الوعظ والإرشاد الدينيين، حتى بدا الممثلون في مشاهد عديدة وكأنهم فقهاء وليس شخصيات تاريخية بمواصفات مختلفة، لتبقى شخصية حاكم سبتة “جوليان” التي أداها باقتدار الممثل” بيير داغر ” وقلة قليلة أخرى من الممثلين نقطة الضوء على مستوى التشخيص رغم اعتلال الكتابة الدرامية.
أما فيما يتعلق بتأثيث الفضاءات التي تدور عليها الأحداث والإضاءة والمؤثرات الصوتية المصاحبة لها، فلمتسلم بدورها من العديد من الاختلالات الناتجة عن طبيعة المقاربة والتصور الفنيين الغارقين في المحافظة التي خاصمت الفن واغتالت الجمال باعتبار أن تلك المكونات الفنية هي أدوات فنية لإضفاء لمسة السحر والإبهار وتحقيق اللذة والمتعة للمشاهد المقرونة بالإشباع الفكري المقنع والصادق ،لأن المتعة غرض جمالي يرتضيه المتلقي ويشكل هدفا من أهداف العمل الفني إلى جانب التثقيف والتوعية والتربية والتعليم….لأن اللذة هي جوهر إدراك الجمال ،واللذة الجمالية تعتمد على نشاط العين والأذن وعلى الذاكرة وغيرها من الوظائف التصويرية للذهن–20– لذا لا يمكن أن يكون الموضوع جميلا إذا لم يولد اللذة في نفس المشاهد.
فالتصور الفني للعمل اقترح بساطة التأثيث في كل الفضاءات التي تدور عليها الأحداث بسذاجة وغياب المعرفة بالحقيقة والواقع التاريخيين أحيانا و ربما بإرادة وتعمد بالنسبة للفضاءات الإسلامية كالقيروان وطنجة ليتوافق التصور الفني مع الخلفية الإيديولوجية التي تروم تكريس زهد الشخصيات الإسلامية في حياتها وبساطة عيشها.
في هذه الفضاءات تحضر بعض البسط والأغطية والزرابي المتواضعة وجلود أغنام صوفية على مصطبات وعلى الأرض في منزل موسى بن نصير في القيروان وطارق بن زياد في طنجة، مع تقديم الأكل في صحون صغيرة متواضعة عليها كميات قليلة من المأكولات غير معروفة على طبق متواضع مصنوع من نباتات جافة يوضع على الأرض مباشرة، وهذا لا يليق بمقام شخصية موسى بن نصير المعروف بنهمه وشرهه لحياة البذخ والمال والمغانم والذي يملك منها الكثير والوفير، ولا بمقام طارق بن زياد القائد العسكري وأمير طنجة الذي كان يقطن في أفخم قصورها الفارهة والفخمة الموروثة عن الحضارات القديمة التي أبدعت وطورت بمساهمة الأهالي في مجال العمران كما أسلفنا ذكره وفي مجالات أخرى، حيث تعددت العمارات في شمال إفريقيا وتضخمت الثروات الفردية وارتفع مستوى المعيشة ،ولا غرابة إذا وجدنا إذ ذاك في الطبقة المثقفة من الأهالي، الخطيب المفوه والكاتب البارع والقسيس الصادق والفيلسوف المتبحر في العلوم ،نظرا لما للبربر من مواهب عقلية لا تنكر-21–.
رافق ضعف التأثيث وفقره السالف ذكره غياب تصور فني جمالي للإضاءة الدرامية التي ينبغي أن تتنوع وتتغير ألوانها حسب الحالات والمواقف الدرامية مع تنويع زوايا انبعاثها كي تساهم في التشكيل الفني والبناء البصري للمشاهد، حيث سادت إضاءة قاتمة وبنفس الألوان تقريبا في كل الفضاءات الداخلية مما أضفى جوا من الكآبة والبؤس على الصور المنقولة، زاد من حدتها عدم الاعتناء فنيا وجماليا بالبنايات التي تدور داخلها الأحداث، بمراعاة اختلافها وتنوعها من مجال جغرافي لآخر وحسب خصوصيتها، إذ حضرت تلك الفضاءات بجدران وأعمدة ونوافذ وغيرها شبه صماء خالية من الزخرفة والنقوش والستائر بألوان قشيبة، بل إن الجدران تفتقد حتى للتبليط إذ تبدو صخورها جلية للناظرين مما يخدش العين ولا يستسيغه العقل فتكرست القتامة والكآبة وزاد من حدتها الشموع الكبيرة الحجم بنفس اللون البرتقالي التي تحضر لتزين الفضاءات الداخلية في شمال إفريقيا والأندلس لأن التصوير تم بنفس البنايات وبنفس التأثيث تقريبا إلا من تعديلات بسيطة لتوضيح اختلاف المجالات الجغرافية في الأندلس وطنجة والقيروان، في جهل تام بفخامة قصور الأندلس وحتى شمال إفريقيا التي تثير الدهشة لحد الاستغراب لجمالها وبديع نقوشها وحسن تصميمها كما أكد ذلك المؤرخ ” رينهرت دوزي” وهو يصف قصور الأندلس حيث يقول: ” أما قصورهم فقد كسيت أبهاؤها بالطنافس الشامية والإيرانية المطرزة والموشاة، فإذا حلت ساعة الأكل، أثقل الخدم الموائد بأشهى أنواع اللحوم وفاخر الأنبذة ،وترى الضيوف متكئين على سرر مغطاة بمفارش أرجوانية يتطارحون الشعر ويلقون السمع إلى أجواق العازفين، ويتطلعون إلى الراقصات–22–.
فالتأثيث اكتفى بالبسيط من الأشياء لتحضر بعض الكراسي والطاولات المتواضعة في فضاءات أخرى مع طبق ثمر لترسيخ زهد بعض الشخصيات الإسلامية وطبق فواكه الذي لا يغيب عن جل المشاهد، لا تتغير مكوناته إلا بتسلل أو انسحاب حبة أناناس بشكل مستفز باعتبار أن الأناناس في اعتقادي الراسخ كان مجهولا عند سكان شمال إفريقيا زمن الفتح الإسلامي لكون المناطق الاستوائية الإفريقية موطن هذه الفاكهة كانت مجهولة من قبل المسلمين ولم تتأسس الروابط التجارية مع دول إفريقيا جنوب الصحراء إلا لاحقا، وهي نفس الملاحظة التي تنطبق على فاكهة الموز التي تحضر بكثافة في السلسلة في أسواق الأندلس ومتاجرها.
زد على ذلك عدم التوفق في اختيار وتوظيف العديد من قطع الأثاث الأخرى كالسيوف والدروع والقبعات العسكرية وغيرها باحترام زمنها التاريخي والحضارة التي تنتمي إليها حيث جاءت جلها متشابهة ولاتعبر عن زمنها، في الوقت الذي كان بالإمكان بذل مجهود بسيط للبحث في المراجع والدراسات التاريخية وزيارة المتاحف أو الاطلاع على محتوياتها المتعلقة بموضوع السلسلة على النت فقط، للتمكن من الوفاء والصدق التاريخيين ،وكذا لإضفاء لمسة فنية على العمل بتأثيث مختلف ومتنوع لا يخلو من بصمة جمالية .
أما بخصوص الملابس وأزياء الشخصيات ،فنجد سيادة الخشن منها التي تتدرج ألوانها بين السواد الشديد أو الأقل سوادا أو البني أو الرمادي ،والتي تتشابه كلها في شكلها وتصميمها تقريبا مع اختلافات بسيطة حسب الشخصيات المسلمة أو المسيحية ،مع غياب الفاتح من الألوان والتدرج فيها واختيارها بما يتناسب مع طبيعة الإضاءة المسلطة عليها وانعكاس اللون عقب اصطدام ألوان الإضاءة بألوان الثياب والأثاث، بغاية استحضار عناصر الفن والجمال والمتعة واللذة أثناء استهلاك هذه الفرجة الفنية.
كما لا تفوتنا الإشارة إلى سيادة نوع وشكل واحد من الثياب بألوان مختلفة على بقية الأنواع المستعملة ،اختيرت منه ملابس عدة شخصيات مسيحية وإسلامية ، إذ يبدو أن إدارة الإنتاج اشترت منه كميات كبيرة بألوان مختلفة وأنجزت منه العديد من الملابس لشخصيات العمل الفني، كما حصل للكمية الكبير للشمع بدورها المقتناة من نفس الحجم واللون وتوظيفها في كل الفضاءات، يضاف إلى ذلك مواصلة ارتداء العديد من الممثلين والممثلات لنفس الملابس في حلقات عديدة في عدم تقدير للزمن الفني الذي يقتضي تغيرها واستبدالها مع توالي الحلقات.
كما ينبغي أن نشير كذلك إلى إقصاء عدة شخصيات فاعلة في التاريخ بمقدورها الإضافة البصرية والعمق الفكري للعمل التي تهمشها المصادر والمراجع التاريخية، رغم أهميتها في التوظيف الفني للتاريخ لدورها الرائد في صنع أحداث التاريخ أحيانا ،كالشعراء والفنانين من عازفين ومطربين وجواري وقيان وخدم وعشاق وغيرهم، وهنا يكمن دور كاتب الدراما التاريخية المبدع والمتمكن ، الذي ينبغي عليه أن يملأ فجوات المصادر التاريخية من وحي خياله الخصب بأحداث وشخصيات لها وجود في التاريخ وفعل فيه وعدم ذكر في كتبه، لخدمة الحقيقة التاريخية في انسجام وزواج شرعي بين الحقيقة والخيال.
والأغنية الدرامية تلعب أدوارا فنية وجمالية بالنسبة للعمل الدرامي ،وتشكل إضافة فكرية وفنية لمضامينه إذا ما أحسن استعمالها وتوظيفها واختيار كلماتها، فهي قد توظف في “جينيريك ” البداية أو النهاية أو فيهما معا، أو تستعمل كتمهيد للحدث الدرامي وتكثيفه وتعزيزه بغاية إثارة الحالة العقلية والوجدانية وحتى الانفعالية للمتفرج، عبر معاني الكلمات ولحنها وإيقاعها وتوزيعها بهدف تكثيف الإحساس وتعميق الأثر الدرامي، لأن الأغنية الدرامية تتعاون مع باقي المكونات الفنية والفكرية للعمل في شحن اللحظات المثيرة بتمكينها من طاقات تعبيرية مؤثرة في المشاهدين، خاصة إذا احترمت خصوصيتها بوصفها أغنية درامية ينبغي أن تنبع من أحداث الموضوع وتعبر عنها وعن بعض شخصياتها مع احترام الصدق والموضوعية في مضمونها، وليس كما حصل مع الأغنية الفريدة في السلسلة التي وظفت في نهاية “الجينيرك” والتي تضمنت العديد من الأخطاء التاريخية منها:
- ورود طارق بن زياد بأصل عربي فيما أنه أمازيغي رغم اختلاف الروايات التي تقول بعضها بأصله الفارسي ،بيد أن جل المصادر والمراجع التاريخية تؤكد أصله الأمازيغي من قبيلة “نفزة” التي يرجح أنها “نفزة” الأصل “بإفريقية” تونس الحالية حيث كان جنديا هناك ضمن جنود موسى بن نصير، خاصة وأننا نعلم أن القبائل في المغرب العربي الكبير عرفت تحركات كثيرة إرادية وقصرية أحيانا، وهو ما عكسه تواجد قبائل عديدة بنفس الأسماء في المغرب والجزائر وتونس وليبيا، بل حتى داخل المغرب الأقصى نجد قبائل عديدة بنفس الأسماء في مجالات جغرافية مختلفة سواء في الشمال أو الجنوب أو الوسط أو الشرق :كمصمودة وصنهاجة وشراكة والوداية وغيرها.
- ثاني الأخطاء التي تضمنتها كلمات الأغنية هي ورود شجرة” الأركان” وهذا يخالف الحقيقة التاريخية لعدم معرفة المسلمين في شمال إفريقيا بتلك الفاكهة في تلك المرحلة.
- ثالث الأخطاء وجسيمها هو تكريس تفوق العنصر العربي على غيره من الأعراق التي ساهمت مساهمة فعالة في الفتوحات وبناء الحضارة العربية الإسلامية حيث جاء في الأغنية ما يلي: “والقائد العربي لا يلقاك إلا وانتصر” في تعارض مع الواقع التاريخي الذي يؤكد انهزام ومقتل عدد كبير من قادة الفتح الإسلامي العرب في شرق الخلافة وفي غربها ،وعقبة بن نافع الفهري نموذج لذلك حيث لقي حتفه على يد كسيلة أو أكسيل (رئيس قبيلة أوربة الذي كان قد أسلم هو وأفراد قبيلته وعززوا الجيش الفاتح) ، جنوب جبال الأوراس بمنطقة “تهودة” وتسمى الآن سيدي بوعقبة، بعد أن تعرض للإهانة والتحقير من قبل عقبة، حيث تسرد المصادر التاريخية تلك الإهانة بتفصيل، إضافة إلى انهزام القائد العربي ووالي إفريقية حسان بن النعمان هو وجيوشه على يد قائدة وملكة جبال الأوراس بعد كسيلة “ديهيا” الملقبة بالكاهنة في المصادر التاريخية العربية سنة 693 ميلادية.
- رابع الأخطاء هو إمعان الأغنية في الإشادة بالخلافة الأموية وتمجيدها وتلميع صورتها رغم تجاوزاتها الخطيرة التي أشرنا إلى بعضها سابقا حيث تقول الأغنية في هذا الصدد:” وخلافة كالنبت مدت جذورها والنور زاد” و” جئنا لننشر بالخلافة رحمة للعالمين”
- .أما خامس الأخطاء فهو ما يرتبط بلحن الأغنية المستوحى من مقامات وإيقاعات الأغنية الأندلسية ،فرغم اجتهاد واضع اللحن وتوفقه في ذلك بغية إضفاء لمسة إبداعية فنية على الأغنية والعمل ككل، إلا أنه كان خارج السياق التاريخي باعتبار أن الموسيقى الأندلسية لمتخرج إلى الوجود زمن الفتح الإسلامي، ولم تظهر في الأندلس إلا مع بداية القرن الثالث الهجري زمن الأمير عبد الرحمان بن الحكم حيث طورها زرياب خلال هذه المرحلة وبن باجة وآخرون بعده، وهو خطأ تاريخي في تقديري يماثل تشخيص ممثل لدور في حقبة تاريخية غابرة وهو يضع في معصمه ساعة يدوية لم يكن لها وجود آنذاك.
ورغم ذلك ،فهذا لا ينقص من القيمة الفنية لمطربنا القدير نعمان لحلو ذو الصوت الطروب والإبداع الأصيل الذي لا ينضب، باعتباره كلف بأداء الأغنية فقط وتوفق باقتدار في أدائها رفقة المجموعة الموسيقية، رغم ما شابها من اختلالات على مستوى مضمونها.
وعلى الجملة، فالمقاربة المحافظة للكتابة والإخراج المستندة على أفق فكري وفني وتخييلي محدود وضحل،بالغت وأفرطت في تلميع صورة الخلافة الأموية وولاتها وقوادها العسكريين بتقديم صور مليئة بالانتصارات ومغالاة في تقديسهم وتمجيدهم وإضفاء الطهرانية عليهم، مع إعلان خصومة مبدئية مع عناصر الفن والجمال والخيال الخصب، الشيء الذي يكرس نزعة التطرف والتشدد ويغذيها بالافتراء على الماضي التاريخي وحقائقه وشخصياته وتحويلها من شخصيات بأخطائها ومساوئها إلى شخصيات لا علاقة لها بواقعها التاريخي، وتقديمها كصفحات مشرقة ومنيرة وطاهرة، في مقابل حاضرنا المليء بالانكسارات والإحباطات والأزمات ، من هنا وجب التنبيه إلى ضرورة الابتعاد عن الحساسيات الدينية والقومية والإقليمية في تفسير التاريخ –23– والاشتغال عليه فنيا بنفس الرؤية والتصور، لأن التاريخ علم من العلوم الإنسانية يتصف بالموضوعية والحياد، كي لا نسقط في تكريس الأصولية في الفن وإخضاع تذوقه وتقييمه إلى معايير إيديولوجية بمرجعيات دينية أو غيرها، عوض الاعتماد على المعايير العلمية والموضوعية في مناقشة المضامين وقواعد الإبداع الفني سواء على مستوى الكتابة أو الإخراج أو باقي المكونات الفنية الأخرى التي وضعت أسسها الإسهامات النظرية للفلاسفة وفلاسفة الفن والجمال وغيرهم، كما لا ينبغي معاملة التاريخ إبداعيا بصورة يغيب فيها انعكاس الصدق التاريخي على الصدق الفني .
الهوامش:
1/ محمود إسماعيل: فكرة التاريخ بين الماركسية والإسلام، مكتبة مذبولي القاهرة، الطبعة الأولى ،السنة 1988 ،ص: 11
2/مصطفى عبده: فلسفة الجمال ودور العقل في الإبداع الفني، مكتبة مذبولي،القاهرة ص:9
3/جورج لوكاتش: الرواية التاريخية،ترجمة صالح جواد الكاظم،وزارة الثقافة والإعلام العراق، السنة 1976 ،ص: 233
4/جورج لوكاتش، المرجع السابق، ص: 237
5/ محمد عمارة: الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر،مكتبة الشروق الدولية،الطبعة الأولى،القاهرة السنة 2005 ص:09/10
6/ محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس ،مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة،السنة 1997 ،ص:24/25
7/محمد عبد الله عنان: المرجع السابق، ص:25
8/أحمد بن إسحاق اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، دار الكتب العلمية الجزء الثالث، ص: 59
9/عبد الرحمان بن خلدون: تاريخ العبر،دار بن حزم للطباعة ،السنة 2011،الجزء السادس، ص: 119
10/محمود إسماعيل:الخوارج في بلاد المغرب،دار الثقافة،الدار البيضاء،السنة 1985،ص:34
11/ حسين مؤنس: فجر الإسلام في الأندلس،دار الرشاد القاهرة، السنة 2005،ص:50
12/ حسين مؤنس :المرجع السابق،ص:58 .
13/ محمد عبد الله عنان:، المرجع السابق،ص: 52
14/محمد عبد الله عنان :المرجع السابق، ص:55
15/ ابن الأبار: الحلة السيراء،تحقيق رينهرت دوزي، مطبعة الجامعة 1851 ،ص: 32 .
16/ محمد محي الدين المشرفي: إفريقيا الشمالية في العصر القديم، دار الكتب العربية،الطبعة الرابعة،السنة 1969، ص: 105 .
17/ شاكر عبد الحميد:التفضيل الجمالي، مجلةعالم المعرفة، العدد،267 السنة 2001 ص:17
18/ نبيل راغب: النقد الفني،مكتبة مصر،دار الطباعة، ص: 74 .
19/ محمد عبد الله عنان: المرجع السابق،ص:44 .
20/ جورج سانتيانا: الإحساس بالجمال ،ترجمة :مصطفى بدوي، الهيئة العالمية المصرية للكتاب، مكتبة الأسرة، ص:76
21/ محمدمحي الدين المشرفي: المرجع السابق، ص: 93
22/ رينهرت دوزي: المسلمون في الأندلس، ترجمة حسن حبشي الهيئة العامة المصرية للكتاب ،السنة،1994 ،ص:28
23/محمود إسماعيل: فكرة التاريخ بين الماركسية والإسلام: ص: 12