فاجعة فاس وسؤال البناء العشوائي: من المسؤول ومتى يتوقف النزيف؟


أعادت فاجعة انهيار عمارتين بحيّ المستقبل بمنطقة بنسودة في مدينة فاس فتحَ جرحٍ قديمٍ يتكرّر كلّما سقط ضحايا تحت أنقاض الإسمنت: جرحُ البناء العشوائي، وما يحيط به من تواطؤٍ صامت، وتقصيرٍ مؤسسي، واستهانةٍ خطيرة بحقّ المواطن في السكن الآمن. ليست الحادثةُ معزولةً، بل حلقةٌ جديدة في سلسلة مآسٍ حضرية تُنذر بأنّ السؤال لم يعد تقنيًا فقط، بل أخلاقيًا وسياسيًا بالدرجة الأولى. فالبناء العشوائي في مدنٍ عريقة كفاس ليس نتاجَ الفقر وحده، ولا وليدَ الطلب المتزايد على السكن فحسب؛ إنّه نتيجةُ منظومةٍ كاملةٍ اختلّت فيها أدوارُ التخطيط والمراقبة والردع. عمارات تُشيَّد دون احترامٍ لمعايير السلامة، وتوسّعات عمودية تُضاف ليلًا أو تحت غطاء “الرخصة المؤقتة”، وأحياء تنمو أسرع من قدرة الدولة على التنظيم والمتابعة. وفي لحظة الانهيار، تنكشف الحقيقة القاسية: إنسانٌ أعزل يدفع ثمنَ فوضى لم يصنعها وحده.
المسؤولية هنا مركّبة وموزّعة، ولا يجوز اختزالها في طرفٍ واحد. أوّلًا، هناك بعض المنعشين والمقاولين الذين يقدّمون الربح السريع على السلامة العامة، فيلتفون على القوانين أو يفرغونها من مضمونها عبر مواد رديئة أو تصاميم مغشوشة. ثانيًا، هناك المكاتب التقنية وأطر المراقبة التي يفترض أن تضمن احترام دفاتر التحملات، لكنها قد تتراخى أو تتغاضى، أحيانًا بفعل الضغط وأحيانًا بفعل الفساد. ثالثًا، هناك الجماعات المحلية والسلطات الوصية، التي تتحمّل مسؤولية الترخيص والتتبع، وحين تغيب الصرامة أو تتأخر التدخلات، تتحوّل المخالفات إلى وقائع قائمة يصعب تداركها إلا بعد الفاجعة. ورابعا هناك دور المقدمين الذين يعيثون فسادا في المناطق الهامشية والتي تعاني الهشاشة ويستغلون ذلك لجني أرباح مالية من خلال الرشوة مقابل الصمت وعدم رفع التقارير للقياد، ولا يمكن إغفال مسؤولية السياسات العمومية في السكن. فحين يعجز العرض المنظّم عن تلبية الطلب، يُفتح المجال تلقائيًا للفوضى. وحين تتأخر برامج إعادة الهيكلة، أو تُدار ببطء بيروقراطي، يجد المواطن نفسه بين خيارين أحلاهما مرّ: سكنٌ غير آمن، أو انتظارٌ بلا أفق. هنا يصبح البناء العشوائي نتيجةً مباشرة لخللٍ في العدالة المجالية والحق في المدينة.
لن يتوقف النزيف ببلاغات التعزية وحدها، ولا بلجان التحقيق التي تنتهي غالبًا إلى “تحديد المسؤوليات” دون محاسبة رادعة. التوقف الحقيقي يبدأ بإرادة سياسية واضحة تجعل السلامة العمرانية خطًا أحمر. ويتطلب ذلك حزمةً متكاملة من الإجراءات: أولًا، تشديد المراقبة القبلية والبعدية، واعتماد رقمنة مساطر الترخيص والتتبع، بما يقلّص هامش التلاعب ويعزّز الشفافية. ثانيًا، المحاسبة الصارمة لكل من ثبت تورطه، دون استثناء أو انتقائية، لأن الإفلات من العقاب هو الوقود الأكبر لتكرار المآسي. ثالثًا، إعادة هيكلة الأحياء الهشّة وفق مقاربة تشاركية، توازن بين حق السكان في الاستقرار وضرورة السلامة، بدل الحلول الترقيعية التي تؤجل الانفجار ولا تمنعه. رابعًا، توسيع العرض السكني المنظّم بأسعار في المتناول، لأن الوقاية الحقيقية تبدأ حين يجد المواطن بديلًا آمنًا ومتاحًا. إنّ فاجعة فاس لا تسيء فقط إلى المواطنين الذين فقدوا أرواحهم أو بيوتهم، بل تمسّ صورة المغرب كبلدٍ يسعى إلى التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. مدينة فاس، بما تحمله من تاريخٍ ورمزٍ حضاري، تستحق سياسة عمرانية تليق بها وبساكنتها. والتحدّي اليوم ليس في تشخيص الداء، فقد بات واضحًا، بل في تحويل الألم إلى قرار، والغضب إلى إصلاح، حتى لا نكتب المقال نفسه بعد فاجعةٍ أخرى، وفي حيّ آخر.

