قراءة في مسيرة الفنان سعيد أعاصم: جسّد قيمة الفنان المتعدد الأبعاد، وجمع بين الأداء، والإخراج، والتقنيات، والتكوين


وُلد الفنان سعيد أعاصم بمدينة شفشاون سنة 1952، في حضن الطبيعة الجبلية التي تنسج بين زرقتها الصامتة وروحها الأندلسية المبثوثة في الأزقة والبيوت، هناك تلقّى تعليمه الأولي وبدايات المرحلة الابتدائية، في بيئة بسيطة شكلت وعيه الأول وأيقظت فيه مبكرًا حسّ الملاحظة والانتباه إلى التفاصيل. وفي مطلع ستينيات القرن الماضي، وتحديدًا سنة 1962، شدّ الرحال رفقة أسرته نحو مدينة فاس، ليستقر بها مقامه الجديد، وليدخل فضاءً حضريًا مختلف الإيقاع، تتداخل فيه المعرفة بالتراث، وتتشكل فيه ملامح الطموح على إيقاع المؤسسات والمدارس. في العاصمة العلمية واصل سعيد أعاصم مساره الدراسي بثبات وجدية، متنقلًا بين أسلاك التعليم إلى أن توج مشواره الأكاديمي بالحصول على شهادة الإجازة في تخصص القانون العام. هذا الانتقال المبكر بين مدينتين مرجعيتين في الذاكرة المغربية، من شفشاون الهادئة إلى فاس العالمة، لم يكن مجرد تحول جغرافي، بل كان تحولًا في الرؤية وتراكمًا في التجربة، أسهم في تشكيل شخصيته الفكرية والفنية، وفتح أمامه آفاقًا متعددة للفهم والتأمل والتعبير.

دخل سعيد أعاصم عالم المسرح من بوابة العمل التقني، لا من خشبة التمثيل أو كرسي الإخراج، ولكن من ذلك الحيز الخفي الذي تتشكل فيه روح العرض من الضوء والصوت والإيقاع، كان ذلك في مطلع السبعينيات، وتحديدًا سنتي 1972 و1973، حين التحق بجمعية الشروق المسرحي، ليباشر أولى تجاربه في مجال تقنيات الإضاءة والتمويج الموسيقي، في زمن كان فيه المسرح المغربي يعيش حراكًا تجريبيًا متوهجًا، وتتشكل فيه ملامح حداثته الفنية، لم يكن اختياره لهذا المسار التقني اختيارًا عابرًا، وإنما كان تعبيرًا عن ميول مبكرة نحو فهم البنية الداخلية للعرض، واستيعاب آليات اشتغال الصورة والظل، والصوت والصمت، بوصفها عناصر أساسية في تشكيل الدلالة المسرحية، وكانت تجربته الأولى في هذا المجال من خلال مسرحية “عزيزة”، من تأليف الأستاذ أمزيان، وإخراج سعيد أعاصم، وهو عمل أتاح له الاحتكاك المباشر بجوهر العملية المسرحية، والانخراط في تفاصيلها الدقيقة، من إعداد الإضاءة إلى ضبط الإيقاعات الصوتية المرافقة للمشاهد، وفي هذا الفضاء العملي، تعلّم كيف يتحول الضوء من مجرد عنصر تقني إلى لغة بصرية، وكيف تصبح الموسيقى جسدًا خفيًا يتسلل إلى وجدان المتلقي ويوجه انفعالاته. ولم تمضِ فترة طويلة حتى واصل مغامرته التقنية في عرض ثانٍ حمل عنوان “التائهون”، من تأليف الأستاذ الشبيهي، وإخراج مصطفى يقطين، حيث تعمقت تجربته أكثر، وازدادت خبرته نضجًا من خلال العمل مع أسماء لها حضورها الفكري والفني. لقد شكّل هذا الانخراط المبكر في الجانب التقني من المسرح مدرسة فعلية لسعيد أعاصم، صقلت حسّه الجمالي، ودرّبته على الانضباط الجماعي، وفهم العلاقة العضوية بين مختلف مكونات العرض. فمن وراء الكواليس، حيث يتوارى الضوء قبل أن يُطلق، وحيث تُهيأ الموسيقى قبل أن تُسمع، تعلّم أن المسرح فعل جماعي بامتياز، لا يقوم على النجم وحده، بل على شبكة متكاملة من الجهود الصامتة. وهكذا كانت بدايته التقنية بذرة وعي مسرحي عميق، سيؤسس لاحقًا لمسار فني وفكري متكامل، قوامه الفهم الشامل لفن المسرح بوصفه رؤية، وحرفة، ورسالة.

شكّلت سنة 1974 منعطفًا حاسمًا في المسار المسرحي لسعيد أعاصم، إذ انتقل فيها من فضاء العمل التقني، حيث كان يشتغل في الظل على الإضاءة والتمويج الموسيقي، إلى واجهة الخشبة، حيث تتجسد الشخصية ويتحول الصوت والجسد إلى أداة تعبير مباشر. ففي هذه السنة بالذات، أُسنِد إليه دور مهم في مسرحية “العساس”، من تأليف وإخراج الراحل مصطفى يقطين، أحد الأسماء البارزة في المشهد المسرحي آنذاك،) أخ الأديب والناقد المعروف سعيد يقطين)، لم يكن هذا التحول وليد الصدفة، ولا نتيجة ظرف عابر، بل جاء تتويجًا لمسار من الملاحظة الدقيقة والتمرين المستمر، ولموهبة كانت تتكشف تدريجيًا في فضاءات التدريب الجماعي داخل الجمعية، آمن مصطفى يقطين بقدرات سعيد أعاصم التشخيصية بعد أن لاحظه عن قرب في حصص تمارين التشخيص التي كانت تنظمها الجمعية بانتظام لتأطير أعضائها، وتعريفهم بأسس الأداء المسرحي، وقواعد تجسيد الأدوار، وضبط الجسد والصوت والانفعال. هناك، في فضاء التمارين، بعيدًا عن وهج الأضواء وضجيج الجمهور، كان سعيد يكشف عن طاقة داخلية لافتة، وقدرة على التقمص، وحسّ مرهف في التقاط الإيقاع الدرامي، ما جعل المخرج يضع عليه ثقته، ويمنحه فرصة الانتقال من التقنية إلى التشخيص. كان دور “العساس” بمثابة امتحان فني حقيقي، واختبار جريء لموهبة في طور التشكّل، لكنه في الوقت ذاته شكّل فرصة نادرة لاكتشاف الذات من داخل التجربة الحية للعرض المسرحي، ومع أولى خطواته على الخشبة، وجد سعيد أعاصم نفسه في قلب الفعل الدرامي، يتلمّس نبض الجمهور، ويختبر العلاقة المباشرة بين الممثل والمتلقي، تلك العلاقة التي لا تعوّضها أي تقنية مهما بلغت دقتها. لقد انتقل من التحكم في الضوء الذي يضيء الممثلين، إلى أن يكون هو نفسه في دائرة الضوء، ومن ضبط الإيقاع الموسيقي المصاحب للمشهد، إلى الانخراط في الإيقاع الداخلي للشخصية. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في الوظيفة داخل العرض، بل كان تحولًا في الوعي بالمسرح ذاته، من كونه جهازًا تقنيًا تُضبط عناصره من الخلف، إلى فضاء حي للصراع والتعبير والوجود. وهكذا أسست تجربة “العساس” لمرحلة جديدة في مسار سعيد أعاصم، مرحلة سيصبح فيها التشخيص ركيزة أساسية من ركائز اشتغاله المسرحي، إلى جانب وعيه التقني السابق، الذي أضفى على أدائه عمقًا خاصًا وفهمًا شاملًا لبنية العرض. لقد كانت ثقة مصطفى يقطين في موهبته لحظة اعتراف مبكرة، ونقطة انطلاق حقيقية نحو ترسيخ حضوره كممثل، بعد أن كان أحد الجنود المجهولين خلف الكواليس. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد المسرح بالنسبة إليه مجرد اشتغال تقني، بل صار فضاء للكينونة والإبداع والمغامرة الوجودية.

بعد نجاح تجربته الأولى في التشخيص، سرعان ما رسّخ سعيد أعاصم مكانته داخل جمعية الشروق المسرحي، ليغدو أحد أبرز أعمدتها الفنية والتنظيمية في آن واحد. فلم يعد حضوره يقتصر على التمثيل فوق الخشبة، بل اتسع ليشمل مجالات متعددة داخل الورشة المسرحية، من التدبير الإداري إلى المساهمة في بلورة التصورات التقنية للعروض، وخاصة فيما يتصل بتصميم الإضاءة وتأثيث الفضاء الركحي بما يلزمه من قطع ديكور وإكسسوارات، لقد جمع بين الحس الفني والدقة التنظيمية، فكان الممثل الذي يدرك من الداخل نبض الخشبة، والتقني الذي يستوعب من الخلف منطق الصورة والبناء البصري، والمسير الذي يعي شروط الاستمرار والانضباط داخل العمل الجماعي. توالت مشاركاته في العروض المسرحية بوتيرة لافتة، مؤكدة تطوره السريع كممثل، واتساع رقعة حضوره داخل التجربة المسرحية للجمعية. ففي سنة 1975، شارك في مسرحية “نقطة الصفر”، التي شكّلت عملًا دالًا في مسار الفرقة، من حيث جرأة الطرح وكثافة الأسئلة الوجودية التي كانت تطرحها. وفي سنة 1976، تألق في عرض “ويموت الموت”، ثم في مسرحية “السراب” سنة 1977، وكلها من تأليف وإخراج مصطفى يقطين، الذي ظل يراهن على طاقته التمثيلية، ويمنحه أدوارًا تنهل من العمق الإنساني والتوتر الدرامي، لقد أسهم هذا التراكم المتواصل في صقل أدواته التشخيصية، ومنحه قدرة متزايدة على التحكم في الجسد والصوت، وبناء الشخصية من داخلها النفسي والرمزي. وفي سنة 1978، انتقل إلى تجربة جديدة من خلال مسرحية “الظلمة”، من تأليف رشيد جبوج وإخراج محمد بوجيدة، حيث انفتح على رؤية إخراجية مختلفة، واختبر أفقًا آخر في التعامل مع النص والشخصية والفضاء. ثم جاءت مسرحية “ناس وأناس” سنة 1979، وهي تجربة ذات طابع جماعي في التأليف والإخراج، جسدت روح العمل التشاركي داخل الفرقة، وعمّقت لديه الإحساس بالمسرح بوصفه فعلًا جماعيًا يتأسس على الحوار وتبادل الرؤى. أما سنة 1980، فقد مثّلت لحظة نوعية في مساره، من خلال مشاركته في مسرحية “الشوافة قالت”، من تأليف رشيد جبوج، والتي تولى هو نفسه إخراجها، في خطوة جريئة أكدت انتقاله من موقع الممثل إلى موقع صانع الرؤية المسرحية. ولم تقف تجربته عند هذا الحد، بل امتدت إلى عمل “الأرض”، من تأليف الراحل عبد السلام الحيمر، وإخراج إدريس بنجبارة، حيث واصل تعميق حضوره الفني ضمن تجارب مسرحية اتسمت بالغنى الفكري والتنوع الجمالي. وهكذا، عبر هذا المسار المتراكم من العروض والمسؤوليات، تكرّس سعيد أعاصم فاعلًا مركزيًا داخل جمعية الشروق المسرحي، يجمع بين الأداء، والتدبير، والرؤية التقنية، في نموذج للفنان الشامل الذي لا يكتفي باعتلاء الخشبة، بل يشارك في بناء العرض من جذوره الأولى، فكرةً، وصورةً، وتنظيمًا.

خلال موسمي 1981 و1982، سيعرف المسار المسرحي لسعيد أعاصم منعطفًا جديدًا، حين انتقل رفقة ثلة من رفاقه إلى جمعية المسرح الضاحك بدار الشباب البطحاء، وهي جمعية تميّزت، منذ تأسيسها، بطابعها النوعي، وباختياراتها الجريئة التي جعلت من المسرح أداة مساءلة فكرية، ومنصة للنقد الاجتماعي والسياسي البنّاء، فقد كانت أعمالها مشبعة بروح الوعي الإيديولوجي، وخصوصًا بالنَّفَس اليساري اليقظ، الذي كان يتقاطع بعمق مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي كان المغرب يعيشها في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخه، في هذا السياق، وجد سعيد أعاصم فضاءً ملائمًا لتوسيع تجربته الفنية، وتعميق وعيه بدور المسرح في مساءلة الواقع، لا بوصفه فرجة فقط، بل بوصفه فعلًا ثقافيًا مقاومًا وملتزمًا. كانت أولى مشاركاته مع جمعية المسرح الضاحك من خلال عرض “نيرون السفير المتجول” سنة 1982، من تأليف الراحل محمد مسكين، وإخراج العربي السباعي. في هذا العمل، التقى النص السياسي المكثف بالرؤية الإخراجية التي تمتح من الرمزية والسخرية السوداء، فكان العرض صدى للتحولات العميقة التي كانت تعتمل في المجتمع، وفرصة لسعيد أعاصم لتأكيد قدرته على تجسيد الشخصيات المركبة، المشبعة بالتناقضات والدلالات. وفي سنة 1984، واصل حضوره اللافت من خلال مشاركته في مسرحية “عاشور”، من تأليف محمد مسكين أيضًا، وإخراج نجيب العلمي، حيث تعمّقت تجربته أكثر في احتكاكها بنصوص تنبش في الهشاشة الإنسانية، وتفكك بنية السلطة والعلاقات الاجتماعية بأسلوب نقدي صارم، وقد أسهم هذا العمل في ترسيخ حضوره داخل الجمعية كممثل يمتلك قدرة على ملامسة الجرح الإنساني بصدق فني، وبوعي فكري واضح. غير أن تجربته مع نصوص المسرحي العربي الكبير سعد الله ونوس ستشكّل بدورها محطة بالغة الأهمية في مساره، ففي سنة 1996، قدّم مسرحية “جثة على الرصيف” من تأليف سعد الله ونوس، لكن هذه المرة من موقع الإخراج، في خطوة أكدت نضجه الفني، وانتقاله إلى مستوى أعلى من الاشتغال على الرؤية والتأويل والبناء الدرامتورجي، وفي السنة الموالية، أي 1997، عاد إلى النص نفسه، “جثة على الرصيف”، لكن من موقع الممثل، في إخراج حميد تشيش، حيث قُدِّم العمل بإخراجين مختلفين خلال سنتين متتاليتين، في تجربة نادرة تعكس غنى النص وقابليته لتعدد القراءات، كما تكشف مرونة سعيد أعاصم في الانتقال بين موقع الفاعل الإخراجي وموقع الممثل المؤدي. وفي سنة 1999، شارك في مسرحية “بعد الحكي تموت اللقالق”، من تأليف محمد أبو العلا، وإخراج حميد تشيش، حيث تعانقت اللغة الشعرية بالأبعاد الرمزية، واشتغلت الرؤية الإخراجية على تخوم الذاكرة والأسطورة والواقع، ما أتاح له الغوص مجددًا في عوالم مسرحية مشحونة بالإيحاءات الفكرية والوجدانية. ثم جاءت مسرحية “السيد جمجمة” سنة 2000، من تأليف المسكيني الصغير، وإخراج حميد تشيش، لتؤكد استمرارية هذا التعاون الفني، ولتجدد أسئلته حول العبث، والمصير، وتشظي الذات الإنسانية في عالم مضطرب. أما سنة 2016، فستشهد عودة قوية من خلال مشاركته في مسرحية “تراجيديا السيف الخشبي”، من تأليف محمد مسكين، وإخراج حميد تشيش، وهو عمل استعاد فيه المسرح طاقته التراجيدية والرمزية، ولامس من جديد قضايا السلطة والعنف والهشاشة الإنسانية بلغة مسرحية كثيفة. وهكذا، عبر هذا المسار الطويل داخل جمعية المسرح الضاحك، تكرّس سعيد أعاصم فنانًا ملتزمًا، يجمع بين التمثيل والإخراج، ويشتغل داخل مشروع مسرحي واعٍ، يزاوج بين البُعد الجمالي والرهان الفكري، ويجعل من الخشبة فضاءً دائمًا لطرح الأسئلة الكبرى حول الإنسان والمجتمع والحرية.

شكّلت تجربة سعيد أعاصم، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، جزءًا عضويًا من الدينامية الثقافية والفنية التي عرفها المسرح المغربي في مرحلة اتسمت بالتحوّل، والبحث، وإعادة طرح الأسئلة الكبرى حول وظيفة الفن ودوره في المجتمع. فقد كان له حضور فعّال، رفقة نخبة من الفنانين والمثقفين الشباب، في أجرأة وتفعيل التحولات التي مسّت الاختيارات الفكرية والفنية والجمالية للممارسة المسرحية، وهي تحولات لم تكن معزولة عن السياق العام الذي كان يعيشه المغرب آنذاك، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. لقد جاءت هذه التحولات في لحظة تاريخية اتسمت بتصاعد الوعي النقدي، وببروز جيل جديد من الطلبة والأساتذة الملتزمين، الذين انخرطوا بقوة في العمل داخل الجمعيات الثقافية والفنية، خصوصًا من التيار اليساري، حاملين معهم تصورات جديدة لدور المسرح بوصفه أداة تفكير وتغيير، لا مجرد وسيلة للفرجة والتسلية. في هذا المناخ الفكري المتوتر بالخِصْب والأسئلة، كان سعيد أعاصم واحدًا من أولئك الذين آمنوا بضرورة تجاوز الأشكال المسرحية التقليدية، والانتقال إلى مسرح أكثر جرأة في الطرح، وأعمق في الرؤية، وأشد التصاقًا بقضايا الإنسان والواقع. لقد انصبّ اهتمام هذا الجيل على الارتقاء بجودة النصوص المسرحية، ليس فقط على مستوى البناء الدرامي، بل أساسًا من حيث عمقها الفكري، وغنى مرجعياتها، وجرأتها في مساءلة السلطة، والهوية، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والوجود الإنساني. فالمسرح، في نظرهم، لم يعد مجرد نص يُحفظ ويُلقى، بل أصبح مشروعًا فكريًا وجماليًا متكاملًا، تنهض به رؤية نقدية للعالم، ويستند إلى أسئلة كبرى تتجاوز اللحظة الآنية. وإلى جانب العناية بالنص، أولت هذه التجربة اهتمامًا بالغًا بالتصورات الفنية والجمالية للعرض المسرحي، حيث لم يعد الشكل مجرد وعاء للمضمون، بل أضحى جزءًا من بنائه الدلالي. فالإخراج، والسينوغرافيا، والإضاءة، وحركة الجسد، والإيقاع، جميعها عناصر صارت تُفكَّر بوصفها لغات قائمة بذاتها، تشارك في إنتاج المعنى، وتساهم في تشكيل وعي المتلقي. وفي هذا الإطار، أسهم سعيد أعاصم، بما راكمه من تجربة تقنية وفنية، في الدفع نحو هذا الوعي الجمالي الجديد، الذي يرى في العرض المسرحي بنية مركبة، لا تقوم على النص وحده، بل على وحدة عضوية تجمع الفكر بالصورة، والصوت بالحركة، والرمز بالفعل.

كما شكّل التكوين الذاتي أحد المرتكزات الأساسية في مشروع هذا الجيل المسرحي، حيث لم يكن الانخراط في الجمعيات الثقافية والفنية مجرد ممارسة عفوية، بل كان فعلًا واعيًا يقوم على التعلم المستمر، وعلى التكوين النظري والتطبيقي في مجالات الثقافة عمومًا، والمسرح على وجه الخصوص. فقد انتشرت العروض النظرية، والورشات التكوينية، والقراءات الجماعية للنصوص المسرحية والفكرية، والنقاشات المفتوحة حول المدارس المسرحية العالمية، من بريخت إلى ستانسلافسكي، ومن المسرح الملحمي إلى المسرح التجريبي. وفي هذا الفضاء التكويني، صقل سعيد أعاصم أدواته، وعمّق معرفته، وتوسّعت رؤيته للمسرح بوصفه علمًا وفنًا وموقفًا. ولم يكن هذا التكوين غاية في ذاته، وإنما كان يتكامل مع ترسيخ فعل التجريب المسرحي كخيار استراتيجي على مستوى الممارسة الميدانية. إذ آمن هذا الجيل بأن الجمود هو نقيض الإبداع، وأن المسرح لا يتطور إلا بالاختبار الدائم للأشكال، وبمغامرة كسر القوالب الجاهزة، وبالمجازفة في اقتراح صيغ جديدة للتعبير. وقد تجسد هذا التجريب في الاشتغال على نصوص غير مألوفة، وفي إعادة قراءة نصوص كلاسيكية من زوايا معاصرة، وفي توظيف الرمز، والسخرية، والعبث، وفي تفكيك العلاقة التقليدية بين الممثل والجمهور، وبين الخشبة والقاعة، ضمن هذه الحركة الجماعية الواعية، لم يكن سعيد أعاصم مجرد مشارك عابر، بل كان فاعلًا حقيقيًا ساهم في بلورة هذه التحولات، سواء من خلال اشتغاله داخل الفرق المسرحية، أو عبر مساهمته في النقاشات الفكرية والتنظيمية التي كانت تؤطر العمل الثقافي آنذاك. لقد كان حضوره جزءًا من مشروع ثقافي أوسع، يطمح إلى إعادة الاعتبار للمسرح كفضاء للوعي، وكأداة للتفكير النقدي، وكوسيلة للتعبير عن هموم الناس وأسئلتهم، مساهمة سعيد أعاصم في تلك المرحلة لم تتحدد فقط في أدواره التشخيصية أو إخراجه المسرحية، بل تجسدت أساسًا في انخراطه الواعي في معركة تحديث الممارسة المسرحية، والدفاع عن قيم الجودة، والعمق، والالتزام، والتجريب. وهي مساهمة جعلت اسمه يرتبط بجيل كامل آمن بأن المسرح ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة فكرية وجمالية، وبأن الإبداع الحقيقي لا ينفصل عن الأسئلة الكبرى للإنسان والمجتمع.

إلى جانب مساره المتميز كممثل وتقني، خاض سعيد أعاصم تجربة الإخراج المسرحي، ليضيف بعدًا جديدًا لمسيرته الفنية، مؤكدًا قدرته على تولي قيادة الرؤية الإبداعية وتشكيل الفضاء الدرامي وفق تصور شامل ومتقن. كانت بداياته الإخراجية مع مسرحية “الشوافة قالت” سنة 1980، من تأليف رشيد جبوج، حيث أتيحت له الفرصة لتطبيق رؤيته الخاصة في تحويل النص إلى عرض حي، يجمع بين الأداء الممثل والتصميم الفني للخشبة، مع التركيز على الإيقاع الدرامي وفعالية الحوار الحركي، وهو ما منحه خبرة عملية مهمة في صياغة البنية المسرحية من الداخل. ثم جاءت مرحلة لاحقة في مسيرته الإخراجية مع مسرحية “جثة على الرصيف ” سنة 1996، من تأليف الكاتب السوري الكبير سعد الله ونوس، حيث قدم سعيد أعاصم العمل من موقع الإخراج، مجسدًا فهمًا عميقًا للنص ولخصائص الشخصيات المتشابكة فيه، ولغة المسرح العبثي والرمزي التي يشتغل عليها ونوس. كانت هذه التجربة بمثابة محطة محورية، إذ نقلته من مجرد منفذ للتقنيات المسرحية إلى صانع رؤية متكامل، قادر على التوفيق بين المضمون الفني ومتطلبات الأداء، وبين الرؤية الجمالية وضبط عناصر المسرح من إضاءة وصوت وديكور وحركة.

وسع سعيد أعاصم آفاقه إلى عالم السينما، حيث ساهم في الفيلم السينمائي “ياقوت” للمخرج جمال بلمجدوب، مما أتاح له تجربة مختلفة تمامًا عن المسرح، إذ تطلب العمل في هذا المجال ضبط الأداء أمام الكاميرا، وفهم الزوايا البصرية، والتفاعل مع اللغة السينمائية، التي تختلف في إيقاعها وطبيعتها عن المسرح الحي. هذه التجربة أضافت إلى مساره بعدًا آخر من المرونة الفنية، وأكدت قدرته على التكيف مع مختلف أشكال التعبير الفني، مع الحفاظ على عمق الأداء وصدق التعبير. من خلال هذه التجارب المتنوعة، يمكن القول إن سعيد أعاصم لم يقتصر على كونه ممثلًا أو تقنيًا فحسب، بل أصبح فنانًا متعدد الأبعاد، يملك القدرة على الانتقال بين التمثيل، والإخراج، والتقنيات، وصولًا إلى العمل السينمائي، وهو ما يعكس اتساع رؤيته الفنية، وتعدد أدواته في التعبير عن رؤيته الجمالية والفكرية، مما يجعله نموذجًا للفنان الشامل الذي يجمع بين الإبداع، والوعي الفني، والقدرة على قيادة المشروع المسرحي أو الفني من بدايته حتى نهايته.

لم يكن اهتمام الفنان سعيد أعاصم بالمسرح محصورًا في أداء الأدوار على الخشبة أو إدارة العناصر التقنية والإخراجية، بل امتد ليشمل جانبًا تربويًا وفنيًا بالغ الأهمية، من خلال مساهماته في مسرح الطفل، فقد كانت تجربة العمل مع الأطفال والشباب في قلب أولوياته، إدراكًا منه بأن المسرح ليس مجرد فعل فني، بل هو وسيلة تعليمية وثقافية قادرة على تشكيل وعي الجيل الصاعد، وغرس القيم الجمالية والاجتماعية في نفوس المتلقين الصغار والكبار على حد سواء. في هذا الإطار، انخرط سعيد أعاصم في النشاط المسرحي لجمعية فاس ظهر المهراز، التي برزت منذ بداية الألفية الثانية كفضاء نابض بالإبداع الفني والتربوي، وسعت إلى دمج المسرح والموسيقى في برامج تكوينية متنوعة تستهدف الأطفال والشباب، إلى جانب تنظيم مهرجان وطني لمسرح الطفل، أصبح موعدًا سنويًا يعكس أهمية الجمعية في الساحة الثقافية الوطنية. كان لسعيد أعاصم حضور واضح وجلي في هذه التجربة، إذ لم يقتصر دوره على التأطير الفني، بل شمل المشاركة العملية كمساعد مخرج، وتقني إضاءة، وموجّه للورش التكوينية، مع حرص على نقل خبراته المكتسبة عبر سنوات من العمل المسرحي المكثف، سواء على مستوى التشخيص أو الإخراج أو التصميم التقني للعرض. وقد أسهمت هذه التجربة في ترسيخ مبادئ العمل الجماعي والالتزام الفني، كما أتاح للأطفال والشباب الفرصة للتعرّف على مختلف أبعاد العرض المسرحي، من كتابة النص وتجسيده، إلى ضبط الحركة، والإضاءة، والموسيقى، والديكور، ما منحهم تجربة شاملة تعدّ نواة لبناء مستقبل مسرحي متكامل. تجسدت مساهماته العملية في سلسلة من العروض المسرحية التي أبدعت الجمعية تقديمها خلال تلك الفترة. ففي سنة 2000، شارك في إعداد وتقديم “عالم الخيال”، وهو عرض استهدف تطوير خيال الطفل وإطلاق قدراته التعبيرية، معتمدًا على تفاعل مباشر بين الممثلين والجمهور الصغير. تلاه عرض “العلم نور والجهل عار ” سنة 2001، الذي جمع بين البعد التربوي والفني، وحاول غرس قيم التعليم والفضيلة، وتوضيح أثر المعرفة في تشكيل وعي الطفل، مع الاستعانة بأساليب درامية ممتعة توازن بين التسلية والتثقيف.

وفي سنة 2002، ساهم في عرض مسرحية “قرية الزيتون”، الذي تناول قيم التعاون والعمل الجماعي في إطار سرد مسرحي مشوق، يتيح للأطفال فرصة التقمص واللعب المسرحي، وإدراك العلاقة بين الشخصيات والأحداث. ثم جاء عرض “حكاية الربوة الجميلة” سنة 2003، حيث واصل سعيد أعاصم جهوده في دمج الحركة والموسيقى والديكور ضمن تجربة تعليمية ممتعة، جعلت الأطفال يتفاعلون مع النص المسرحي ويفهمون آليات الأداء والخلق الفني. أما عرض “وليلي/أكورا” سنة 2004، فقد تميز بالابتكار الفني من حيث استخدام الفضاء المسرحي والوسائط المختلفة، مما أكسب الأطفال تجربة متعددة الحواس، ووسّع مداركهم الفنية والإبداعية.ولم تتوقف مساهماته عند هذا الحد، بل امتدت إلى سنة 2005 مع العرض المسرحي “الطبل”، من تأليف المسكيني الصغير وإخراج الحسين طكوك، حيث أتاح للعمل الفني فرصة للتواصل بين الجيل الصغير والكبير، من خلال تمكين الأطفال من المشاركة في كل مراحل الإعداد والإنتاج، مع الحفاظ على المعايير الفنية العالية للعروض، سواء على مستوى الأداء، أو الإخراج، أو الإضاءة، أو الموسيقى. يمكن القول إن تجربة سعيد أعاصم في مسرح الطفل مع جمعية فاس ظهر المهراز لم تكن مجرد نشاط جانبي في مساره الفني، بل كانت مشروعًا متكاملًا أرسى أسس التكوين المسرحي للأطفال والشباب، وغرس فيهم حب الفن، ووعي المسرح كأداة للتعبير عن الذات، وفهم العالم من حولهم. لقد تركت هذه التجربة بصمات واضحة، سواء لدى أفراد الجمعية الكبار، الذين استفادوا من خبرته الإدارية والفنية، أو لدى الصغار، الذين تعرفوا على تقنيات المسرح وأسس الأداء، وعاشوا تجربة غنية بالخيال والابتكار، وهكذا جسّد سعيد أعاصم قيمة الفنان المتعدد الأبعاد، الذي يجمع بين الأداء، والإخراج، والتقنيات، والتكوين، ويحول خبرته الفنية إلى رسالة تعليمية وثقافية، تثبت أن المسرح، مهما كان موجّهًا للطفل، يمكن أن يكون مساحة للإبداع، والتجريب، والوعي الفني والاجتماعي.

لم تقتصر مساهمة سعيد أعاصم في المشهد المسرحي على التمثيل والإخراج أو على الجانب الفني والتقني، وإنما امتدت لتشمل أيضًا أبعادًا تنظيمية وإدارية شكلت ركيزة أساسية لدعم الحركة المسرحية في مدينة فاس. فقد لعب دورًا محوريًا في تعزيز البنية المؤسساتية للمسرح، من خلال انخراطه في عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد المسرحي خلال مواسم 1976، 1982، و1983، حيث أسهم في وضع السياسات التنظيمية، وتنسيق أنشطة الفرق المسرحية، ودعم المبادرات الفنية والثقافية، مع التركيز على تطوير العمل الجماعي بين مختلف الفرق والجمعيات. لقد جسّدت مشاركته في هذه الفترة وعيًا كاملًا بأهمية التنظيم الإداري، باعتباره الأداة التي تتيح استمرار الحركة المسرحية، وتحمي حقوق الفنانين، وتضمن استمرارية الإنتاج الفني والجودة الإبداعية للعروض. امتدت هذه التجربة التنظيمية لاحقًا لتشمل الاتحاد المسرحي لمدينة فاس بين 1998 و2002، حيث واصل سعيد أعاصم مساهماته على مستوى التخطيط الإداري والمشاريع الثقافية، مؤكدًا دوره كحلقة وصل بين الفنانين والمؤسسات الثقافية المحلية، وكمحرك أساسي لتطوير النشاط المسرحي على المستوى الحضري. وقد تميزت مشاركته في هذه المرحلة بتركيزها على التكوين الفني للأعضاء، ودعم الفرق الصغيرة، وتشجيع المبادرات التجريبية، بما يعكس فهمه العميق للمسرح ليس مجرد عرض على خشبة، بل كمشروع ثقافي متكامل يحتاج إلى إدارة دقيقة ورؤية واضحة. من خلال هذه المسؤوليات الإدارية، تمكن سعيد أعاصم من الجمع بين خبرته الفنية الطويلة واحتياجات الحركة المسرحية من تنظيم وتخطيط، ما جعله فنانًا متعدد الأبعاد: ممثلًا، مخرجًا، تقنيًا، ومدبرًا إداريًا قادرًا على إرساء قواعد الاستمرارية والاستدامة للمسرح الفاسي. وقد تركت مساهماته بصمة واضحة في تقوية البنية التحتية للمسرح المحلي، ودعم الحراك الثقافي في المدينة، بما أسهم في خلق بيئة مسرحية أكثر حيوية، ومنفتحة على التجريب والابتكار، ومقدّرة لقيمة العمل الجماعي والمسؤولية التنظيمية. شكّلت مشاركته في الاتحاد المسرحي مستوى آخر من عطائه، يثبت أن دوره في المشهد المسرحي الفاسي لم يقتصر على الخشبة فقط، بل شمل صياغة السياسات، وتطوير البنية المؤسساتية، ودعم الأجيال الجديدة من الفنانين، لتبقى مساهماته مرجعًا مهمًا في تاريخ الحركة المسرحية بالمدينة.

يظل الفنان سعيد أعاصم علامة مميزة في المشهد المسرحي بفاس والمغربي، نموذجًا للفنان الشامل الذي جمع بين الحب الصادق للفن، والالتزام بالممارسة، والرغبة في تطوير الحركة المسرحية بكل أبعادها، عاش أعاصم المسرح منذ بداياته، وعشق الخشبة، ووجد في العمل المسرحي فضاءً للحرية الفكرية، والتجريب الفني، وإطلاق الطاقات الإبداعية. من التمثيل إلى الإخراج، ومن التقنية إلى التدبير الإداري، كان حضوره في كل ميدان ملموسًا وواضحًا، بحيث ترك بصمة لا تمحى على الجماعة المسرحية وعلى الأجيال الجديدة من الفنانين الذين تعرفوا على قيم الالتزام والتفاني والإبداع من خلال عمله. رغم تميزه وتنوع مهاراته، لم يكن للمصير السينمائي أو التلفزيوني حظّه معه، فلم تتح له السينما مثلما تحقّق لزملائه في فاس الذين تمكنوا من اختراق دوائر الإنتاج في الدار البيضاء أو الرباط، ولم تسنح له الفرص لتقديم نفسه في أفلام أو مسلسلات تلفزيونية، وهو أمر يبرز واقع التهميش الذي عانى منه كثير من الفنانين الملتزمين خارج المحاور الكبرى للثقافة والفن في المغرب. لقد ظل أعاصم مخلصًا للمسرح، رغم ضيق الفرص، ومحدودية الموارد، وتحديات الانتشار، مؤمنًا بأن الخشبة هي المكان الذي يمكن أن تتحقق فيه تجربة الفنان الشاملة، وأن الإبداع الحقيقي لا يحتاج إلى الشهرة بقدر ما يحتاج إلى الالتزام والصدق الفني. لقد شكلت هذه الظروف جزءًا من سياق تاريخي واجتماعي ألقى بظلاله على مسيرة العديد من الفنانين في فاس، الذين عاشوا تجربة التهميش وقلة الفرص، حيث كان التحكم في مسارات الإنتاج الفني مركزًا غالبًا في الرباط أو الدار البيضاء. إلا أن ذلك لم يضعف عزيمة سعيد أعاصم، بل جعله أكثر تصميماً على أن يكون فنانًا شاملًا، ممثلًا وتقنيًا ومخرجًا، ومؤطرًا، ومساهمًا في تطوير البنية المسرحية والإدارية للفرق والجمعيات، بما يجعل من المسرح فضاءً حيًا للتجريب، والتكوين، والتعبير عن الوعي الاجتماعي والفني. بهذه الرؤية الشاملة، أصبح سعيد أعاصم رمزًا للفنان الذي يقدم الفن بلا حدود، ويعطي بسخاء دون انتظار الشهرة أو التقدير السينمائي، ويمثل نموذجًا للفنان الملتزم والمنتج والمربي في آن واحد، إن مسيرته تثبت أن القيمة الحقيقية للفنان لا تقاس بعدد الشاشات التي ظهر عليها، وإنما بعمق تأثيره في حقل الثقافة والفن، وبقدر ما يتركه من إرث معرفي وجمالي للأجيال القادمة، ليبقى اسمه محفورًا في تاريخ المسرح بفاس خاصة والمغرب عامة كواحد من أعمدته المضيئة والمعطاء.



