قراءة نقدية في رواية”هكذا انتهت البداية” لإحسان موسى أبو غوش: إعلان عن وعي فلسفي يرى الهوية كمسار مفتوح لا كجوهر مغلق

يقدّم الكاتب إحسان موسى أبو غوش في مفتتح سيرته التي اختار لها عنوانا وجوديا “هكذا انتهيت البداية”، (الصادرة عن “الرعاة للدراسات والنشر” نهاية عام 2025، تصميم الغلاف والتصميم الداخلي لعبد الله دوبكات طباعة، من الحجم الوسط تقع في 228 صفحة) في محاولة لإزاحة الستار عن “فكرة البداية” بوصفها إشكال أنطولوجي يحرّض القارئ على التفكير في أصل الأشياء ومآلاتها، يقدم لنا نموذجًا مميّزًا لما يمكن أسميه “السيرة–الفلسفة”؛ أي السيرة التي لا تكتفي بأن تحكي حياة صاحبها، بل تحوّل الحياة ذاتها إلى سؤال، فالنص لا ينطلق من وقائع خطيّة، ولا يسعى إلى ترتيب زمنيّ يضمن للقارئ خريطة طفولة ومراهقة وشباب، بل يبدأ من تفكيك مفهوم البداية نفسه، وهي خطوة تُدخل القارئ مباشرة إلى أفقٍ فلسفيّ، بوذيّ وصوفيّ ووجوديّ في آن. إنّ السؤال الأول “لا أعـي جيّدًا متى بدأت البداية…” ليس سؤالًا سرديًا، وإنما هو سؤال ميتافيزيقي يضع الذات في مواجهة شرط وجودها، هل البداية بيولوجية، وجودية، روحية، أم سردية؟ بذلك ينخرط الكاتب منذ السطر الأول في تكسير أفق انتظار القارئ، فهو لا يروي، ولكنه يفكّر بالرواية؛ ويعترض على فعل الاسترسال نفسه. يُذكّر هذا المدخل بمقاربات بوذية وصوفية حيث تُمحى الحدود بين البدء والنهاية، ويغدو الزمن دائرة لا خطًا، وهنا، يمارس احسان ما يمكن تسميته “هندسة اللايقين”، حيث يقدّم بدايات متعددة، ثم يقوّضها جميعًا. كأنّه يريد أن يقول إنّ أيّ سرد هو اختيار اعتباطي لنقطةٍ داخل نهرٍ لا بداية له.

تتّخذ السيرة في هذا الأفق شكل الوصيّة المعلنة في صيغة سرد، حيث يموّه الكاتب خطابه إلى الابن داخل نسيج الحكاية، فيغدو النص مساحة مزدوجة لتصفية الذاكرة وتوريث المعنى في آن واحد، الوصايا هنا لا تُصاغ على هيئة أوامر أخلاقية مباشرة، وإنما تأتي في صورة تجارب عيش، وانكسارات، وخيارات صعبة تُعرض لا لتُحتذى آليًا، وإنما لتُقرأ بوصفها إمكانات للفهم والاختلاف معًا في هذا المستوى، لا يخاطب الأب ابنه فقط، وإنما يخاطب ذاته في زمن سابق، كأن السيرة تتحوّل إلى رسالة مرتجعة إلى الطفولة التي لم تُمنح ما يكفي من الإرشاد والأمان. هذه الوصايا المضمرة تفتح باب المستقبل لا باعتباره امتدادًا طبيعيًا للماضي، وإنما باعتباره فضاء تجريب، وغموض، وعجائبية محتملة. إن استشراف الطقوس المقبلة لا يتم عبر تنبّؤات جاهزة، ولكن عبر تدريب الوعي على الشك، وعلى الصبر، وعلى تحمل التناقض. بهذه الطريقة، تتحوّل الأبوة إلى فعل تأويلي، لا يورّث اليقين بل القدرة على مساءلته. السيرة هنا لا تُغلق الدائرة، وإنما تؤسّس لعلاقة جديدة مع الزمن، حيث لا يعود الابن امتدادًا للسرد، بل قارئًا مستقبليًا له، يعيد كتابته بمعاييره الخاصة.

يتحوّل النص بعد ذلك من سؤال الوجود إلى سؤال الشرعية “لماذا عليّ أن أُخرج هذا العمل إلى النور؟”؛ وهو سؤال أخلاقي قبل أن يكون جماليًا، يظهر الكاتب هنا مترددًا في ممارسة فعل الكتابة، كأنه يدرك ثقل الادعاء بأنّ حياة فردٍ تستحق التدوين. يستدعي اعتراض الأم، وهي سلطة قيمية تقليدية في المجتمع العربي، لتجسيد هذا الارتباك بين معيار العمر ومعيار القيمة، لكنّ الكاتب يرفض معيار الزمن لصالح معيار “العرض” عمق التجربة وغنى العطاء. وهنا يلتقي مع تصوّر وجودي يرى الزمن لا كمِقدار وإنما كمُحتوى. يبرز بعد ذلك خطاب الوصيّة الإنسانية، حيث يرى الكاتب أنّ الحياة لا يمكن أن تُحتفل بها طالما ثمة أطفال جائعون وشعوب مهدّمة، هذا التوسّع الأخلاقي من “الأنا” إلى “البشرية” يحوّل السيرة الذاتية إلى سيرة “ضمير”. إنها كتابة لمساءلتها أمام الآخرين، وليس لتمجيد الذات، غير أنّ هذا المنحى الأخلاقي قد يفتح سؤالًا نقديًا، هل تتحوّل السيرة هنا إلى خطاب عام يفقد خصوصيته؟ أم أنّ انفتاح الذات على المأساة البشرية هو شرط لإضفاء المعنى على الحكي الشخصي؟، يبدو أنّ احسان يختار الطريق الثاني، ليحوّل “البداية” إلى موقف إنساني شامل. يأتي بعدها خيار عدم ذكر الأسماء، وهو خيار يجرّد الشخصيات من هويتها الاجتماعية ليرفعها إلى مستوى “نماذج فكرية”. وبهذا يستعيد الكاتب تقليدًا قديمًا في النصوص الدينية والفلسفية، حيث لا يكون الاسم مهمًا بل الموقف والمعنى. إلا أن هذا التجريد يضع القارئ أمام معادلة نقدية، هل يصبح الإنسان، بلا اسم، كينونة فكرية أم ظلًا بلا ملامح؟، يبدو أنّ الكاتب يميل إلى الأولى، حيث الشخصيات علامات وليست أفرادًا. ليطرح احسان سؤال الشجاعة، هل كتب بصدق؟ هل كان شفافًا بما يكفي؟ هنا تتجلّى أسئلة السيرة الذاتية بوصفها حدثًا أخلاقيًا، ومساحة هشاشة، وليست مجرد إعادة سرد لوقائع الماضي. إنّ اعترافه بعدم الكمال، وإصراره على حرية الآراء والمعتقدات، يكشف استراتيجية كتابة قائمة على “التعرّي الإنساني”، حيث يقدّم نفسه كتجربة لا كحقيقة. هكذا يتحوّل مفتتح السيرة إلى بيان فلسفي حول ماهية البداية، وشرعية السرد، ومسؤولية الإنسان في عالم مضطرب. إنها كتابة تشبه الوقوف على العتبة، لا تبدأ تمامًا، لكنها تجعل القارئ مستعدًا للدخول.

تتكثّف الطفولة مخزنًا أنطولوجيًا تتشكّل داخله البذور الأولى للوعي، لا بوصفها مرحلة عمرية عابرة، حيث يمتزج الشخصي بالكوني، والحميمي بالتاريخي، واللغة الأولى بلغة الجرح الجماعي، خطاب(وصاية) الأب لابنه يتحوّل إلى قناة تأمّل مزدوجة في معنى الميلاد، وفي عبء الوراثة الوجودية والرمزية معًا، لحظة التسمية نفسها تتجاوز كونها فعلًا عاطفيًا، لتغدو تأسيسًا فلسفيًا للكينونة، حيث الحب يصير شرط الوجود بدل الشك، في انزياح دلالي عميق عن يقين ديكارت نحو يقين وجداني يضع العاطفة في مركز الأنطولوجيا. الطفولة هنا ليست بريئة على نحو ساذج، هي محكومة منذ ولادتها بثنائية القدر والهوية المفروضة، سؤال الذنب يتكرّر بوصفه سؤالًا وجوديًا لا أخلاقيًا فقط، ذنب الانتماء، ذنب المكان، ذنب القومية التي لا تُختار، وتتحوّل هذه المعادلة إلى وعي مبكر بأن الإنسان يُلقى في العالم كما هو، دون إذن أو تفاوض، هذا الإدراك يوازي أطروحات الوجودية في فكرة الإلقاء، مع تحميلها حمولة فلسطينية كثيفة تجعل الوجود نفسه مشروطًا بالاحتلال والاقتلاع. الذاكرة الطفولية تتشكّل عبر مفردات الجسد والطبيعة واللعب والبيت القديم، حيث العلاقة مع الأرض ليست خطابًا سياسيًا، إنما تجربة حسية مباشرة، جمع الزعتر، اللعب في الحقول، بناء الألعاب من الخشب والأسلاك. هذا الفضاء الطبيعي ينتج تصورًا للعالم قائمًا على المشاركة لا الاستهلاك، وهو ما يفسّر لاحقًا القلق أمام هيمنة الشاشة والذكاء الاصطناعي، بوصفه تهديدًا لطبيعة العلاقة بين الإنسان والعالم. التقنية هنا لا تظهر كتقدّم محايد، إنما كقوة إزاحة للخبرة الحيّة.

الحضور العائلي، ولا سيما صورة الجدة، يُقدَّم باعتباره ذاكرة جمعية مصغّرة، ومتحفًا شفهيًا للثقافة الشعبية، الجدة في الرواية ليست فردًا عابرا، هي بنية رمزية تختزن القيم والمعرفة والعمل واللغة والعناية بالحياة، علاقتها بالطعام، بالحيوانات، بالأدوات القديمة، تتحوّل إلى فلسفة كاملة للعيش، حيث الاكتفاء والبساطة والانتماء إلى إيقاع الطبيعة. وموتها لا يُصوَّر كفقد شخص فقط، إنما كانطفاء مركز وجودي جمعي، فيما يظهر الدين باعتباره تشكيلًا أوليًا للوعي، حيث التديّن ليس اختيارًا فكريًا، إنما انغماس في منظومة مرجعية تقود السلوك وتحاصر الأسئلة، صورة الطفل الملتزم، الشيخ الصغير، تكشف عن مرحلة من التسليم الكامل للسلطة الرمزية. غير أن هذا التسليم يتجاور مع بذور الشك الصامت، مع تلك الأسئلة التي تبدو بسيطة في ظاهرها، حول القهوة والشارب والعيب، لتتبنى في العمق أول تصدّعات العقل النقدي داخل منظومة العرف. الانتفاضة الأولى تمثّل في هذا المسار لحظة الانكسار الكبرى للبراءة، حيث يدخل التاريخ بوصفه قوة صادمة إلى وعي الطفل، هنا تتشكّل الهوية الوطنية لا عبر الشعارات، إنما عبر الصورة، الدم، الحواجز، الجثث، والعابرين بين الحواجز. الوعي السياسي يتولّد بوصفه نتيجة مباشرة لصدمة الواقع، لا كنتاج تنظير مسبق. من هذه اللحظة يبدأ تشكّل الشاعر، وتبدأ القصيدة بوصفها محاولة لترويض الفاجعة لغويًا. المدرسة، المسجد، البيت تشكّل مثلث التكوين الأول، ثم تأتي القراءة لتكسر حدوده. الانتقال من الكتب البوليسية إلى محفوظ وإلى الفلسفة ليس انتقالًا في الذائقة فقط، هو انتقال في بنية التفكير نفسها. القراءة تتحوّل إلى أداة تحرّر بطيئة من النمطية ومن الجاهز، وهي ما مهّد لاحقًا لاختيار الفلسفة بوصفها قدرًا لا تخصّصًا عابرًا. الفلسفة هنا ليست مادة أكاديمية، هي أداة تفكيك كبرى للوعي السابق، وهي التي أعادت ترتيب العلاقة مع الدين، مع السلطة، مع الذات. السيرة تشتغل بوصفها بناءً متراكمًا للوعي عبر ثلاث طبقات: الذاكرة الحسية، الصدمة التاريخية، والتفكير المفهومي، الطفل الذي يلعب بالحجارة ويخبئ الحب في قلبه، هو نفسه الذي سيقف لاحقًا على الحاجز شاعرًا، ثم طالب فلسفة يعيد النظر في المسلّمات كلّها. بهذه البنية، يغدو هذا الجزء من السيرة ليس سردًا للطفولة فقط، إنما تشريحًا دقيقًا لكيفية تشكّل الذات الفلسطينية بين الحب والجرح، بين الإيمان والتساؤل، بين الأرض واللغة، وبين البراءة الأولى والوعي المؤلم.

تمثّل مرحلة “بداية الشك والتمرد والتحزب” بوصفها انتقالًا وجوديًا من يقينٍ موروث إلى وعيٍ مأزوم بالأسئلة، وليست لحظة مفصلية في السيرة، بوصفها سردًا لانتقال تعليمي فحسب، إنما الدخول إلى الجامعة العبرية يُصوَّر كلحظة صدمة لغوية ومعرفية، صدمة تكشف هوّة بين عالمين،عالم المدرسة المغلق على بداهاته، وعالم الجامعة المفتوح على الشكّ والتفكيك. اللغة هنا ليست أداة تواصل فقط، إنما أداة سلطة، ومن خلال صعوبتها الأولى يتجلّى الإحساس بالاغتراب المعرفي، وكأن الذات تُلقى فجأة في فضاء لا تملك مفاتيحه. هذا الاغتراب يولّد توترًا مبكرًا بين الإيمان والتأويل، بين المقدّس ومنهجه النقدي عند المستشرقين، فيتحوّل الصفّ الدراسي إلى ساحة اشتباك رمزي بين تصورين للحقيقة.وبالتالي السرد لا يتعامل مع هذا الاشتباك بوصفه نقاشًا أكاديميًا معزولًا، إنما بوصفه مسًّا مباشرًا بجذور الهوية، حين تُطرح قضايا مثل الوحي والإسراء والذبيح، تتحوّل المعرفة إلى اختبار وجودي للذات، فتُستفز العقيدة من داخلها لا من خارجها. السؤال الذي يوجَّهه الراوي إلى المحاضر عن العصمة ليس سؤال طالب يريد معلومة، إنما سؤال كائن يشعر أن صورة العالم التي نشأ عليها تتعرّض لاهتزاز عميق. هنا يبدأ الشكّ بوصفه طاقة تفكيك، لا بوصفه تمرينًا ذهنيًا محايدًا.يتقاطع هذا الشكّ مع المرجع الديكارتي الذي يستحضره النص بوضوح، حيث يتحوّل الشكّ إلى شرط للمعرفة، لا إلى عارض لها. غير أن الشكّ في تجربة السارد لا ينفصل عن سياق استعماري ومعرفي ضاغط، فليس هو شكّ الفيلسوف المنعزل في غرفته، إنما شكّ طالب عربي داخل مؤسسة معرفية عبرية تستبطن تصوّرات عن الإسلام والتاريخ والهوية. هكذا يتخذ الشكّ طابعًا مزدوجًا: معرفيًا من جهة، ووجوديًا سياسيًا من جهة ثانية.الفلسفة في هذه المرحلة “بداية الشك والتمرد والتحزب” لا تظهر كنسق نظري منظم، إنما كقوة زلزالية تعيد ترتيب الداخل. الأسئلة عن الموت، الحرية، الجوهر، السببية، الحقيقة، لا تُطرح في سياق تنظيري مجرد، إنما تُقدَّم باعتبارها قلقًا دائمًا يرافق الوعي، النصّ يعكس انتقال الذات من منطق التسليم إلى منطق المساءلة، وهو انتقال يتم بثمن نفسي باهظ: فقدان الطمأنينة القديمة دون ضمان الوصول إلى يقين جديد. لهذا تبدو الفلسفة هنا تجربة تمزّق بقدر ما هي تجربة تحرّر. في الخلفية، يتحرّك التاريخ السياسي الفلسطيني كظلّ ثقيل يرافق هذا التحوّل الداخلي. الانتفاضة، أوسلو، الجدار، رام الله، تتحوّل من وقائع سياسية إلى عناصر تُغذّي وعي الشكّ ذاته. فكما تُفكَّك المسلّمات الدينية والمعرفية في الصفّ، تُفكَّك المسلّمات السياسية في الشارع. خيبة الدولة الموعودة تماثل خيبة اليقين المطلق، والذات تجد نفسها محاصرة بين مشروعين: مشروع تحرّر مؤجَّل، ومشروع وعي لا يمنح طمأنينة جاهزة. اللافت أن التحزّب السياسي لا يأتي بوصفه انتقالًا أيديولوجيًا جامدًا، إنما بوصفه امتدادًا لتحوّل فكري سابق. الانخراط في التجمّع يُبنى على فعل الشكّ في الخطاب السائد، وعلى الرغبة في كسر إرث الخوف المتراكم من الحكم العسكري. التخوين الاجتماعي الذي يتعرّض له السارد يكشف عمق الصراع بين جيلين، جيل تعلّم الطاعة كآلية بقاء، وجيل بدأ يتلمّس السياسة كأفق مساءلة. العودة إلى التعليم في نهاية المقطع تمنح التجربة بعدًا تركيبيًا: الفلسفة لا تبقى في الكتب، إنما تُترجم إلى ممارسة تربوية تسعى إلى إنتاج عقل ناقد، درس النحو يتحوّل إلى درس في المعنى، والضبط إلى تدريب على التفكير، والمعلم إلى وسيط بين المعرفة والتحرّر. في هذا المستوى، تبلغ السيرة ذروة دلالتها: الذات التي تشكّكت في مسلّماتها، وتعرّضت للصدع، تعود لتشتغل على إعادة بناء وعي جماعي جديد، واعٍ، متسائل، غير منقاد بسهولة. في هذه المرحلة تتكثّف جدلية الشكّ والتمرّد والانتماء، حيث لا ينتهي الشكّ إلى عدميّة، ولا ينتهي الانتماء إلى استسلام، إنما يتشكّلان كحركة دائمة بين الفكرة والواقع، بين الذات وتاريخها، بين الرغبة في اليقين والحاجة إلى مساءلته على الدوام.

ومع مرحلة “بداية الحب تتقدّم تجربة الحبّ بوصفها مختبرًا أساسيًا لاختبار الوجود لا كزينة عاطفية مرافقة للسيرة، السارد يتعامل مع الحبّ باعتباره طورًا من أطوار التشكل الإنساني الذي لا يكتمل بدونه الوعي بالذات والآخر. التردّد الذي يطبع السرد في الإفصاح عن التفاصيل لا يصدر عن حياء لغوي فقط، إنما عن وعي حاد بأن العاطفة حين تُقال تفقد بعضًا من توهّجها، وأن تحويل التجربة إلى خطاب عام يعرّضها لخطر الابتذال. من هنا يأتي الإيجاز المتعمّد كاستراتيجية حماية للتجربة لا كعجز عن البوح. تتراوح البدايات العاطفية بين المراهقة والجامعة في حركة تشبه التمرين الوجودي على القرب والفقد، على التعلّق والانفصال، حيث يتعلّم الوعي أن الرغبة لا تكفي لبناء الاستمرار. الحبّ هنا يتشكّل كمسار تعلّم طويل لا كهبة جاهزة، وكل تجربة تُدوَّن بوصفها عذرًا إنسانيًا يحمل داخله سردية ذاتية تكشف هشاشة الإنسان منذ بداياته الأولى. هذا البعد التعليمي للحبّ يحوّله إلى قوة تُنتج المعنى عبر الخسارة كما عبر اللقاء. الشعر في هذه المرحلة من الرواية “بداية الحب لا يظهر كتزيين لغوي، إنما كجهاز فلسفي بديل للتفكير حين تعجز المفاهيم المباشرة عن احتواء الشحنة العاطفية. التعلّق بالأعين، بالورد، بالصباح، ليس استدعاءً رومانسيًا بريئًا، إنما محاولة لتحويل الجسد إلى استعارة، والعاطفة إلى صورة قابلة للتداول. هكذا يصبح الشعر أداة تعويض عن نقص القدرة على القول المباشر، وأداة تفريغ للقلق الوجداني في آن واحد.

لقطة الهدية المرفوضة تمثّل انكسارًا رمزيًا بالغ الدلالة؛ الورد الذي يُفترض أن يكون علامة قبول يتحوّل إلى علامة نفور، والكتاب الذي يحمل مشروع معنى لا يجد طريقه إلى القلب. هذا التوتر بين الرمز وفعاليته يكشف وعيًا مبكرًا بطبيعة الحبّ كعلاقة محكومة بسوء الفهم، وبسوء تقدير العلامات. في هذه اللحظة يتعرّض الشاعر لأول اختبار حاد لحدود اللغة حين تصطدم بنيّة الإهداء بجدار التأويل المختلف.العلاقة التي تقوم على الأحجية تكشف ميلًا واضحًا إلى تشفير العاطفة بدل إعلانها، وكأن الحبّ لا يُحتمل إلا حين يُوارى خلف لغز. الاسم الذي لا يُقال يتحوّل إلى مركز جذب تخييلي أكبر من الاسم المصرّح به، وهنا يتجلى البعد الفلسفي للعاطفة بوصفها شغفًا بما لا يُمتلك كاملًا. العاشق لا يتغذّى مما يحوزه، إنما مما يسعى إلى فكّ شفرته دون أن يبلغ نهايتها.التحوّل الجذري يأتي مع حضور الأم بوصفها اكتمالًا لمعنى الحبّ بعد تشتته في الصور الأولى. الحبّ هنا يفقد طابع اللهفة العابرة ويتحوّل إلى مشروع حياة ومشاركة ومواجهة. الأسئلة التي يطرحها السارد حول ماهية الحبّ لا تنتمي إلى حقل التعريف الأكاديمي، إنما إلى حقل الاختبار اليومي الذي يبرهن أن الحبّ مزيج من القلق والطمأنينة، من التعلّق والحرية، من التضحية والرغبة. هذه التركيبة تكشف أن الحبّ ليس حالة شعورية فقط، إنما بنية زمنية تتغذّى من الاستمرار.مرحلة “بداية الحب”تتزامن فيها الخطوبة مع بناء البيت والعمل والدراسة والضغط المالي والمرض العائلي تكشف الحبّ وقد انتقل من الحلم إلى الاختبار القاسي. العاطفة هنا لا تعيش في فراغ شاعري، إنما في شبكة كثيفة من الالتزامات والديون والمسؤوليات. هذا الوضع يضع الحبّ في مواجهة شروط الواقع الصلبة، ويحوّله من وعد بالسعادة إلى طاقة مقاومة للانهيار. المعنى يتكوّن هنا عبر الاستنزاف لا عبر الرفاه.الصبر والعمل المتواصل وتعدّد الأدوار تشكّل صورة الإنسان الذي يعيد بناء نفسه تحت الضغط، حيث يتطابق الحبّ مع قدرة الاحتمال لا مع الخفة. التجربة العاطفية تندمج مع أخلاقيات الاعتماد على النفس، ومع الإصرار على البقاء واقفًا رغم تداخل الصدمات. في هذا السياق يتبدّى الحبّ كقوّة تنظيم داخلي تمنح الوعي سببًا إضافيًا لمقاومة التفكك.في نهاية “بداية الحب” تتكشّف الفلسفة الضمنية للسارد، الحياة مفترق دائم بين الانكسار والتجاوز، والحبّ أحد أعمدة العبور لا ملاذًا من العاصفة. العاطفة لا تُقدّم باعتبارها خلاصًا جاهزًا، إنما بوصفها شريكًا في السير داخل عالم مليء بالمطبّات. هكذا يغدو الحبّ في السيرة مكوّنًا من مكوّنات بناء الذات القادرة على حمل الألم دون أن تفقد معناها.

وفي مرحلة “بداية الإبداع” يتكشّف الإبداع بوصفه تحوّلًا وجوديًا لا مجرّد انتقال وظيفي أو أكاديمي، إذ يخرج السارد/ الوصي/ احسان، من ضغط الاستهلاك اليومي للحياة إلى أفق التأمل والبحث والكتابة، وكأن التخفيف من أعباء العمل لم يكن مجرّد قرار عملي، إنما كان فعل تحرير للزمن الداخلي الذي لا يولد فيه الإبداع إلا حين يستعيد الإنسان حقه في الصمت مع ذاته. الانتقال إلى السكن الجامعي، والعودة المتأخرة إلى الدراسة، والانغماس في أطروحة عن إبراهيم طوقان، كل ذلك يعيد بناء الذات على أسس المعرفة لا على منطق الوظيفة وحده. هنا يبدأ الوعي في تجاوز منطق الضرورة إلى منطق المعنى. تتخذ الصداقة في هذا السياق معنى فلسفيًا يتجاوز التآنس العاطفي نحو إقامة مشتركة في الفكر، حيث تتجاور هويات دينية مختلفة ضمن ثلاثي إنساني يتأسس على الحوار لا على التنافر، هذا التعدّد لا يظهر بوصفه موقفًا شعاريًا وإنما ممارسة يومية في تبادل الكتب، وفي مساءلة الروايات، وفي الحفر النقدي داخل النصوص. القراءة هنا ليست استهلاكًا للمعنى، وإنما اختبار له، ومقاومة صامتة للجمود. الرواية العالمية، من دوستويفسكي إلى أورويل، تصير مختبرًا أخلاقيًا لإنتاج حسّ التمرد على القهر، وعلى السلطة، وعلى التقاليد حين تفقد معناها الإنساني. هكذا تتحول القراءة إلى فعل سياسي غير مباشر، وإلى تمرين على الحرية قبل أن تكون خطابًا عنها. الكتابة في هذه المرحلة لا تبدو زينة لغوية، إنها استجابة لفيض داخلي تولّد من التفرغ الذهني بعد سنوات من الاستنزاف. الإبداع هنا مرتبط بشرطين: المعرفة والرفقة، فالكلمة لا تولد في الفراغ، ولا في العزلة المطلقة، وإنما في المسافة الخصبة بين الذات والآخر. الحوار الفلسفي حول المصادفة والقدر، حول سؤال القيمة ومعنى ما يتبقى بعد مرور الزمن، يكشف أن النص السيري(السيرة) لا ينشغل بسرد الوقائع بقدر ما يشتغل على مساءلتها، وعلى تفكيك بداهاتها الأخلاقية والوجودية. ثم إن دخوله إلى عالم الإعلام من بوابة التحرير اللغوي يفتح فصلًا جديدًا من الصراع بين المعرفة والسلطة. اللغة هنا تغدو ساحة اشتباك سياسي، حيث المصطلح ليس بريئًا، وحيث التسمية تصير اختزالًا للعالم وفق أجندات خفية. اختيار «حائط البراق» بدل المفردات السائدة، والموازنة الدقيقة في توصيف الأحداث، كلها تفاصيل تكشف وعي السارد بأن الكلمة ليست مرآة محايدة للواقع، وإنما أداة لصناعته. في هذا التحول يتجسد انتقال الإبداع من المجال الأدبي إلى المجال العام، حيث تصير اللغة مسؤولية أخلاقية لا مهارة تقنية فقط. في موازاة ذلك، يحتفظ السارد بخيط متصل مع العمل المجتمعي، وكأن العطاء لا يتناقض مع التكوين الذاتي، وإنما يتكامل معه في حركة مدّ وجزر مستمرة. مشروع “معًا على درب الجامعة” لا يظهر كمبادرة إدارية، وإنما كثمرة لرؤية تعتبر التعليم فعل إنقاذ جماعي من الهشاشة. غير أن السارد لا يسقط في وهم الطمأنينة التربوية، إذ يلتفت إلى مفارقة ازدياد التعليم مع تصاعد العنف، فيطرح السؤال دون أن يدّعي امتلاك الجواب، تاركًا فراغ المعنى مفتوحًا أمام القارئ.

قصة اللقاء العاطفي في فضاء العمل لا تأتي بوصفها نزوة رومانسية، وإنما كامتداد لمنطق البحث ذاته الذي حكم مساره المعرفي. الحب هنا يخرج من عفويته البسيطة ليتقاطع مع الكتابة، ومع المجلة، ومع شعر درويش، وكأن العلاقة العاطفية لا تولد خارج النص، وإنما من رحم الثقافة ذاتها. هكذا تتداخل السيرة الشخصية مع السيرة الفكرية في نسيج واحد لا تنفصل خيوطه. في مجمل هذا المقطع، تتضح ملامح ذات تسير على حافة التوتر بين الواجب والحرية، بين الالتزام الاجتماعي والانخطاف الإبداعي، بين الصداقة والاختلاف، بين الإعلام بوصفه مؤسسة، واللغة بوصفها ضميرًا. إن مرحلة “بداية الإبداع” لا تُفهم هنا على أنها لحظة فردية معزولة، وإنما كمحصلة تاريخ من الضغوط والانكسارات والقراءات والحوارات، أي كنتاج مسار طويل من إعادة تشكيل الذات في مواجهة العالم.

تتجسّد الذروة بوصفها نقطة التقاء بين التجربة العاطفية والتاريخ العام في مرحلة “بداية الذروة”، حيث لا تعود السيرة مجرّد مسار ذاتي معزول، وإنما تتحوّل إلى نسيج تتشابك فيه الحياة الخاصة مع الوجع الجمعي. اللغة هنا تتحرّك بين دفء الحب الأول وبين قسوة الوقائع السياسية، وكأن الذات لا يُتاح لها أن تبلغ اكتمالها الشعوري إلا وهي محمولة على أكتاف الفاجعة العامة. حضور الأم يتحوّل من صورة عاطفية إلى رمز لقيمة أخلاقية ومهنية، الصحافة عندها فعل مقاومة، والصوت الإعلامي يصبح امتدادا للصوت الإنساني المنكسر. في هذا السياق تتشكّل العلاقة بوصفها وعيا مشتركا لا مجرّد انجذاب، علاقة تتأسّس على اللغة والمعرفة والانحياز للحقيقة. الكاتب في هذه (الذروة) لا يقدّم الحب كملاذ من العالم، وإنما كطريقة أخرى للانخراط فيه. البحر، الميناء، الشفق، تفاصيل يومية تتحوّل إلى فضاءات تأمّل، وفي الوقت نفسه إلى هوامش هشة على مركز يعجّ بالدم والخذلان. الذكرى هنا ليست استرجاعا رومانسيا، إنما توثيق حادّ للحظة يتعايش فيها الحلم مع الخطر. ومن هذه المنطقة يولد التوتر الفلسفي بين الرغبة في البقاء داخل دفء العاطفة، والاضطرار الدائم للعودة إلى صخب التاريخ. استدعاء أسماء محمود درويش وسمِـيح القاسم وخضر عدنان لا يأتي على هيئة تأبين فقط، وإنما باعتبارهم علامات على صراع الوجود من أجل المعنى. هنا تتقاطع الكتابة مع الفعل السياسي، فينقلب النص إلى شهادة على زمن يلتهم رموزه تباعا. الموقف من الربيع العربي يعكس وعيا مأزوما بالتحوّلات، وعقلا يرى في الثورة ضرورة تاريخية وفي انكسارها دليلا على هشاشة البنية العميقة للوعي العربي. الأسئلة المتلاحقة حول الحرية والتفكير والكتاب ليست شعارات، وإنما خلاصات تجربة دفعتها الوقائع إلى الشك في كل يقين جاهز. في هذه المرحلة “بداية الذروة” تظهر الكتابة فعلا وجوديا قبل أن تكون إنجازا فنيا. الديوان الأوّل لا يخرج من رحم العافية، وإنما من مخاض القلق والاحتكاك اليومي بالعنف والأخبار والاشتباك مع السلطة والمجتمع. هكذا تتبلور الذروة لا باعتبارها لحظة انتصار صاف، وإنما باعتبارها نقطة وعي حادّ بالذات في مواجهة الخارج، ووعيا بأن الإبداع ليس زينة للحياة، وإنما أحد أشكال مقاومتها العميقة. تتجسّد “بداية الذروة” في لحظة انكشاف كثيف للذات وهي تواجه العالم وقد بلغ أقصى درجات توحّشه الرمزي والمادي. لا تظهر الذروة هنا كتحقّق حلم أو اكتمال مشروع، وإنما كاحتشاد توتّر داخلي يضع الفرد في تماسّ مباشر مع حدود قدرته على الاحتمال. السيرة في هذا الموضع تخرج من منطق التدرّج الهادئ إلى منطق الصدمة، حيث تتسارع الوقائع ويضيق الزمن وتتقلّص المسافة بين الفكرة ونتائجها. الذات التي كانت تبني وعيها في القراءة والصداقة والعمل الثقافي تجد نفسها أمام اختبار الوجود في أكثر صوره عريًا، اختبار تكون فيه الحياة مهدّدة في معناها اليومي لا في تجريدها الفلسفي وحده. العاطفة هنا في “بداية الذروة”تفقد طابعها الرومانسي المطمئن وتتحوّل إلى تعبير عن هشاشة الكائن وسط عالم معاد. العلاقة هنا لا تنهار بسبب ضعفها الداخلي، وإنما تحت ضغط خارج يتغوّل عليها ويشوّه إيقاعها الطبيعي. الحب في هذا السياق لا يعود ملاذًا، وإنما يصير مرآة تتكثّف فيها صورة الخوف والانتظار والعجز. هذا التحوّل يمنح التجربة العاطفية بعدًا أنطولوجيًا، فالفقد لا يظهر كحادثة شخصية، وإنما كعلامة على انكسار أوسع يمسّ معنى التعلّق ذاته في زمن مضطرب. اللغة التي يعتمدها السارد في توصيف الذروة تميل إلى التقطيع والإيقاع المتشنّج، كأن الجملة نفسها تتعثّر تحت وطأة ما تحمله. هذا الاضطراب الأسلوبي ليس ضعفًا فنّيًا، وإنما انعكاس مباشر لاهتزاز التوازن الداخلي. الكتابة هنا لا تؤدّي وظيفة التجميل ولا وظيفة الترتيب، وإنما وظيفة النجاة من الانفجار الصامت الذي يتراكم في الداخل. السيرة تتحوّل من سجلّ للذاكرة إلى أداة دفاع وجودي، ومن حكاية حياة إلى تمرين على البقاء.

الموقف من الواقع السياسي في هذا المقطع يزداد حدّة وتجذّرًا، حيث يخرج من مستوى الرصد إلى مستوى الوعي بالمأزق التاريخي. الشعور بالخيبة لا ينجم عن حدث معزول، وإنما عن تراكم طويل من الوعود المكسورة وصور النهوض التي انهارت قبل أن تكتمل. الذروة في هذا السياق تحمل مفارقة قاسية: كلما اتّسع الوعي بالحرية، ازداد الإحساس بثقل القيود. هذا التناقض يغذّي التوتّر الوجودي ويحوّل الذات إلى ساحة صراع بين الإيمان بالإمكان والإقرار بسطوة الواقع. في عمق هذا المقطع يتبدّى سؤال المعنى بوصفه السؤال المركزي الذي تلتفّ حوله كل التفاصيل. ما الذي يتبقّى حين ينكسر الحب، وتتآكل الأوهام، ويتحوّل العمل الثقافي إلى مواجهة مفتوحة مع القمع واليأس؟ السارد لا يقدّم جوابًا جاهزًا، ولا يهرب إلى يقين مريح، وإنما يترك السؤال مفتوحًا بوصفه الجرح الذي يمنح الوعي شرعيته. الذروة هنا لا تُفهم كقمة استقرار، وإنما كنقطة عري كامل، حيث يسقط الغطاء عن الذات وتجد نفسها أمام حقيقتها دون وسائط. مع هذا الانكشاف تظهر الكتابة بوصفها الفعل الوحيد القادر على جمع الشظايا دون ادّعاء إصلاحها. النص لا يداوي، ولا يعد بالخلاص، غير أنه يمنح الألم صيغة قابلة للنطق، ويحوّل الصمت الثقيل إلى خطاب يضجّ بالتوتر والأسئلة. هكذا تتشكّل الذروة في هذا المقطع لا كذروة أحداث، وإنما كذروة وعي مأزوم يكتشف في لحظة واحدة عمق هشاشته وضرورة مقاومته في آن واحد.

تحمل مرحلة “بداية النضوج” دلالة لا تُروى الحكاية بوصفها انتقالًا وظيفيًّا فحسب، إذ تتكشف فيه طبقات التحول الوجودي من الفرد العامل في فضاء الإعلام إلى الذات التي تختار الانغراس في تربة الجماعة. العرض الوظيفي لا يأتي بوصفه مكسبًا مهنيًّا محضًا، إنما يظهر كاختبار للقيم التي تتنازع السارد بين الإنجاز الشخصي ومسؤولية العائلة، بين وهج المدينة وإيقاع القرية، بين الخارج الذي يمنح الاعتراف والداخل الذي يطالب بالرعاية. هنا يتبدّى النضوج بوصفه انتقالًا من مركز الأنا إلى أفق الآخر، ومن منطق الطموح الفردي إلى منطق الرعاية والمسؤولية. الساعات الطويلة في يافا ليست مجرد تفصيل زمني، إنها صورة مكثفة لزمن يسلب العلاقة الحميمية معناها البسيط، ويحوّل الحضور الأبوي إلى وعد مؤجل. أمام هذا التمزق الزمني، يختار السارد العائلة معيارًا أعلى، لا بوصفها ملاذًا عاطفيًّا فقط، إنما باعتبارها مشروعًا أخلاقيًّا يتطلب التنازل بوصفه شرطًا للنمو. هكذا يتشكل النضوج بوصفه فعل اختيار موجع، لا انتصارًا صافيا. الاستقالة من العمل الإعلامي تتخذ معنى القطيعة مع مسار كان ناجحًا، لصالح مسار محفوف بالمخاطر في بنية سياسية لا ترحب بالفعل التربوي المستقل. حين يبدأ مشروعه في التربية، تتكوّن الذات هنا بوصفها ذاتًا تخطيطية، ترسم الأهداف وتؤمن بفكرة الارتقاء عبر التعليم والثقافة. غير أن البرقيات والملاحقات الإدارية تضع هذا الحلم في مواجهة عنيفة مع واقع تحكمه اعتبارات القوة والريبة السياسية. النضوج يتجلى هنا في تحمّل الخسارة دون الانسحاب من الفعل، إذ يتحول العمل التطوعي إلى صيغة مقاومة صامتة، ويغدو الإقصاء من الوظيفة لحظة كاشفة لهشاشة المكسب المؤسسي أمام صلابة القناعة. عند انتقاله إلى العمل الثقافي مع الشباب، تنقلب الخسارة إلى طاقة تأسيسىة. (الموسيقى والدبكة والجوقة ليست أنشطة ترفيهية)، إنها أدوات لإعادة بناء الجماعة من الداخل، وصياغة هوية تتحرك بين التراث والانفتاح. الوعد بالسفر يصبح أفقًا تخييليًّا يحرّك الرغبة ويصنع الانتماء، ويتحول الإبداع إلى جسر بين المحلية والعالم. هنا يتجسد الوعي التربوي في فهم عميق للدافعية بوصفها محركًا للمعرفة، لا مجرد حافز عابر. تتسع الرؤية أكثر حين يُربط السفر بالاستقلالية وتكوين الشخصية، فالتجربة الخارجية تُفهم بوصفها ساحة اختبار للذات خارج حماية العائلة، بما يراكم خبرة لا تمنحها المدرسة وحدها. في هذا السياق يظهر وعي نقدي بالعصر الرقمي، حيث تتحول المعرفة إلى مادة فائضة، ويتطلب النضوج امتلاك مهارات الاختيار والتفكير خارج الأطر الجاهزة.  ليتضح أن “بداية النضوج” ليست لحظة هادئة، إنها سلسلة من الصدمات، من التنازلات، من الرهانات التي تخفق وتنهض من جديد. النضوج يظهر بوصفه قدرة على تحويل الإقصاء إلى تأسيس، وتحويل الخسارة إلى معنى، وتحويل الفرد من متلقّ للفرص إلى صانع لمسارات بديلة داخل واقع معقّد ومفتوح على التحدي الدائم.

في مرحلة “بداية الولادة” يستعيد احسان/ السارد، لحظة الولادة بوصفها نقطة تقاطع بين كونيّ متسع وحميميّ ضيق، حيث يتحول السرد من تأمل في الزمن والدوران واللانهاية إلى ممارسة أبوّة تُعاد صياغتها بلغة الفيزياء والفلك والشعر والسياسة معًا. حضور الطفل في المشهد لا يرد بوصفه كائنًا بيولوجيًّا فقط، إنما كذريعة أنطولوجية لإعادة طرح سؤال الوجود من أوله: هل نسكن زمنًا دائريًّا يعيد إنتاج ذاته، أم مستقيمًا يتجه نحو مصير لا يُرى؟، هذا السؤال لا يأتي تجريديًّا، وإنّما يمر عبر تشبيه الحجر في البئر، وعبر حركة الكواكب، وعبر سرعة الضوء، ما يجعل المعرفة العلمية جزءًا من بناء معنى الحياة لا حاشية عليه. هنا تتأسس فلسفة تجريبية ذاتية، لا تفصل بين المختبر والمهد، ولا بين المجرة وحذاء الطفل الطبي. يتحوّل الزمن من مفهوم فيزيائي إلى اختبار عاطفي؛ يكبر الابن، ويكبر الأب معه، فتفقد الأعمار معناها العددي لتغدو علاقة متبادلة بين وعيين يتشكلان معًا، وباء كورونا في هذا السياق تكشف علامة كونية على هشاشة النظام البشري، إذ تتقاطع ولادة الحياة مع تفشي الموت، في توازٍ قاسٍ يعيد تعريف معنى المسؤولية. السارد لا يكتفي بدور المتلقي، وإنّما يتحول إلى فاعل اجتماعي يشتبك مع الوباء إداريًّا وأخلاقيًّا، ليُظهر كيف يتجسد الوعي الفلسفي في القرار العملي لا في التأمل وحده. السياسة في هذه المرحلة ليست دخيلة على السيرة، وهي امتداد طبيعي لسؤال العدالة الذي بدأ مع سؤال الكون. العنف، الجريمة، تفكك المجتمع، قصور المؤسّسة، كلها تُعرض ضمن منطق السببية التاريخية لا بوصفها انحرافات عرضية. اللغة هنا تجمع بين التحليل الاجتماعي والحسّ المأساوي، حيث يتحول الفرد القاتل إلى عرض لمرض أعمق أصاب البنية الجماعية. الاستشهاد بالشعر في هذا السياق لا يؤدي وظيفة جمالية فقط، إنّما يكشف عن عجز اللغة النثرية وحدها عن احتواء الفجيعة. حضور الموت عبر شيرين أبو عاقلة، ومحمود غنايم، وحنّا أبو حنّا، يقابله حضور الولادة والطفولة والأمل. الشمعة كرمز تتنقل بين الانطفاء والإضاءة، لتغدو استعارة لاقتصاد الوجود القائم على التناوب لا الثبات. هكذا تتشكّل السيرة بوصفها جدلًا دائمًا بين الفقد والاستمرار، بين الخسارة والإصرار على المعنى. الحب الزوجي في الرسالة الواردة لا يأتي استراحة عاطفية من ثقل الواقع، إنما امتداد له في صيغة أخرى. العلاقة هنا تُبنى على الشراكة في القلق والطموح والعمل، لا على التجميل العاطفي وحده. أمومة الزوجة تتحول إلى مصدر تأمل في الخيال والسرد، كأنّ الكتابة نفسها تُورَّث بوصفها طاقة حياة. في المحصلة، هذه المرحلة “بداية الولادة” تعيد تعريف السيرة الذاتية بوصفها نصًّا كونيًّا مصغّرًا، تلتقي فيه الفيزياء بالشعر، والسياسة بالأبوة، والمأساة بالأمل. الذات لا تُكتب باعتبارها مركز العالم، إنّما باعتبارها عقدة في شبكة كبرى من الأزمنة والأحداث والمعاني، حيث يصبح معنى الولادة أكثر اتساعًا من الجسد، ومعنى النهاية أكثر تعقيدًا من الموت.

وفي “نهاية البدايات” تتكثّف السيرة عند ذروة مزدوجة تجمع بين الذاتي والجماعي، حيث يتحوّل القرار الفردي إلى فعل أخلاقي عام، وتغدو الكتابة نفسها أداة مساءلة للضمير في زمن الانهيارات الكبرى. إن “نهاية البدايات” لا تُقرأ بوصفها خاتمة لمسار مهني فقط، وإنما باعتبارها انعطافة وجودية تنتقل فيها الذات من منطق الإنجاز الإداري إلى منطق المجازفة القيمية. السارد لا يسرد حصيلة العمل على هيئة أرقام باردة، وإنما يصوغها كبرهان رمزي على معنى الالتزام، فالمشاريع الثقافية والتعليمية والإغاثية تتحوّل إلى علامات على بناء الإنسان قبل بناء المؤسسات. هنا تظهر فكرة العمل العام كرسالة تتجاوز الوظيفة، وكفعل تأسيسي يتغذّى على الإيمان بالناس لا على حسابات الربح والخسارة. الاستقالة في هذا السياق ليست انسحابا، وإنما تضحية واعية يعاد من خلالها ترتيب العلاقة بين القانون والأخلاق، وبين المنصب والغاية. إن رفض تضارب المصالح يكشف وعيا حداثيا بمفهوم المسؤولية، حيث لا يكفي أن تكون نزيها في الداخل، بل يجب أن تكون كذلك في نظر الجماعة. من هنا تتعالى “لماذا” بوصفها سؤالا فلسفيا لا سياسيا فقط، سؤال عن معنى الفعل وسط عالم مرتبك، وعن جدوى المغامرة في حقل تحكمه المصالح الصلبة. الجواب لا يأتي عبر تبرير نفعي، وإنما عبر خطاب موجّه إلى الابن بوصفه استمرار المعنى، حيث تتحوّل الرسالة التربوية إلى سند أنطولوجي للقرار السياسي. ثم إن الانتقال إلى مشهد الحرب يوسّع الأفق الدلالي للنص، إذ تنفتح السيرة على الفجيعة الجماعية، ويتحوّل الراوي من فاعل محلي إلى شاهد كوني على انكسار المعنى الإنساني. صور الدمار والجوع والأطفال تحت الأنقاض ليست مجرد وصف واقعي، وإنما اختبار للفكرة الأساسية التي قامت عليها التجربة كلّها، فكرة القيمة في عالم يعيد تعريفها بالقوة والنار. هنا تسقط أقنعة الخطاب الحقوقي العالمي، ويتحوّل الإنسان إلى رقم أو صورة عابرة على شاشة، في مقابل ذاكرة الكاتب التي ترفض النسيان وتصرّ على تحويل الألم إلى لغة. التوتر بين السياسة والأدب يتجلّى بوضوح في لجوء السارد إلى القراءة والكتابة كملاذ من الواقع، حيث تصبح الكتب بديلا مؤقتا عن المعنى الضائع، ومحاولة لترميم الذات في مواجهة العجز. نيتشه، أورويل، موراكامي، كلها أسماء تحضر لا كزينة ثقافية، وإنما كدلائل على تشظي العالم، وعلى بحث الذات عن موقعها بين العبث والقوة، بين الفرد والتاريخ. في هذا المستوى تتحوّل القراءة إلى فعل مقاومة صامتة، وإلى إعادة بناء للذات خارج منطق السلاح، أستطيع أن أجزم أن نهاية “نهاية البدايات” لا تقدّم خلاصا جاهزا، وإنما تكرّس حالة اللايقين بوصفها قدرا معرفيا، الذات تعود لتسأل، من أكون بين كل هذه التحوّلات؟ السؤال هنا ليس اعترافا بالضياع فقط، وإنما إعلان عن وعي فلسفي يرى الهوية كمسار مفتوح لا كجوهر مغلق. هكذا تصبح “نهاية البدايات” صيغة مفارِقة للحياة نفسها، حيث تنتهي مرحلة لتبدأ أخرى في ظل عالم لا يمنح ضمانات، غير أن القيمة الوحيدة التي تظل صامدة هي الحرية بوصفها شرط الحب والمعنى والكتابة، حيث لا تُقرأ “نهاية البدايات” في المرحلة الأخير من سباق البدايات باعتبارها إغلاقًا دائريًا لمسار سردي، وإنما كعتبة عبور نحو طور آخر من الوعي والتجربة. فالنهاية هنا لا تؤدّي وظيفة الخاتمة بقدر ما تؤدّي وظيفة إعادة التسمية، إذ يتحوّل ما كان يُحسب بداية إلى مادة تأسيس أولى لمشروع أوسع، أشد نضجًا وأعمق اشتباكًا مع الذات والعالم. بهذه الصيغة، لا يعود النص سيرة مكتفية بذاتها، وإنما مسودة أولى لسيرة أكبر قيد التكوين، سيرة لا تُعنى فقط بما جرى، وإنما بما سيتحوّل إليه ما جرى في أفق الوعي اللاحق.

من هذا المنظور يمكن فهم رواية “هكذا انتهت البداية” بوصفها الجزء الأوّل ( قد تكون ثلاثية احسان موسى أبو غوش) من مشروع روائي محتمل يتجاوز حدود التوثيق الذاتي إلى بناء سردية زمنية متعدّدة الطبقات، تتقدّم فيها التجربة من مستوى التشكل إلى مستوى الفعل المركّب، ومن اختبار الهوية إلى مساءلة أثرها في التاريخ والمجتمع، فـ”نهاية البدايات” هنا ليست وعدًا سرديًا فقط، إنما إعلان ضمني عن انتقال الكاتب من كتابة السيرة كإعادة نظر في الماضي إلى كتابة المسار كرهان على المستقبل. هكذا تغدو النهاية طاقة مفتوحة، لا نقطة سكون، ويغدو النص مؤسِّسًا لمسار لا يدّعي الاكتمال، ويَعد قارئه بمزيد من التحوّل والانكشاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى