العبث في المسرح المغربي .. مأزق الوجود في مسرحية “نشرب إذن”
بقلم الباحث: محمد الوارتي
معلوم أن المسرح مرآة تعكس واقع الانسان وتصوراته عن العالم من حوله، ذلك بفضل قدرته على تجسيد الصراعات الإنسانية و التجارب الحياتية بشكل مباشر. وبه ازداد احتياج الإنسان للمسرح لتمكنه من استكشاف عمق النفس البشرية، وتسليط الضوء على القضايا التي تهمها وتؤرق كيانها. وفي هذا السياق نجد مسرحية “نشرب إذن”، من تأليف الراحل قاسم مطرود، وإخراج الفنان خالد الزويشي وتشخيص ثلة من الممثلين المحترفين، على رأسهم الممثل المقتدر فريد بوزيدي و الفنانة المتألقة نسرين المنجى و الممثل الجميل مراد متوفق، إلى جانب طاقم عمل متمرس، ليقدموا لنا عرضا من طينة العروض التي تعطي فرجة درامية مميزة تفتح شهية المتلقي ونهمه نحو الإبحار في عوالم العمل، انطلاقا من العنوان نفسه الذي يعد عتبة أولى يطأها المتلقي، وعنواننا -نشرب إذن- عدا كونه يشكل حمولة دلالية، ورمزية، فهو قبل ذلك علامة، وإشارة تواصلية، تهبك المؤشرات اللازمة، التي تقربك لما أنت مقدم على مشاهدته. فاستوقفتنا عتبة العمل لبعض الوقت كي نجمع شتات أفكارنا، ونستطيع أن نفترض بأن هذا نخب شيء ما، ونطرح الأسئلة التالية:
هل هو نخب انتصار؟ أم نخب انتشاء؟ أم أن هذا النخب ذاته هو مجاز ساهم في صنعه كل من المؤلف و المخرج؟ لكن مع بداية المسرحية وتوالي المشاهد الواحد تلو الآخر، وتكرار العنوان نفسه كحوار تردد صداه مع الشخصيات، اتضح لنا أن المعنى المراد منه هو نخب شخوص لحياة لا يدرون هل هم منتصرون أم خاسرون فيها، هم فقط ينتشون بآلامهم و آمالهم، مآسيهم و أفراحهم، همومهم و تطلعاتهم، رضاء بواقع أرادوا أن يحيونه، و سخطا على وقائع يعيشونها.
تأخذنا دراما العمل المسرحي المكتسية بطابع التغريب إلى عوالم قريبة للواقع غايتها أن لا نغرق في التعاطف مع الشخصيات أو الأحداث، بل أن نتفاعل معها بعقلانية ونطرح تساؤلات حول القضايا الإنسانية، الاجتماعية، والسياسية التي يقدمها هذا العمل، كل هذا في قالب لعب عبثي لأحداث قد تكون غير منطقية أو ذات طابع سريالي، عكست طبيعة الوجود الإنساني وصراعاته في عالم بلا معنى أو تفسير. هذا الصراع دفع الشخصيات في كثير من الأحيان للتواجد في مواقف سخيفة أو غير عقلانية، أبرز لديها الإحساس بالعجز والفوضى.
وعلى غرار “انتظار غودو” ل”صمويل بيكيت” نجد أن مسرحيتنا “نشرب إذن” قد أعطت لتيمة الانتظار بعدا آخر، بعد فلسفي كوني لكن بفكر عربي محض يلائم متطلبات العصر والأحداث الحالية التي تقع في اواسط الدول العربية، و تسائل فيه هوية الإنسان عموما والعربي خصوصا وتطلعاته نحو تغيير موقعه، في قالب يفيض بالرمزية والإشارات القوية و الصارخة عن مواقف و أفكار تجلت عبر شخصية “الزوج وزوجته” اللذان ينتظران المجهول القادم بحرقة و الذي لم يصل بعد، ومسيرتهما الطويلة من البحث عن الحرية و عن الخلاص و ايجاد معنى الوجود في هذا العالم القاسي والغير مبالي، و الذي يخضعون فيه لسلطة أشياء قد لا يدرون من خلف تدبيرها و يحرك و يصوغ في الخفاء ما يشاء كيفما يشاء، و هذا ما جسده الممثل الذي اختار له المخرج لغة الصمت و الغموض ليعتلي بها صهوة العمل المسرحي.
جاءت سينوغرافيا العمل فاعلة مساهمة في تأتيت فضاء اللعب منذ البداية إلى النهاية، وساعدت الممثلين في الانتقال بين المشاهد المعروضة بكل سلاسة وألفة، إضافة إلى دورها البارز في خلق أفضية درامية متخيلة. و كان من أهم عناصر سينوغرافيا العمل قطع الديكور، التي اختزلت في مقعد خشبي وحقيبتان، وكما يعتبر “باتريس بافيس” أن الديكور لا يقتصر على كونه خلفية مرئية بل هو عنصر فاعل في سرد العمل المسرحي، وهذا ما كان عليه ديكور هذا العمل، حيث دفعنا لنتساءل بين الفينة و الأخرى، عن أي زمان و أي مكان نتحدث هنا؟ هل هاته باحة استراحة أم انتظار؟ أم أنها محطة قطار أم هي سجن؟
يجيبنا كل مشهد على حدة ونجيب عبر المشاهد أنفسنا أن هذا الفضاء برزخ خاص حيث يخيم الانتظار على الزمكان وينفي وجودهما.
لم يقتصر مخرج العمل على هذه المادة الفكرية الدسمة المنطوقة بل أبى إلا أن يجعل كل العناصر في تداخلها مع بعضها البعض تحرك وعي المتلقي و تثير انتباهه، ودهشته، واختار في هذا مجموعة من الإكسسوارات التي تفاجئ المتلقي بين الفينة و الأخرى بين دمى جثث تتساقط من السماء، و بالونات كأحلام تطير عاليا، وقنابل تدخ الماء لغسل الإنسان من دناسة ما يعيش، وغيرها الكثير كانت مساهمة في خلق أحداث و تصعيد مستوى الصراع في دراما العمل.
إضافة إلى أنه كانت هنالك اختيارات عدة في صالة العرض بخصوص الإنارة و أيضا التصور الذي وضعه المخرج مع مصمم الإنارة، حيث كانت في العرض دراماتورجيا خاصة بالإضاءة الموضوعة لكل مشهد وحدث و زاوية مقاربة أحاسيس الشخصيات وغيرها، فكانت هي الأخرى لعبا خاصا تكامل مع المؤثرات الصوتية و الموسيقى بالخصوص التي كانت قوة فاعلة مساعدة في العمل في علاقتها بباقي مكونات العمل لخلق أيقونات جمالية لا متناهية.
كل هذه العناصر خدمت لعب الممثلين، فكان لعبهم حرفيا مضبوطا لا يمرون من حالة إلى أخرى إلا و هم ضابطين لإيقاع العرض و الانفعالات التي ستصدر مع كل مأزق و وضع. كل تفصيل من هذه التفاصيل ضبطها الممثلون بأدائهم الرائع، لأنهم يمتلكون أجسادا معبرة وحضورا و مرونة جميلة خدمت ايقاع العمل، وهذا ما شهد به كل من شاهد العمل.
لنسمع في الأخير صرخة مدوية و هي صرخة قضية انسانية عبر عنها المخرج باختياره لقصيدة الشاعر “مظفر النواب” “القدس عروس عروبتكم”.وبها اكتملت اللوحات والأيقونات الفكرية والجمالية المعروضة في هذا العمل.
ختاما يمكن أن نقول أن التأثير الفلسفي الوجودي واضح جدا في هذه العمل، حيث يشعر الأفراد بأن حياتهم خالية من المعنى أو التوجيه في مسار واضح المعالم، لكن العمل ليس مجرد تعبير عن الفوضى بطريقة عبثية، بل هو استجابة فلسفية للعالم اليوم، لإعادة صياغة النظرة في واقع الإنسان وكل ما يحيط به من أيديولوجيات وسياسات غاشمة واعتبارات عرقية واجتماعية وغيرها. فكان الهدف من العمل ليس تقديم حلول أو رسائل واضحة، بل إثارة التأمل في حالة الإنسان، وتسليط الضوء على هذا المأزق الوجودي الذي نعيش